لأننا في «روزاليوسف» ننحاز دائمًا إلى التنوير ضد التطرف.. وإلى التفكير ضد التكفير.. فإن وسيلتنا الأولى لتوضيح حقيقة أفكار «د.فرج فودة».. ولماذا قتلوه؟ كانت في ترك مساحة الرد لفرج فودة نفسه، إذ إنه كان خير مدافع في وجه حملات التشويه التي تنال من مشروعه الفكري.. رغم كل المحاولات التي سعت (عن عمد أو جهل) نحو تسطيح أفكاره وتصويرها على أنها ضمن الحرب المزعومة على الإسلام. قبل 35 عامًا كتب «فودة» دراسة مفصلة بعنوان «التطرف السياسي الديني في مصر» يرصد من خلالها أسباب المشكلة.. ويحلل المناخ الذي أتاح الفرصة لازدهار تيارات الإسلام السياسي.. ورغم أن الظروف وقتها كانت تختلف كثيرًا عن حاضرنا من الناحية السياسية (إذ كانت الدولة - وقتئذ- دولة الحزب والرأي الواحد)، وثقافيًا (إذ كان تيار الإسلام السياسي، حينها، فى أوج عنفوانه وغروره)؛ فإننا نعيد نشر الدراسة دون تدخل منا؛ لأن قراءتها في ضوء عصرها، وبالمفردات نفسها كانت كاشفة في حد ذاتها عن شجاعة وجرأة رجل قرر أن يفكر في وقت كان التفكير فيه جريمة، يمكن أن تطيح بأكبر الرؤوس.
روزاليوسف
التطرف السياسي الديني في مصر!
تحتل مشكلة التطرف السياسي الديني موقعا متفردا علي رأس سلم أولويات مشاكل المجتمع المصري الراهن للأسباب التالية:
1 - أنها مشكلة آنية. بمعني أنها مطروحة حاليا، وبسخونة زائدة ومتزايدة.
2 - أنها تتميز بالشمولية، حيث لا تنصب علي قطاع معين أو جانب من جوانب الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية بل تتعدي ذلك كله، أو إذا شئنا الدقة تشمل ذلك كله وتستهدف دعوة واضحة لتغيير النظام السياسي للدولة، إما بالعنف في مذهب بعض التيارات أو بالسلم في مذهب بعضها الآخر، أو بهما معا كما يحدث في مصر.
3 - أنها محصلة لأسباب متعددة، يصعب حصرها ويصعب أيضا الاتفاق عليها، بعضها تاريخي وبعضها يتعلق بمظاهر أزمة حالية لها أوجه متعددة ومتشابكة، الأمر الذي يستحيل معه تصور إمكانية حل هذه المشكلة في زمن قصير بمواجهة الأسباب جميعها وعلاجها بصورة حاسمة.
4 - أنها تقود المجتمع المصري إلي مواقف المواجهة مع النفس وهو أمر لا يقبله العقل المصري بسهولة والمقصود بالمواجهة مع النفس الاعتراف بحجم المشكلة والإعلان الصريح عن مواقف محددة، والدعوة السافرة لما هو مرغوب والإنكار الواضح لما هو مرفوض، والاعتراف الصادق ببعض المشاكل (الحساسة) والإشارة دون غموض أو لبس إلي ما يتهدد المجتمع من أخطار حقيقية، وهي كلها أمور لا تتناسق مع ما درج عليه الرأى العام من رفع شعار ليس في الإمكان أحسن مما كان.
5 - أنها ليست مشكلة أو قضية محلية خالصة، بل هي قضية شرق أوسطية بتكرار مظاهرها أو ظواهرها في بلدان الشرق الأوسط كلها، وهي قضية تثير كثيرًا من الشكوك حول تدخل عوامل أو قوي إقليمية أو عالمية سواء في إثارتها أو محاولة استغلالها أو الاستفادة من نتائجها المحتملة.
المبحث الأول
المشكلة (تعريفها - طبيعتها)
1 - تعريف المشكلة: يشكل تعريف المشكلة نقطة البدء في الحل، والواضح أن تعريف هذه المشكلة قضية خلافية.
(أ) التعريف السائد:
ينطلق التعريف السائد من وجهة نظر «زمنية» ربما لكون الدولة ممثلة للطرف الآخر في مواجهة التطرف.
وربما لسيادة المفهوم الأمني علي قطاعات الإعلام أو الفكر السياسي للحزب الحاكم، الأمر الذي ترتب عليه تعريف المشكلة بأنها (استخدام التيارات السياسية الدينية للعنف في محاولة فرض الرأى، وتهديدها للنظام العام بترويج فكر مناهض للسلطة الحاكمة مضمونه خروج هذه السلطة عن صحيح الدين).
(ب) تعريف آخر:
يتبني الكاتب تعريف المشكلة بأنها (طرح قضية سياسية شديدة التخلف والغموض من خلال منطق ديني شديد القبول والوضوح)، وبوضوح أكثر فإن المشكلة تتمثل في أن الطرح الديني لقضية تطبيق الشريعة الإسلامية يحتوي ضمنا علي هدف سياسي يتمثل في تحويل مصر إلي دولة دينية يحكمها نظام شبيه بنظام الخلافة الإسلامية، مع ما يستتبع ذلك من تغييرات جذرية في هيكل الدولة وبنيانها، وأن الطرح المعلن واضح ويحظي بالقبول، بينما الهدف المستتر علي الرغم من غموضه وخطورته لا يجد من يتصدي له بالعرض أو التفنيد.
ويترتب علي هذا التعريف تحديد عناصر المشكلة فيما يلي:
1 - تعاطف الشعب المصري المتدين بطبعه مع هذه الدعوة الدينية المعلنة مع جهله الكامل بالأبعاد السياسية للدعوة.
2 - ترتب علي (الطرح الديني) دخول الدولة في (حوار ديني) الغلبة فيه للتطرف نتيجة لعدم إيمان الكثيرين بصدق دفاع رجال الدين الرسميين لشبهة تعلقهم بأهداف دنيوية أو انحيازهم للسلطة في كل الأحوال، أو نتيجة لضعف هذا الدفاع في مواجهة منطق متماسك.
