حالة كبيرة من الإعجاب والتقدير نالها الدكتور محمد مشالى، طبيب طنطا الذى انتشرت قصته الإنسانية قبل أيام، وتقول إنه منذ ما يزيد على 40 عامًا يحافظ على «تسعيرة كشفه» فى عيادته الخاصة لا تتعدى 10 جنيهات، ما جعل أهالى المدينة يطلقون عليه «طبيب الغلابة». ورغم إنسانية وعظمة ما يفعله الطبيب الذى بلغ من الكبر عتيًا، واستحقاقه تسليط الضوء عليه، يوجد غيره الكثير من الأطباء سائرين على الدرب ذاته منذ سنوات، وخلال السطور التالية ستسمع حكايات هؤلاء الذين يكشفون فى عياداتهم الخاصة بمبالغ زهيدة تبدأ من 3 جنيهات، بجانب صرف أدوية وإجراء تحاليل وأشعة بالمجان. «التسعيرة»: دعوات المرضى البداية من قرية «كفر غطاطى» بمحافظة الجيزة، والتى بمجرد وصولك إليها وسؤالك عن عيادة الدكتور عبدالباسط مرسى، تأتيك الإجابة: «طبعًا عارفينها.. دكتور عبدالباسط ربنا يكرمه». ما أن تصل إلى العيادة تشهد ازدحامًا كبيرًا من المرضى، وقبل أن تسأل عن السر تجيبك لافتة مدونًا بها «تسعيرة» الكشف لدى الدكتور عبدالباسط: «3 جنيهات لا غير»، فاستشارى الجراحة العام الذى تجاوز عمره 70 عامًا لا يتقاضى أكثر من هذا المبلغ منذ 19 عامًا، حتى أطلق عليه الأهالى هنا لقب «طبيب الغلابة». ولضمان عدم تحصيل الممرضات لديه أكثر من 3 جنيهات، يحرص طبيب «كفر غطاطى» على استلام قيمة الكشف بنفسه، كما أنه يبادر بالكشف مجانًا على من لا يملك هذا المبلغ، رغم شهرته وتميزه الطبى، وتوليه منصب مدير مستشفى أسوان العام، وعمله كاستشارى فى مستشفيات «أم المصريين» و«المحمودية» و«البدرشين» بالقاهرةوالجيزة، قبل أن يقرر فتح عيادة فى القرية. ويفتح الدكتور عبدالباسط عيادته يوميًا من العاشرة صباحًا حتى السابعة مساءً، ويتجمع المرضى أمامها من الثامنة صباحًا، حتى يستطيعوا حجز «دور» لهم قبل الازدحام، ورغم كل هذا الوقت والجهد يحرص الطبيب على عدم ترك العيادة قبل الكشف على آخر مريض. والعيادة مكونة من غرفتين الأولى للكشف والثانية للعمليات الجراحية البسيطة، والتى تبلغ تكلفتها 70 جنيهًا فقط. داخل غرفة الكشف، استقبلنا الدكتور عبدالباسط بابتسامته الطيبة، وبسؤاله عن سر اختياره «كفر غطاطى» مقرًا لعيادته قال: «الناس هنا غلابة ما يقدروش يدفعوا قيمة الكشف العالية فى عيادات أخرى، التى لا تقل عن 100 جنيه، حتى فى المستوصفات الخيرية فى المساجد والجمعيات». وأضاف: «االناس هتجيب منين؟ كفاية العلاج أصبح غالى»، مشيرًا إلى أنه يكتب علاجًا فى متناول «الغلابة» لا يتعدى سعره 30 جنيهًا، وفى كثير من الأحيان يصرف العلاج من عنده، فى ظل مبادرة مجموعة من أهل الخير بشراء الأدوية ومنحها إياه، أما بالنسبة ل«الأشعة» فيحول من يحتاج إليها من المرضى إلى المستشفيات الحكومية. وتابع بنبرة حزينة: «تعرضت ولا أزال لحرب شرسة من بعض أطباء المنطقة الرافضين لقيمة الكشف، حتى أنى غبت عن العيادة فى إحدى المرات فأشاعوا وفاتى كذبًا»، مشددًا على أن ذلك لا يهمه نهائيًا إذ «تكفيه دعوات الغلابة». واختتم: «قيمة الكشف لا تكفى مصاريف العيادة، لكنى أفعل ذلك لله وتنفيذًا لوصية والدتى رحمها الله، التى طالبتنى بمساعدة المحتاجين». من جهته، قال محمد إسماعيل، أحد المترددين على العيادة، إنه تعرض لسقوط باب عليه ما تسبب فى إصابته بكدمات فى القفص الصدرى وكسر فى عظم الحوض، فلجأ إلى عدة مستشفيات للعلاج لكن الحالة لم تتحسن، وبعد أن توجه للدكتور عبدالباسط مرسى تمكن من التحرك بسهولة خلال فترة لم تتجاوز 21 يومًا، كاشفًا عن أن الدكتور يجرى عمليات جراحية بسيطة مثل «إزالة عين السمكة أو الدمل والخراج» ب30 جنيهًا فى الوقت الذى تصل فيه بأماكن أخرى إلى 500. الحاجة فتحية محمد، فى العقد السادس من عمرها، جاءت من الفيوم خصيصًا للعلاج لدى الدكتور عبدالباسط، بعد أن عرفت به من أهالى قريتها فى الفيوم، موضحة: «أغلب أهالى الفيوم يأتون إليه طلبًا للعلاج». وقالت سيدة أخرى: «ربنا يكرمه.. الغلاء فى كل حاجة، كما أنه دكتور شاطر جدًا، وبيكتب علاج فعال ورخيص، لذا تشهد عيادته ازدحامًا كبيرًا يجعله يجرى نحو 50 كشفًا فى اليوم»، مضيفة «لو فى دكاترة كتير زى الدكتور عبدالباسط كان كل فقير هيلاقى علاج». التحاليل والعلاج «هدية» النموذج الثانى فى لوحة شرف «أطباء الغلابة»، هو استشارى جراحة العظام بمدينة المنصورة عاصمة الدقهلية، الدكتور ياسر ضيف، الذى لا تزيد قيمة الكشف فى عيادته على 5 جنيهات، تنفيذًا هو الآخر لوصية والدته، والتى رغم رحيلها لا يزال يحافظ على وعده لها بعدم زيادة تلك القيمة مهما حدث. الدكتور ياسر ضيف الذى يملك 35 عامًا من الخبرة فى مجال جراحة العظام، عمل فى مستشفى شربين، ثم خرج على المعاش بعد أن تجاوز 60 عامًا، ومن ثم تفرغ للعمل فى العيادة وسط البسطاء.. وردًا على من يسأله عن سبب خفض قيمة الكشف، يقول طبيب المنصورة: «دخلى كويس ومكفينى.. ليه أغلى الكشف؟»، مشددًا على أن الطب رسالة قبل أن يكون مهنة، لذا يكتفى بما يتحصل عليه فى العيادة، معتبرًا أنه «يكفى وزيادة.. والله يبارك فى القليل». وأضاف «تيسير الله لأمورى دائمًا ما أربطه بدعوات المحتاجين فى عيادتى»، واصفًا رفع قيمة الكشف ب«الطمع» من قبل الأطباء. وكسابقه، تعرض «ضيف» لحملة تشويه من قبل بعض الأطباء المعارضين لخفض ثمن الكشف إلى 5 جنيهات، مشيرًا إلى أنهم يحاولون التشكيك فى قدراته الطبية، على اعتبار أنه «لا يوجد طبيب جيد يقبل بهذا المبلغ»، لكن رغم ذلك «تمتلىء عيادتى بالمرضى». وفى وسط القاهرة، تقع عيادة الدكتور عبدالعزيز حامد، استشارى الأمراض الجلدية