فيما يشبه المظاهرة تحتشد الصفحات فى الفضاء الافتراضى وفى الواقع الورقى بطوفان من المقالات والأطروحات مع كل حدث صادم فى أجوائنا الرتيبة، تنبرى باتجاه التنظير وتقديم نصائح تأتى فى كثير منها مفارقة للواقع، بين التأييد والشجب، وبعضها يتبنى الإنكار أو التبرير، ثم تتوارى الانفعالات لتتجدد مع حدث صادم جديد. شىء من هذا نشهده هذه الأيام مع جريمة مقتل رئيس دير الأنبا مقار بوادى النطرون، وهى الجريمة التى هزت الوجدان المصرى بجملته، لما تشكله الأديرة فى عقله الجمعى ومخزونه الإنسانى من مكانة وسمو وتوقير وإجلال، فضلًا عن وحشية الجريمة وعنفها وملابساتها. ويقفز أمامنا العديد من الأسئلة وربما التخوفات، هل صار العنف خيارًا فى تسوية خلافاتنا، وهل نعيش مفارقة الواقع لزخم منظومة القيم التى تحكم العلاقات داخل أماكن العبادة، وربما نسأل عن تراجع التكوين الفكرى للذهنية المتدينة. وذهب البعض لتحميل الخطاب الدينى مسئولية الانقلاب على قيم استقرت بين جدران المعابد، وهو تحميل يقترب فى جزء منه من الواقع، فالخطاب وهو بالمناسبة ليس فقط كلمات تحتشد بها الدروس والخطب والعظات الدينية لكنه يمتد إلى شبكة العلاقات البينية والممارسات اليومية داخل المنظومة الدينية هو منتج يترجم الفكر الدينى، ومن ثم يكون السؤال عن ماذا حدث للفكر الدينى؟. فى المسيحية يتمحور الفكر الدينى حول حميمية العلاقة بين الإنسان والله، ويتأسس على قيمة المحبة التى كانت وراء خلق الإنسان وقبله الكون، وعندما أراد الإنسان أن يبحث عن مصدر آخر للمعرفة بعيدًا عن الله ذهب إلى العصيان لينفصل عن الله، فتعود المحبة مجددًا لتغزل مسيرة ممتدة فى سعى الله لرد آدم إلى موقعه الأول فكان الفداء وكان التجسد وكانت المصالحة، ومن خلال هذه الثلاثية يسترد آدم ارتباطه بالله، ويأتى الخطاب الدينى ليترجم هذه الرؤية فى منظومة قيم ترتفع بالإنسان ليختبر ويعيش المحبة والسلام والإيثار والبذل والخروج من الذات الى دوائر الحياة حوله؛ البشر والحجر والكائنات، عبر تفاصيل يومه فيبدع وينتج ويمد يد العون خارجه، ويقاوم الشر بالخير. كانت الكنيسة المصرية تعيش هذه الخبرات بامتداد قرون، وتختزن خبراتها بشكل تراكمى، فى رقائق متتالية، لكنها عانت من فترات عصية انقطع فيها هذا التراكم بفعل الانقطاع المعرفى مرتين، حين انتقلت لسانًا من اليونانية الى القبطية فى القرن الخامس عقب مرحلة الصراعات المذهبية وحين انتقلت مرة أخرى من القبطية إلى العربية بفعل التغيرات السياسية التى واكبت تعاقب الحكام وتعسفهم مع حلول القرن العاشر وما بعده، الأمر الذى أربك الفكر الدينى مع كل انتقال، وتنتبه الكنيسة مع القرن التاسع عشر إلى حلجتها لأن تسترد وعيها فى سياق حراك عام مع قدوم محمد على وقبله الحملة الفرنسية وصدمة التعرف على خبرات عالم مما خلف البحر المتوسط، وما أن ينتصف القرن العشرين حتى تسترد الكنيسة المصرية وعيها، ويقود شبابها حركة الإحياء الدينى المسيحى، لكنه يعانى من ندرة المراجع القبطية، فتتعدد المدارس لتنتج فى النهاية طيفا من المصادمات ربما يفسر ما نشهده اليوم. على أن الأمر يتطلب الآن أن يبادر مجمع الأساقفة فى الكنيسة القبطية، باعتباره المسئول عن إدارة الكنيسة وضبط الفكر الدينى، بحسم الخلاف المثار بين الفرقاء، ووضع القواعد المنظمة للحوار وضوابطه، بغير أن تتطاير بينهم اتهامات الهرطقة، وبيان التفريق بين المعتقد والرأى والتفسير، ووقف حملات «التلاسن» سواء بينهم بشكل مباشر أو من خلال «وكلاء» يطلقونهم عبر وسائط التواصل على الشبكة العنكبوتية فى الفضاء الإلكترونى. وكثيرهم لا يدركون أن الحياة الليتورجية والتعاليم الآبائية الكتابية لا يمكن أن نفصلها عن السلوكيات المسيحية، التى تدوسها أطروحاتهم التى تحمل فى عناوينها «صورة التقوى» بينما مضمونها يحمل «معاول تهدم الجسد الواحد»، برعونة وادعاء. ظنى أن أزمة الخطاب الدينى المسيحى المعاصر، هى عدم الانتباه للتغيرات الكونية التى تقتحمنا والمتمثلة فى الثورة الرقمية وما أنتجته من آليات تواصل تجعل الأجيال الجديدة خارج سيطرة المؤسسة الدينية.. فالمعلومة تحت أصابعه بغير ضوابط أو رقابة، وقد تأخذه إلى مسارات بعيدة تصل به إلى الإلحاد، لذلك بات من المحتم أن نعيد النظر فى الخطاب من الشكل إلى المحتوى فى التزام بالمحاور الإيمانية الأساسية والمستقرة فى أدبيات المسيحية. هذا أو الطوفان.