3 - نجاح المتطرفين في استقطاب قطاعات كبيرة ومتزايدة من الشباب وإقناعهم بمنطق فكرى ديني متكامل ومنغلق وتشكيلهم تنظيمات في مجموعات صغيرة تدين بولاء تنظيمي مطلق لقادتها من الأمراء، وتنمية نوازع التمرد علي المجتمع لأسباب اقتصادية واجتماعية إلي درجة إحداث فصام حقيقي بينهم وبين المجتمع، مع التركيز علي المظاهر الشكلية مثل الزى وأسلوب الحياة، وإطلاق الأسماء السلفية، والعزلة في المساجد أو الصحراء، للتأكيد علي الفصام والتهيئة لنوازع العنف، مع فشل التيارات السياسية المناهضة في التأثير علي قطاع الشباب بدرجات تتراوح بين الفشل المطلق للاتجاهات الليبرالية والفشل النسبي للاتجاهات اليسارية.
ويلاحظ هنا الربط بين نجاح المتطرفين في قطاع الشباب وبين تعريف المشكلة، حيث يتم الاستقطاب علي أساس استغلال المشاعر الدينية في تنظير الرفض لما هو قائم، ثم توجيه الشباب إلي التغيير كهدف وحيد، مع تبني العنف كأسلوب لا بديل له مع بحث النتائج المترتبة علي ذلك، وكلها نتائج سياسية يتم إجمالها تحت مسميات عامة من نوع (الحاكمية لله) أو (الحكم بما أنزل الله) وهو ما أشار إليه التعريف - قضية دينية واضحة وأهداف سياسية مجهلة.
4 - انسياق الأحزاب السياسية، حتي الحزب الحاكم الذي تهدده هذه الظاهرة بصورة مباشرة وحتي الأحزاب علمانية الفكر مثل الوفد والتجمع، وراء رفع الشعارات الدينية سعيا وراء الأصوات الانتخابية، ومن الأمثلة الواضحة علي ذلك تصريح رئيس حزب الوفد لبعض ناقديه في تحالفه مع الإخوان المسلمين بقوله (ماذا أفعل وجميع انتخابات النقابات والاتحادات الطلابية يكسبها التيار الإسلامي) وهنا يظهر عنصر جديد من عناصر المشكلة هو تبني الشرعية لمطالب الخارجين علي الشرعية.
2 - طبيعة المشكلة
يختلف المفكرون حول طبيعة المشكلة أو بمعني أدق ينقسمون وفقا للزاوية التي ينظرون منها إلي المشكلة إلي خمس مجموعات:
(1) هي مشكلة تشريعية:
يري أصحاب هذا التصور أن المشكلة ذات طبيعة تشريعية وأنها تنحصر في استبدال بعض القوانين الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية بقوانين أخري مستمدة منها، ويتراوح المؤيدون للتغيير بين ضرورة الإسراع بالتغيير الفوري أو ضرورة الإبطاء وهو ما يطلقون عليه اسم التدرج، بينما يثير المعارضون عديدا من الحجج منها أن البدء يكون بتكوين المجتمع المسلم، ومنها أن المؤيدين يخلطون بين الفقه والشريعة، ومنها الاختلاف حول عدد الحدود وحول مصدرها وهل يقتصر علي النص القرآنى أو يمتد إلي السنة القولية أو الفعلية أو ما طبقه الخلفاء الراشدون، ويصل بعضهم إلي القول بأن ما هو مطبق حاليا مطابق في مجمله بل وفي تفصيلاته للشريعة الإسلامية بمفهومها الصحيح وأنه لا حاجة لتعديل تشريعي.
(ب) هي مشكلة دينية:
يري أصحاب هذا التصور أن المشكلة ذات طبيعة دينية بحتة ويتراوح المؤيدون بين الدعوة لتطبيق الشريعة (استكمالا للدين) وبين اعتبار الجهاد فريضة، أو اعتبار الخلافة ركنًا دينيًا، وفي كل الأحوال ينطلقون من مفهوم أن الإسلام دين ودولة مع ضيق أو اتساع في تصور حدود (الإسلام/ الدولة) غير محدود خارج نطاق العموميات وأن تعطيل النصوص القرآنية تحقيقا لمصلحة أو اتقاء لضرر قاعدة ثابتة منذ عهد الرسول، وأن التوسع المحدود في تطبيق هذه القاعدة في عصرنا الحديث له ما يبرره بل ويبرر استمراره دون أن ينقص هذا من إسلام المسلم أو أن ينقص من هيبة الإسلام وقدسيته والالتزام به.
(ج) هي مشكلة هوية:
يري أصحاب هذا التصور أن المشكلة ذات طبيعة تتعلق بالهوية، ويري المؤيدون أن الهوية الإسلامية تمثل الحل الصحيح في مواجهة الحضارة المعاصرة غريبة السمات والجذور، وأن إحياء هذه الهوية يمثل إحياء لجذور قادرة علي إفراز حضارة معاصرة لها ارتباط حقيقي بالأرض والتراث وطبيعة الشعوب، وأن الإسلام قد تعدي دوره كدين إلي دور أوسع ثقافيا وحضاريا وأن ما يترتب علي إحياء الهوية الإسلامية من قيام الرابطة الإسلامية ممكن ومطلوب في مواجهة صراع القوتين الأعظم الذي يسيطر علي العالم الآن.
ويتصدي المعارضون بأن الهوية الوطنية هي الهوية الوحيدة المقبولة من الجميع، وأن هذا الحوار يمكن أن يطرح في المجتمعات التي لا توجد بها أقليات غير مسلمة ولم تتبلور فيها الشخصية الوطنية الإقليمية نتيجة صراع فكرى ونضالي كما حدث في مصر ويضيفون إلي ذلك كثيرا من الحجج والتحفظات المناهضة.