والأطفال، والذى يعمل طبيبًا للأطفال منذ عام 1968، بثمن كشف لا يزيد على 5 جنيهات. ولا يقتصر الأمر على الكشف ب5 جنيهات فحسب، ويساعد «حامد» المرضى فى العلاج عن طريق منحهم عينات مجانية يحصل عليها من شركات الأدوية، فضلًا عن إجراء بعض التحاليل فى العيادة، مثل: السكرى، ونقص الدم، وهشاشة العظام، وذلك بدون مقابل، ومن ضمن سعر الكشف. وفى منطقة قريبة، وتحديدًا «أرض اللواء» بمحافظة الجيزة، التقينا الدكتور حلمى المصرى، طبيب الباطنة والجهاز الهضمى والكبد، الذى يفتح عيادته يوم الجمعة للكشف ب 5 جنيهات فقط، مع إمكانية إجراء تحاليل والحصول على بعض الأدوية مجانًا، فضلًا عن توافر جهازى رسم القلب و«السونار» فى العيادة. «المصرى» بدأ عمله فى إحدى مستشفيات بنى سويف، حيث كان يخصص الجمعة للكشف بمقابل 5 جنيهات، وعندما جاء للعمل فى القاهرة داخل مستشفى الوراق العام، قرر أن ينقل فعله الخيرى ذلك فى إحدى المناطق الشعبية ليختار فى النهاية «أرض اللواء». وقال طبيب «أرض اللواء»، إنه يستقبل نحو 60 مريضًا يوم الجمعة، ويحرص على كتابة العلاج الأكثر فعالية والأرخص ثمنًا، لذا لا يتعدى سعر «الروشته» 50 جنيهًا، وبعضها يكون ب10 جنيهات فقط، مضيفًا :«الطبيب يمكنه تشخيص الحالة وصرف علاج مناسب لها بأقل تكلفة، لكن للأسف هناك أطباء يحصلون من الصيدليات على نسبة من ثمن الروشتة». وتابع: «أثناء دراستى أخذت عهدًا على نفسى بتخصيص يوم لغير القادرين بعد تخرجى، وهو ما وفيت به باختيار يوم الجمعة الذى يغلق فيه معظم الأطباء عياداتهم»، مشددًا على أن عيادته مفتوحة 24 ساعة أمام كل «الغلابة» فى غير يوم الجمعة أيضًا. واختتم: «ربنا بيكرمنى أفضل كرم، والعيادة تمتلىء بالمرضى فى الأيام التالية ليوم الجمعة». وعلى بعد مسافة قريبة من منطقة «المهندسين»، تظهر لافتة صغيرة على إحدى العمارات كتب عليها: «عيادة أطفال مجانية لغير القادرين أيام السبت والاثنين والخميس من التاسعة صباحًا وحتى الواحدة ظهرًا»، وهى للطبيب أحمد أسامة قداح، أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة، الذى عمل لسنوات فى السعودية وقبلها بمستشفى «أبوالريش». ومنذ الثامنة صباحًا، تتجمع عشرات من الأمهات بصحبة أبنائهن فى العيادة، قادمات من مناطق مختلفة فى الجيزةوالقاهرة ومحافظات أخرى، ومن بينهن سلوى محمود التى تقول: «بأعالج أولادى عند الدكتور أحمد أسامة، والحمد لله حالاتهم بتتحسن على إيده، دون الحصول على أى مقابل مالى». وأضافت إن «قداح» يوفر كذلك معامل تحاليل وعلاجًا مجانيًا للمرضى، وفى الحالات التى تحتاج إلى أشعة يحيلها إلى مستشفى مصطفى محمود لإجرائها هناك بالمجان، فى ظل اتفاقه على ذلك مع إدارة المستشفى، كاشفة أنه يفعل ذلك صدقة على روح ابنه ووالدته بعد وفاتهما.