فى مطلع الشهر الجارى طرحت شركة البث الترفيهى الأمريكية «نتفليكس» الإعلان الترويجى الرسمى للموسم الخامس والأخير من المسلسل الإسبانى الشهير (بيت من ورق)، La casa de papel بعد أن أعلنت أن صناع العمل شرعوا بالفعل فى تصوير الموسم الجديد فى 3 أغسطس، وذلك من دون الإعلان عن موعد رسمى للبث للجمهور. الأسبوع الماضى أيضًا، طرحت «نتفليكس» الموسم الخامس من مسلسل الفانتازيا (لوسيفر، Lucifer)، والذى ظن الجمهور أنه الموسم الأخير إلا أن «نتفليكس» استغلت نجاحه الشديد لتعلن تجديد المسلسل إلى موسم إضافى سيكون الأخير وسيطرح رسميًا فى 2021. وفى مايو الماضى، طرحت «نتفليكس» الموسم الأخير من المسلسل الكوميدى (كيمى شميت القوية، Unbreakable Kimmy Schmidt)، والذى فاجأ الجمهور حينما شاهدو النجم البريطانى «دانيال رادكليف» متصدرًا قائمة الأبطال، وهو ما رفع عدد مشاهدات المسلسل بنسبة كبيرة. المسلسلات الثلاثة من ضمن أعمال شتى شكّلت على مدار السنوات الأخيرة ظاهرة عكست مدى قوة ونفوذ «نتفليكس» فى عالم صناعة الترفيه سواء على المستوى المحلى فى الولاياتالمتحدة، أو على المستوى الدولى، وضربت مثالًا على أحد أسلحتها القوية فى ترسيخ هذا النفوذ، ألا وهو شراء حقوق المسلسلات والأعمال الدرامية من شبكات تليفزيونية أخرى بعد إلغائها نتيجة فشلها ونتيجة عوامل إنتاجية أخرى وظروف قاهرة كجائحة فيروس كورونا. إن «نتفليكس» تعتبر تطبيقًا نموذجيًا للعقيدة الأساسية للرأس المالية، النمو الفائق وزيادة الأرباح وإعادة استثمار أرباح الإنتاج من خلال الإنتاج تحت مظلة السوق الحرة، لذلك فهى الآن فى طريقها لأن تصبح إمبراطورية عملاقة ولن نستغرب أن تفوق قوتها الإنتاجية ورأس مالها، قوة هوليوود نفسها فى المستقبل، وهو أمر يثير تخوف أبناء المدرسة الكلاسيكية للسينما الذين يرون أن «نتفليكس» وخدمات البث الترفيهى المنافسة لها مثل العملاقة «إتش.بي.أو» و«ديزنى بلس» و«أمازون برايم» تشكل تهديدًا على مستقبل السينما. صحيح أن «نتفليكس» شأنها فى ذلك شأن جميع الشركات العملاقة فى العالم، والتى مبدأها الأساسى أن النمو الاقتصادى هو الصالح الأسمى، إلا أنها تتميز عن غيرها فى كونها تطبق بشكل نموذجى القاعدة التى تعتبر جوهر الرأس مالية، ألا وهى الثقة فى المستقبل والاستغلال المحض للنزعة الاستهلاكية لدى الناس. فهى لا تخشى أن تراهن على الاستثمار فى مشاريع تبدو للآخرين فاشلة ثم سرعان ما يلوح لهم عكس ذلك، بل لا تخشى أن تلغى مشاريع ناجحة بالفعل، وتدرك جيدًا أننا مستهلكون جيدون نشترى ما لا نحتاجه، وبفضل هذا أصبحت الكماليات ضروريات. ناهيك عن أنها تدرس جيدًا سمات وعادات وتقاليد المجتمع الذى تعرض فيه منتجاتها. لاح هذا جليًا طيلة العام الجارى فى ظل انتشار فيروس كورونا وفرض إجراءات الحجر الصحى فى جميع دول العالم، فللمرة الأولى فى أبريل الماضى ارتفعت قيمة رأس مال «نتفليكس» لتصبح أعلى من قيمة شركة «ديزنى»، وفى يوليو الماضى، انضم أكثر من 10 ملايين شخص إلى خدمة البث المدفوعة التى تقدمها «نتفليكس» ليكسر إجمالى المشتركين فى الخدمة حاجز ال200 مليون شخص، فيما حققت الشركة أكثر من 6 مليارات دولار فى فترة شهر واحدٍ من أبريل إلى يونيو 2020، وقبلها فى مارس كانت الأرباح قد وصلت أكثر من 5 مليارات دولار وارتفعت نسبة المشاهدات بشكل جنونى إلى 109 %. فعلى سبيل المثال، فى حالة (La casa de papel)، رأت فيه «نتفليكس» فرصة نجاح رغم فشله فى بلده الأصلى، إسبانيا، فاستحوذت عليه من شركة «أنتينا» الإسبانية، فى 2017 بمبلغ رخيص للغاية، ثم أعادت هيكلة خطة تسويقه لتصبح عالمية ورفعت ميزانيته بل وأعادت تسميته ليصبح(Money Heist). عكست تلك الخطوة استراتيجية «نتفليكس» الذكية فى الوصول إلى جميع مشاهديها فى جميع أنحاء العالم، ذلك لأن الإنجليزية هى اللغة الأكثر انتشارًا فى العالم، وبالتالى أصبح المسلسل أحد أنجح المسلسلات والأكثر مشاهدة فى تاريخ الشركة، والأكثر مشاهدة فى فرنسا وإيطاليا والبرتغال