(د) هي مشكلة حضارية:
ينظر أصحاب هذا التصور للمشكلة من زاوية حضارية، ويري المؤيدون إمكانية الفصل بين جانبين من جوانب الحضارة الغربية، الجانب الأول منهما هو الجانب الثقافي، والجانب الثاني يتمثل فيما أفرزته هذه الحضارة من اختراعات مادية، وعلي حين يرفضون الجانب الأول، يتصورون إمكانية المواءمة بين الحد الأدني الضرورى من الجانب الثاني وبين استعادة كاملة للواقع الحضاري لمجتمعات الصدر الأول في الإسلام فيما يتعلق بالفكر والسلوك ومنابع الثقافة وأنه حتي لو كانت النتيجة مجتمعا أقل تقدما بمقاييس الغرب فإنه سوف يكون مجتمعا أكثر تماسكًا وسعادة واقترابا من الطبيعة الإنسانية، ويري المعارضون أن منهج المؤيدين لا يزيد عن كونه تعبيرا عن العجز عن مواجهة السباق الحضاري القائم في عالم اليوم، وأنه هروب من المواجهة الحضارية إلي بحث عن فردوس مفقود ويتزيد البعض منهم بالقول بأن القراءة المتأنية والواعية للتاريخ تثبت أنه لم يكن كذلك بأية حال. (ه) هي مشكلة سياسية:
يري أصحاب هذا التصور أن الطبيعة السياسية للمشكلة هي الأساس، ويتبني المؤيدون منطق الوصول للحكم إما عنوة أو بالأساليب الديمقراطية لإحداث تغيير جذري في شكل الدولة ونظام الحكم علي أساس أن القرآن هو الدستور وأن الحاكمية لله، وعلي هذا الأساس يرفضون أن يوكل التشريع للبشر ويرفضون أيضا الديمقراطية القائمة علي مفهوم حكم الأغلبية. ويري المعارضون أنه إذا كان من حق هذه الجماعة السياسية أن تسعي للوصول إلي الحكم فإن عليها أن تطرح برنامجا سياسيا واضحا هو ما لم يحدث، وأن تلتزم بالشرعية وهو ما لم يتحقق، ويتبني الكاتب وجهة نظر المعارضين ويري أن المشكلة ذات طبيعة سياسية أساسا وأن الجوانب التشريعية أو الدينية أو غيرها إنما تمثل تنويعات علي نغم أساسي في معزوفة ذات طابع سياسي شديد الوضوح والتمييز.
3 - النتائج:
(أ) يمثل تعريف المشكلة والتعرف علي طبيعتها نقطة البدء في الحل.
(ب) تتبني الدولة تعريف المشكلة بأنها ذات طبيعة دينية وقد ترتب علي تبني هذا المنهج دخول الدولة في حوار ديني مع الاتجاه السياسي والديني المتطرف، رفع فيه كل طرف شعار (نحن أصح إسلاما) ويري الكاتب أن المعركة بهذه الصورة خاسرة تماما وأن المتطرفين قد نجحوا بذلك في نقل المعركة إلي ساحة هم فرسانها.
(ج) يتبني الكاتب تعريف المشكلة بأنها الطرح الديني لقضية سياسية، مؤكدا علي الطبيعة السياسية للمشكلة ويري أن المواجهة يجب أن تكون ذات طابع سياسي بحت، وأنه إذا كان الطرح الديني للقضايا السياسية مقصودا من المتطرفين فإن دخول الدولة في حوار ديني بحت إنما يمثل نجاحا لا شك فيه لهم واستجابة غير مفهومة من الدولة لهدف أساسي من أهدافهم.
المبحث الثاني
الواقع (الإيجابيات - السلبيات)
1 - مقدمة:
هذه محاولة للتعرف علي الواقع المصري الحالي فيما يتعلق بهذه المشكلة لإيجابياته وسلبياته من وجهة نظر محايدة بقدر الإمكان.
2 - إيجابيات الواقع الحالي:
(أ) تفتت التيار السياسي الإسلامي إلي ثلاثة تيارات سياسية متباينة هي التيار التقليدي والتيار الثورى (راجع الفصل الخامس من كتاب «قبل السقوط» للمؤلف) وعدم تجانس هذه التيارات سواء في الفكر أو أسلوب العمل.
(ب) افتقاد التيار السياسي الإسلامي بفصائله الثلاثة للقيادة الإسلامية الواحدة، وبمعني آخر فإنه علي المستوي العام يفتقد شخصية قيادية من نوع حسن البنا، الذي يرضي المتطرف والمعتدل علي حد سواء والذي يستطيع أن يجمع تحت رايته الهضيبي والسندي في آن واحد (الفكر الهادئ والمسلح معا) والذي يحظي بالقبول الشعبي والتنظيمي في آن واحد، الذي يستطيع أن يصل بالتيارات الثلاثة إلي حد أدني من الاتفاق في الفكر والتنسيق في الفعل وعدم وجود هذه الشخصية القيادية بجانب كونه مصادفة سعيدة، إلا أنه أيضا مسألة وقت لكنه يمثل حاليا جانبا إيجابيا.
(ج) عدم تمتع أى قيادة من القيادات الثلاث للتيارات السياسية الإسلامية بقبول شعبي عام يصدق هذا علي عمر عبدالرحمن (التيار الثوري) كما يصدق علي عمر التلمساني (التيار التقليدي) وبمعني آخر فإن القبول بكل من هذه القيادات لا يزيد عن كونه قبولا تنظيميا داخليا، ويصدق ذلك أيضا علي القيادات المرشحة لخلافة القيادات الحالية لهذه التيارات «الزمر» في الثوري و«شادي» في التقليدي.
(د) عدم اتجاه القيادات الإسلامية التي تحظي بقبول شعبي واسع (ونموذجنا الواضح يتمثل في الشيخ الشعراوي وبدرجة أقل بكثير في الشيخ كشك) إلي العمل السياسي التنظيمي وإمكانية التوصل إلي مساحة واسعة من (الرسمي) معها (قبول الشعراوي للوزارة وقبول كشك للكتابة في صحيفة اللواء الإسلامي التي يصدرها الحزب الوطني واعتدال كتاباته فيها)، وبمعني آخر فإنه بالربط بين هذه النقطةوالنقطة السابقة لها يمكن القول بأن (القيادات التنظيمية ليست شعبية والقيادات الشعبية ليست تنظيمية) هما أمران إيجابيان بالتأكيد.
(ه) تمثل القيادة الحالية للتيار التقليدي (عمر التلمساني) أضعف حلقات قيادية تاريخية سواء من ناحية الفكر أو القدرة علي التأثير أو التمتع بإمكانية الزعامة، وقد ساعد علي ذلك كونها (قيادة س) وليست قيادة منتخبة، حيث تولي التلمساني رئاسة مكتب الإرشاد باعتباره الأكبر عمرا في غياب العمل الشرعي، كما ينص علي ذلك النظام الداخلي للإخوان.
(و) معاناة التيار التقليدي (الإخوان المسلمين) من تمزق فكري شديد نتيجة لظهور سيد قطب كزعامة منسوبة إلي هذا التيار اسما (بينما هو في حقيقته المنظر الفكري الأول للتيار الثوري)، الأمر الذي ترتب عليه حدوث صدام بين منهجين فكريين مختلفين، أولهما منهج أصولي يمثله حسن البنا، وثانيهما منهج ثورى مختلف تماما وإن كان أكثر تماسكا ويمثله سيد قطب، ولعل آثار معاناة الإخوان المسلمين من ذلك تبدو واضحة في إصرار قياداته علي ذكر الإمام الشهيد قاصدين بذلك حسن البنا وإحياء كتاباته وتجاهل ذكر سيد قطب تماما رغم كونه (إماما شهيدا) هو الآخر وعدم الإشارة إليه تجنبا لمنهجه واعتباره داخل صفوف التيار التقليدي خارجا علي فكره من ناحية، وقيادة غير شرعية لم يفرزها أحد السبيلين اللذين لا ثالث لهما، وهما انتخابات مكتب الإرشاد أو كبر السن، من ناحية ثانية، ومثل هذا التمزق الفكرى يؤثر علي قوة التنظيم وفعالياته ويحجم كثيرا من قدرته علي التأثير ويعطي للمختلفين معه سلاحا فكريا ماضيا.
(ز) بدأ التيار الثوري الإسلامي في تحقيق بعض ردود الفعل المناهضة له علي مستوي الرأى العام الشعبي، وقد حدث ذلك نتيجة تزيدهم في التطرف والذي يتمثل في استخدام مكبرات الصوت بصورة مزعجة أو لجوئهم لأساليب العنف الجسدي مع معارضيهم في الجامعات، أو تأثر بعض الأسر بسلوك أبنائها في مواجهة أفراد الأسرة أو برفض أبنائهم للتعليم أو العمل، ورغم أن هذا القدر من رد الفعل ليس كبيرا بدرجة مؤثرة، فإنه قد تكون في مواجهة مسيرة حافظ سلامة أو في إزالة الملصقات أو التقبل الحسن للحملة الإعلامية التي أعقبت محاولة مسيرة حافظ سلامة والتي كتبت فيها مجموعة من المقالات لم يكن متصورا أن تكتب في فترة سابقة دون فعل شديد بالعنف، علي عكس ما حدث.
(ح) أنه علي العكس من تمزق التيار السياسي الإسلامي إلي أجنحة مختلفة وربما متصارعة وتوزع ولائه بين قيادات متعددة ومختلفة، يبدو التيار السياسي القبطي متماسكا بصورة لم تحدث من قبل، كما أنه يدين بالولاء لقيادة واحدة شرعية هي البابا، وعلي الرغم من اعتراض الكاتب علي قيادة رجال الدين للعمل السياسي في كل من الجانبين الإسلامي والقبطي، فإن توحد التيار السياسي القبطي تحت قيادة واحدة غير مختلف عليها يمثل نقطة إيجابية واضحة، لأنه إذا لم يكن ممكنا التحكم في (الفعل الإسلامي) فإنه يمكن التحكم في (رد الفعل القبطي) من خلال إمكانية التفاهم مع قياداته، ومساحة التفاهم واسعة من منطلق إحساس الأقلية بالخطر وسعيها المبرر بتحجيم المشكلة، وسوف نناقش هذه النقطة بالتفصيل عند مناقشة أسلوب الحل.
(ط) أن الأقلية القبطية في مصر علي عكس كثير من الأقليات في أغلب دول العالم ليست أقلية وافدة، بل هي أقلية أصيلة، الأمر الذي يصعب معه النظر إليهم علي أنهم دخلاء أو مجموعة قابلة للنزوح إلي موطنها الأصلي أو أن ولاءها خارجي، كما أنه من ناحية أخري لا يمكن الشك في ولائها لمصر الأرض والوطن والتاريخ وهذه كلها عوامل تحجم كثيرا من مبررات الصراع الطائفي.
(ى) أن تبني الأقلية القبطية لبعض المطالب السياسية لاينطلق من عقيدة دينية بقدر ما ينطلق من مفهوم حقوق الإنسان في العالم المعاصر، وبمعني آخر فإن موقفهم ينطلق من أرضية سياسية وليس من أرضية دينية، كما أنه لا يتكون إلا كرد فعل في مواجهة تجاوز الفعل في الجانب الآخر لحدود المعقولية، الأمر الذي يؤدي إلي قصر المواجهة في اتجاه تحجيم الفعل وهو أمر إيجابى.
«ك» أدى التزايد فى التطرف السياسى الدينى إلى ظهور تيار فكرى علمانى واضح تبناه بعض المفكرين فى مقالاتهم وكتبهم واستطاع أن يفرض نفسه على الساحة الفكرية بعد غياب، كما بدا تأثيره واضحا فى بعض الأحزاب السياسية، حيث بدأت كثير من القواعد الحزبية فى تبنى العلمانية والدعوة للالتزام بها، ويرى الكاتب أن تبلور هذا الاتجاه سوف يؤدى إلى تصحيح مسار الحوار الدائر وذلك بإحلال التيار العلمانى محل التيار الدينى المعتدل فى الحوار الدائر مع المتطرفين.