والبرازيل والأرجنتين، بل ودخل ضمن الثقافة الشعبية للبلدان اللاتينية، وأصبح له قاعدة جماهيرية واسعة فى الشرق الأوسط. الشيء نفسه حدث مع(Lucifer)، الذى كان يعرض على شبكة «فوكس» فى الفترة ما بين 2016 وحتى 2018 وكان نجاحه متوسطًا خاصة أن حلقات الموسم الواحد كانت عديدة ووصلت فى الموسم الثالث إلى 26 حلقة، ما جعل شعبيته تنخفض لدى الجمهور الأمر الذى دفع «فوكس» لإلغاء المسلسل خاصة مع وجود دعوات بين المحافظين الأمريكيين لإلغاء المسلسل بدعاوى أنه يتعارض مع القيم المحافظة للمجتمع الأمريكي! لكن فى 2019 قررت شركة «ذا سى دبليو» المملوكة لشركة «وارنر بروس»، استضافة شخصية «لوسفير» ضمن حلقة تليفزيونية ضخمة تضم شخصيات عديدة من القصص المصورة/الكوميكس التابعة لشركة «DC» و«وارنر بروس»، وقد حقق هذا صدى واسعا لدى جمهور الشخصية الذى أحبها بفضل أداء الممثل البريطانى «توم إليس». فدشن عشاق الشخصية و«إليس» عبر مواقع التواصل الاجتماعى حملة ضخمة لإنقاذ المسلسل، وسرعان ما أعلنت «نتفليكس» أنها اشترت حقوق المسلسل من «فوكس» و«وارنر»، ولا يزال الموسم الجديد حتى الآن الأكثر مشاهدة على «نتفليكس» محققًا أرباحا خيالية. كررت «نتفليكس» هذا الرهان منذ أن بدأت فى صنع محتواها الأصلى عام 2013، وذلك مع مسلسلات شتى وجميعها حقق شعبية كبيرة، بل نراها كثيرًا ما تفعل العكس تمامًا وتلغى مسلسلات ناجحة جدًا بعد عرض مواسم كثيرة منها مثل (Daredevil وMindhunter)، ذلك لأن حسابات الشركة لا تتوقف على المسلسلات بقدر ما تتعلق بالبيانات التحليلية، التى تعتبر معيارًا علميا ومنهجيا لقياس نزعتنا الاستهلاكية، فمن خلال هذه الآلية تتنبأ الشركة بعدد الراغبين فى مشاهدة أعمالها الجديدة. ففى تقرير نشرته مجلة «فوربس» الأمريكية العام الماضى، تبين أن 16 % من مشتركى «نتفليكس» شاهدوا حلقة واحدة على الأقل من مسلسل (بيت البطاقات House of Cards) خلال ال24 ساعة التى تلت طرح الموسم الثاني. منذ أعوام قليلة، دخلت «نتفليكس» بقوة إلى السوق العربية، وفى أقل من سنة واحدة تعاقدت على إنتاج العديد من المسلسلات العربية واستقطبت نجومًا كبارًا الأمر الذى جعل شركات الإنتاج تحاكى تجربتها فى خدمة البث الإلكترونى، إلا أن ال«خلطة» التى تنفرد بها «نتفليكس» جعلتها تتربع فى هذا المجال داخل الشرق الأوسط وتغير جذريًا من شكل الدراما العربية سواء على مستوى الصناعة أو الإبداع. مؤخرًا رأينا «نتفليكس» تتعاقد مع المخرج «عمرو سلامة» والنجم «أحمد أمين» على إنتاج مسلسل (ما وراء الطبيعة) المقتبس عن سلسلة قصص بنفس الاسم للأديب الراحل «أحمد خالد توفيق» والذى يشتهر ب«عراب الشباب»، فقد أدركت «نتفليكس» جيدًا مدى شعبيته لدى حتى الشباب الذى لا يقرأ، وقررت إنتاج مسلسل يحمل اسمه واسم «أمين» الذى يعتبر هو الآخر أحد أبرز الوجوه الشابة الناجحة فى الكوميديا. كما أعلنت الشركة، وبصورة غير متوقعة، أنها تحضر لمجموعة حلقات حصرية لها بطلتها العروس التى دخلت بيوت المصريين من أوسع أبوابها، «أبلة فاهيتا»، ورغم أنها لم تحدد موعد طرح البرنامج، إلا أن مجرد إعلان هذا الأمر، رفع من أسهم الشركة بصورة قياسية فى مصر والوطن العربي. ومنذ أسبوعين فجرت «نتفليكس» مفاجأة مدوية، لكنها ليست مستغربة منها، حينما أعلنت أن «عمرو دياب» سيشارك فى مسلسل من إنتاجها وسيطرح رسميًا عام 2021، وهو ما يعتبر حدثًا استثنائيًا قلما تشهده الدراما المصرية والعربية، ذلك أنها المرة الأولى التى يظهر فيها الهضبة فى عمل درامى منذ حوالى 30 عامًا. أطلقت وسائل الإعلام العالمية على هذه ال«خلطة» اسم «تأثير نتفليكس» The Netflix Effect»، الذى بدأ أصلًا مع ظهور «نتفليكس» كقوة سوقية ناشئة فى 2008، ومع خطتها الذكية لشراء حقوق البث الإلكترونى لأفلام شهيرة من شركات عملاقة مثل «ديزنى» و«فوكس» وذلك بأسعار رخيصة للغاية فى مقابل جودة فائقة وسهولة وصول للمستخدم، وهو ما جعل كبار الشركات الإعلامية تهرول لعرض أعمالها على «نتفليكس».