«ل» من أهم الإيجابيات أن الغالبية العظمى من المصريين مازالوا خارج دائرة الحوار وإذا كان محسوبا كإيجابية عدم تعاطفهم بعد مع المتطرفين، فإنه محسوب كسلبية عدم تصديهم للمواجهة معهم.
3 - سلبيات الواقع الحالى:
«أ» الإعلام:
«أ- 1» منطق الحوار الدينى:
ساد الإعلام منطق خاطئ وهو منطق الحوار «الدينى» مع المتطرفين دينيا، والخطأ فى هذا المنطق يعود إلى ما يأتى:
1 - أنه حوار «دينى - دينى» يصل بالطرفين إلى نتيجة واحدة فى جميع الأحوال مضمونها قبول كثير من اتهامات المتطرفين للمجتمع بالخروج عن صحيح الدين مع محاولة من الطرف الحكومى المحاور لإثناء المتطرفين عن اتباع العنف وخلال ذلك كله يتم تجهيل أو تجاهل الخلفية السياسية للمتطرفين.
2 - إن الحوار «الدينى - الدينى» يصل بالمتابع له إلى اختيار بين دولة «دينية» متطرفة أو دولة دينية معتدلة، وهو أمر خطير إذا كان مقصودا والأخطر أن لا يكون مقصودا.
3 - يتمتع المتطرفون بمنهج متكامل ومتماسك بصرف النظر عما يحمله من خطأ أو صواب، بينما لا يزيد الأمر بالنسبة للمحاورين لهم عن اجتهادات غير متناسقة تفتقد التكامل، وفى أغلب الأحيان يبدو موقفهم دفاعيا، وهو أمر له تأثيره النفسى بالغ السلبية.
4 - يتأثر الرأى العام فى مصر بالانطباع وليس بالاقتناع، والانطباع الذى يتولد لدى مشاهدى الحوار التليفزيونى أو متابعى الحوار الصحفى،أنه مواجهة بين مجموعة ذات انتماء عقيدى صادق، ومجموعة أخرى تؤدى واجبا رسميا، أو إذا أردنا المقابلة اللفظية الصحيحة، مجموعة ذات انتماء رسمى صادق.
5 - فى أحيان كثيرة يؤدى الحوار إلى نتائج عكسية للمستهدف منه، وعلى سبيل المثال فقد استضاف برنامج «ندوى الرأى» بالتليفزيون عالما دينيا فاضلا ومشهورا بالاعتدال وهو الشيخ محمد الغزالى،وسئل عن رأيه فى العلمانية فأجاب «من ينادى بالعلمانية يعتبر مرتدا عن الإسلام»، وعندما سئل فى نفس الحلقة عن رأى زميل له فى تكفير الحاكم أجاب بما يوحى بأن القضية خلافية، وفى مرة أخرى فى نفس البرنامج هاجم بتحامل شديد غير مبرر أحد أعضاء جماعة التبليغ ردا على عرض له لأسلوب الجماعة، بدا فيه شديد الذكاء والاعتدال والتدين، الأمر الذى يدفع المشاهد لنتيجة معاكسة للهدف من البرنامج، وأمثلة ذلك كثيرة.
6 - يبقى السؤال الأهم والحاسم لخطأ منهج الحوار بالصورة التى يتهم بها حاليا، وهو كم متطرفا استطاع البرنامج أن يثنيه عن تطرفه؟ الإجابة تقريبا لا أحد، فالوجوه المحاورة من المعتدلين هى نفسها تقريبا منذ حوالى أربع سنوات، بينما يمكن القول بأن البرنامج قد دفع كثيرًا من المتطرفين إلى دائرة الشهرة والنجومية، وربما دفع البعض من الشباب المعتدل إلى التطرف.
ولا يعنى ما سبق أن الكاتب ضد الحوار، بل هو معه، على أن يكون الحوار بين مفهوم الدولة الدينية ومفهوم الدولة المدنية، وأن يتم على أساس سياسى وأن تمثل فيه جميع الأطراف الحقيقية للحوار.
«أ- 2» أسلوب الحملات الإعلامية:
درج الإعلام على معالجة أو مواجهة التطرف السياسى الدينى بحملات إعلامية مركزة وعالية النبرة فى توقيت ملازم للمواجهات الأمنية للتطرف، وما إن تنتهى المواجهة حتى تفتر الحملة وتبدأ المقالات التيى تصف المتطرفين بحسن النية وأنهم مغرر بهم، وأن الدولة هى التى قصرت فى إجراء الحوار معهم ودعوتهم لقيم الدين الصحيح.
ومن المؤكد أن أسلوب الحملات الإعلامية «الأمنية» يحمل فى طياته قدرا كبيرا من الخطأ فهو يبدو من ناحية أمام الرأى العام، أمنيا أكثر منه سياسيا أو فكريا، ومن ناحية أخرى يؤدى التزايد فيه أحيانا إلى نتائج عكسية منها التعاطف ومنها تضخيم حجم المتطرفين لدى الرأى العام والمؤكد أن أسلوب الخط السياسى الثابت فى مواجهة التطرف هو البديل الواجب اتباعه.
«أ- 3» التلفزة الدينية:
وقع المشرفون على التليفزيون فى مجموعة من الأخطاء التى ترتب عليها عدد من السلبيات المؤثرة على قدرة هذا الجهاز الخطير على التأثير فى الرأى العام، فمن ناحية أخلى التليفزيون مساحات كبيرة من ساعات إرساله للبرامج الدينية وشجع على ذلك ارتفاع أصوات المتطرفين بالهجوم على برامج الشاشة الصغيرة مما أدى إلى مزيد من الخطوات فى هذا الطريق وأى إحصائية لعدد ساعات الإرسال الدينى ونسبتها إلى مجمل ساعات الإرسال وتطور هذه النسبة فى السنوات الثلاث الأخيرة تؤكد على انسحاب التليفزيون عن خطه «العادى»، وهو انسحاب لن يحده شىء لأنه لا حدود للتنازلات التى يطالب بها المتطرفون، ولعل الإصرار على إذاعة الأذان فى وقته كاملا ثم تطور ذلك إلى إذاعة حديث نبوى بعد أذان الصلاة بلا ضرورة يعطى مثالا لهذا الانسحاب وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فقد طالبت جريدة النور فى عدد الأربعاء 21 مارس 1985 بأن يتلو الحديث النبوى تفسير له وهو ما يشكل نموذجا لأسلوب سباق الجرى «خلفا» الذى يشارك فيه التليفزيون أو بعبارة أدق يسابق فيه التليفزيون آراء المتطرفين.
ومن الأمثلة الأخرى على أخطاء التوجه الإعلامى التليفزيونى ما أصبح يسمى بظاهرة الشيخ الشعراوى الذى يخلق منه التليفزيون المصرى نجما تليفزيونيا بإصراره على التركيز عليه وإعطاء مساحة يومية له فى التليفزيون، وعندما مست أحاديثه عقيدة الإخوة الأقباط ومشاعرهم أكثر من مرة، لم يستطع التليفزيون أن يفعل شيئا وترتب على محاولة حصر برنامجه فى وقت أكثر محدودية أن ثار المشاهدون وعبروا عن ثورتهم بسيل من الخطابات وهكذا واجه المشرفون على التليفزيون مأزقا هم صانعوه، والحديث عن أخطاء الشاشة الصغيرة يطول والنماذج متعددة لكن أكثر بجاحة ذلك البرنامج الذى أذيع فى شهر رمضان وادعت كاتبته أن نصف ملوك الفراعنة كانوا مسلمين وإذا كان من حق التليفزيون أن يشهر إسلام الفراعنة فإن من حق المتطرفين أن يرفعوا شعاراتهم وأن يغالوا فى تطرفهم عن يقين بأنهم لن يطاولوا التليفزيون بجاحة ولا تطرفا!!
«أ- 4» الجيش السرى الإعلامى:
عندما تحدد شهر مايو 1985 لمناقشة قوانين الشريعة فوجئ المصريون فى شهر يناير وفبراير من نفس العام وخلال هذين الشهرين فقط، بما يمكن أن يكون حملة إعلامية منظمة، استغلت جميع ما حدث من قضايا أو حوادث خلال هذين الشهرين فى الدعوة والتمهيد لتطبيق الشريعة الإسلامية وأوجز بعض الأمثلة على ذلك فيما يلى:
- اعتدى ستة شبان على فتاة تواجدت مع خطيبها فى سيارة فى أحد الشوارع المهجورة فى المعادى،وقد أثبت الطبيب الشرعى فيما بعد أنها عذراء، وقد ركزت الصحف على هذه القضية، وركزت فى عرضها للحوادث أو لجلسات المحاكمة على الدعوة لتطبيق حدى الزنى أو الحرابة، ولم يخل أى مقال أو موضوع كتب عن الحادث من رأى دينى أو فتوى لرجل من رجال الدين، وقد نجح ذلك فى التأثير على الحكم «الأمر الذى اعترف به القاضى حين صرح للصحف بأنه لم يكن من الممكن تجاهل الرأى العام فى القضية»، وحكم على خمسة شبان من الستة بالإعدام، ولكن الأهم من التأثير على الحكم، ذلك التأثير الذى كان موجها للرأى العام، حاملا مضمونا فحواه أن القوانين الوضعية لم تعد صالحة لحماية الأعراض وأن البدديل ممثل فى تطبيق الشريعة.
قتل شاب مريض نفسيا «وهذا ثابت» والديه، واستغل الإعلام ذلك بادعاء أن الشاب قد تأثر بالمذاهب «الوجودية» الهدامة وأن إلحاده هو السبب، وخلص من ذلك إلى نتيجة مؤداها أن العودة بالمجتمع للدين هى الحل والنجاة، وأنه من الضرورى حماية المجتمع من «الفلسفات الوضعية المنحرفة».
استغل الإعلام حادث انتحار فتاة مغربية فى منزل ملحن مشهور فى الإيحاء بأن مصر أصبحت مرتعا للسكارى،وتحولت إلى ماخور كبير تدور فيه الفاتنات العاريات بكئوس الراح على الشاربين وكان المضمون الذى وصل إلى القراء كرسالة إعلامية اضحة هو تطبيق حد شرب الخمر وضرورة إقامة المجتمع الإسلامى «المثالى».
حوكمت قصة ألف ليلة وليلة الشهيرة بحجة «الخلاعة والألفاظ الجارحة»، رغم أنها موجودة منذ مئات السنين دون استنكار أو إدانة.
وبدلا من أن يواجه الإعلام هذه «المحرقة الفكرية» ساندها بأقلام كبار الكتاب وبدا صوت المعارضين باهتا، وكان الهدف هو التوصل إلى الحكم على الفكر والأدب والفن، من منطلق دينى وهو منطق شديد الخطورة، لكن يعتبر تمهيدا لما يتوجه له المجتمع أو يتم توجيهه إليه.
- أعيدت مناقشة قضية البهائية للمرة الثالثة «المرة الأولى فى أوائل الستينيات والثانية فى أوائل السبعينيات» وبعد أن نوقشت القضية فى المرتين السابقتين على أنها قضية مذهب إسلامى منحرف، نوقشت هذه المرة على حقيقتها، وهى أنها قضية دين جديد، ولم تناقش القضية فى وسائل الإعلام على أساس فكرى أو قانونى،بل نوقشت بمفاهيم دينية أساسية وبتوجه واضح إلى ضرورة «تطبيق حد الردة».
- ركز الإعلام على مناقشة قضية ما سمى بالنبى المزعوم بريقع تلك القضية التى يخرج المتابع لها بانطباع مؤداه أنها قضية خلقية أو شخصية لكن الإعلام عرضها من خلال مفهوم آخر وهو مفهوم مضمونه أن المجتمع العلمانى المصرى يسمح فى ظل القوانين الوضعية بظهور الديانات والأنبياء وأن غياب «حد الردة» هو السبب فى ذلك.
ومن الممكن سرد أمثلة أخرى عديدة، لمفردات الحملة الإعلامية الشرعية التى شنها الإعلام فى اتجاهه للتمهيد لتطبيق الشريعة الإسلامية وهو الأمر يطرح «فزورة» يصعب حلها ومضمونها كالتالى:
- الدولة لا ترى ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية الآن.
- الإعلام يتبع الدولة.
- الإعلام يشن حملة باتجاه تطبيق الشريعة الإسلامية الآن، ولا يحل هذه الفزورة إلا جواب واحد، وهو أن هناك جيشا إعلاميا سريا يسعى لتطبيق الشريعة الإسلامية ويتجاوز مصالح المسيطرين على الإعلام إلى مصالح أخرى يمكن بحثها أو البحث حولها فى مجال آخر.
«أ- 5» الإعلام والأمن:
تبرر القيادات الإعلامية تدخل الأمن فيما يتعلق بنشر الموضوعات الخاصة بهذه القضية أو إذاعة البرامج المواجهة للتطرف بأنه من الضرورى التنسيق بين الاعتبارات السياسية والأمنية فيما يتعلق بظاهرة لها وجهاها السياسى والأمنى،وبصرف النظر عن مدى صحة هذا المنطق، فإن الأمر يتجاوز مجرد التنسيق فى كثير من الأحيان، الأمر الذى يترتب عليه غلبة المنطق الأمنى على المنطق السياسى،ويأتى بنتائج عكسية، والأمثلة على ذلك كثيرة، وأغلبها يتعلق بنشر «الأخبار» المتعلقة بهذه الظاهرة وكمثال على ذلك فقد منع الأمن الصلاة بمسجد النور فى أعقاب محاولة مسيرة حافظ سلامة حتى تتم الإنشاءات الخاصة بالمسجد، وتصدى المتطرفون لذلك بالاعتداء المسلح على رجال الأمن، واستخدموا فى اعتدائهم السلاح الأبيض، وترتب على ذلك إصابات فى الطرفين وقبض على بعض المتطرفين، وقد نشرت جميع وكالات الأنباء العالمية هذا الخبر، ومنع نشره فى مصر بتعليمات أمنية،هو أمر لا يبدو مفهوما فلا الأخبار يمكن حجبها فى عالم مفتوح، ولا النشر ضار، بل مفيد إلى أقصى درجات الإفادة وقد صرح الأمن بعد ذلك بنشر الخبر وفى الوقت بين عدم السماح والسماح يمكن تصور التأثير الضار للتدخل الأمنى فى مجال الإعلام.
«أ- 6» الشراك الإعلامية:
يحلو لكثير من القيادات الإعلامية والفكرية أن تبدأ مقالاتها بعبارات من نوع «لا يختلف أحد حول تطبيق الشريعة الإسلامية، لقد أعطى الشعب كلمته، وأعطت الحكومة وعدها، وأبدت أحزاب المعارضة تأييدها تلك قضية منتهية لا خلاف عليها»، و«لكن» وآه من «لكن» هذه التى يتلوها عادة من عبارات تناقض العبارات السابقة أشد التناقض وتخالفها أشد المخالفة، بل قد ينتهى المقال برفض تطبيق الشريعة الإسلامية تحت مسميات أهونها التدرج وأقصاها توجه الكاتب للمتطرفين، بتساؤلات من نوع، قولوا لنا أولا ماذا تريديون؟ وكأنه لم يسمع منهم قولا، أو يسمع عنهم قتلا، ويتصور الكاتب والمفكر أنه قد نصب شركا محكما لهم، بدأه بإعداد الطعم «بضم الطاء وسكون العين» ممثلا فى العبارات التى بدأ بها المقال، وهو طعم يسهل- فى تصوره- أن يبتلعه المتطرفون ثم يفاجأون باستداراجهم فى نهاية المقال إلى نتيجة عكسية والحقيقة التى لا شك فيها ولا هراء، أن الشرك منصوب للقراء وأن الجريدة اليومية التى توزع مليون نسخة وبالتالى يقرأها خمسة ملايين قارئ، قد نصبت بفضل الكاتب أو المفكر الكبير شركا لهذه الملايين والسبب فى ذلك أنه ليس فى هذه القضايا الحساسة والمصيرية «لكن»، تماما كما تقول المسرحية المشهورة ليس فى القانون «زينب» فإما أن تكون «مع» وإما أن تكون «ضد»، ومادمت بدأت القول بأن قضية الشريعة محسومة، وأنها محل اتفاق عام فإن يأى قول بعد ذلك لا يجدى وأى «لكن» لا يؤمن بالعبارات التى ذكرها والتى يكررها أمام عيون القراء يوما بعد يوم وكأنها مقرر إعلامى،والمؤكد أيضا أن ما ذكره للأسف ليس صحيحا، فالقضية لم تكن يوما «كقضية سياسية» محل اتفاق عام، والحكومة لم تكن يوما «صادقة» حين وعدت بتطبيق الشريعة وإنما أعلنت ما أعلنت عن يقين بأن كان شىء فى مصر «ينسى بعد حين»، والأحزاب لم ترفع يوما من الشعارات ما اقتنعت به، وإنما رفعت ما تزايد به على الحكومة، ربما عن عدم إدراك لمخاطر التطرف الديدنى،وربما عن إدراك وسعى فى ذات الوقت لأن تحصد الحكومة ما جنت يداها.
إن المثال السابق ليس رأيا لكاتب أو فقرة من مقال مفكر ولو كان كذلك ما استحق منى الذكر أو التعليق وإنما هو «نغمة» سادت الإعلام المصرى وأسلوب أدمنه كبار الكتاب وعمامة يصرون على وضعها على رأس دافعى الضرائب «وأقصد الشعب» وحجرا ثقيلا يلقونه على رأس دافعى المرتبات- مرتباتهم- و«أقصد الحكومة».
«ب» الديمقراطية بين السماح والمناخ:
من الصعب أن يقتنع الرأى العام المصرى بخطأ ممارسات التيار السياسى الدينى المتطرف، طالما ظلت الممارسة الديمقراطية فى مصر على ما هى عليه، وطالما دارت هذه الممارسة، كما تدور الآن فى ساحة السماح الديمقراطى،الذى يأتى من السلطة الحاكمة أو الحزب الحاكم، دون أن يتعدى ذلك إلى مناخ ديمقراطى،يتيح لكل الراغبين فى الممارسة السياسية أن يكون لهم دور وحزب ومنابر إعلامية، بل إن الرأى العام يتعاطف معهم أحيانا ويميل إلى تبرير مظاهر العنف فى حركتهم بحجة أنهم لجأوا للأساليب غير الشرعية حين لم يسمح لهم بالعمل السياسى الشرعى أو بمعنى أكثر تحديدا ووضوحا، حيث لم يسمح لهم بتشكيل أحزابهم السياسية.
إن الحجة الوحيدة التى يرفعها المعترضون على السماح للتيارات السياسية الإسلامية بتكوين أحزابهم مضمونها أن ذلك سوف يؤدى إلى تشكيل أحزاب سياسية مسيحية فى المقابل، الأمر الذى سوف ينتهى بمصر إلى وضع مشابه لوضع لبنان، وهذه الحجة مردود عليها بما يلى:
1 - إن السماح بتكوين أحزاب سياسية إسلامية لن يضيف جديدا إلى الساحة، فالتيار السياسى الإسلامى الذى يقبل بذلك «وهو تيار الإخوان المسلمين» له قواعده وله قيادته ممثلة فى مكتب الإرشاد العام وله زعيمه ممثلا فى عمر التلمسانى الذى يتولى حاليا منصب المرشد العام وأكثر من ذلك له الآن نوابه فى البرلمان وهم لا يخفون انتماءهم الواضح والصريح لهذا التيار.
2 - إن ظهور أحزاب سياسية إسلامية سوف يؤدى - من ناحية- إلى توقف مزايدة الأحزاب السياسية على الشعارات الدينية، ومن ناحية أخرى سوف يحجم كثيرا من مزيدات أئمة المساجد على الشعارات الدينية لأنهم سوف يصبحون أنصارا لحزب سياسى فى الساحة، منافس لأحزاب أخرى.
3 - سوف تضطر هذه الأحزاب الجديدة إلى وضع برنامج سياسى يضعون فيه حلولا لمشاكل المجتمع الحقيقية مثل الإسكان أو الأسعار أو الديون أو غيرها، وفى هذا مجال واسع للخلاف بينهم والاختلاف عليهم، ليس هذا فقط بل إن ذلك سوف يفتح المجال للجميع لإمكانية الحوار معهم وتفنيد آرائهم لأن ساحة النقاش سوف يتم تصحيحها بأن تصبح ساحة سياسية وليس ساحة دينية وسوف يصبح جميع أطراف هذا الحوار، مجموعة من الساعين للحكم، لا للجنة والمتقربين للشعب لا لله، والطامحين للسلطة لا للشهادة.
4 - إن التخوف من قيام أحزاب دينية مسيحية لا مبرر له لعدة أسباب هى:
«أ» إن التجربة التاريخية أثبتت أن أقباط مصر يتعاطفون دائما مع الأحزاب العلمانية عن إدراك حقيقى بأن المستقبل للتعايش وليس للانفصام والدليل على ذلك تجمعهم تحت راية الوفد وولاؤهم له قبل ثورة 1952 وبقاؤهم على هذا الولاء حتى بعد انفصال أكبر قياداتهم السياسية «مكرم عبيد».
«ب» إن تجربة إقامة حزب مسيحى دينى له سابقة فى التاريخ المصرى،تمثلت فى حزب مصر الذى أنشأه «آخنوخ فانوس» ولم ينضم له إلا قلة محدودة، وانتهى بعد سنوات فى صمت كما ظهر، دون أن يكون له تأثير على مسار الحياة السياسية فى مصر، ودون أن يؤثر سلبيا على مناخ الوحدة الوطنية فيها.
إننى أؤكد على أن الوضع الحالى المتمثل فى «السماح» الديمقراطى وتحجيم حرية تكون الأحزاب وقصر التجربة الحزبية على ما هو قائم له تأثير سلبى خطير على واقع التطرف السياسى الدينى فى مصر، خاصة وأنه لا يقتصر على تحجيم دور هذا التيار فى التواجد السياسى بل يمتد أيضا إلى تحجيم الأحزاب العلمانية سواء اليسارية منها أو الليبرالية.
«ج» التعصب الدينى:
يجب أن نعترف جميعا وبصورة واضحة ومعلنة بأن مصر بها قدر من التعصب الدينى وأن هذا القدر موجود لكنه محدود وأن له من الخصائص ما يتناقض مع المنطق، فهو يزداد مع ارتفاع المستوى التعليمى أو الوظيفى فيتواجد مثلا فى بعض الأقسام بالجامعات ويقل كثيرا فى القرى والمدن الصغيرة، ويطرح الاعتراف بظاهرة التعصب إمكانية دراسة أسلوب حل هذه المشكلة، وهل يكون بفرض عقوبات رادعة على من يثبت أنه قد اتخذ قرارا من منطلق التعصب أو بالتمثيل النسبى السياسى للأقليات أو غير ذلك من الحلول.
ويبقى الحل
ما سبق كان طرحا موجزا للمشكلة «تعريفها- طبيعتها- سلبيات المرحلة الحالية وإيجابياتها» وهو ما يمكن طرحه للمناقشة العامة بهدف محاولة التوصل لحل، وهو موضوع حديث آخر.