الإنسان فى المسيحية هو حجر الزاوية، والأنسنة هى القاعدة الإيمانية التى تقوم عليها، ومن خلالها تتحدد ملامح العلاقة بين الله والبشر، فبينما يعلن السيد المسيح أنه نور العالم، يعود فيقول موجهاً كلامه لتلاميذه ومن قبلوه «أنتم نور العالم» و«أنتم ملح الأرض»، وفى تعريف التنوير يقول الدكتور وسيم السيسى إنه إضاءة المناطق المعتمة فى الذهنية الجمعية للشعب، ومن هنا يصبح التكليف الأساسى للخطاب الدينى المسيحى هو سعى التنوير، فيعود الإنسان إلى إنسانيته، ويصبح التجديد هو فعلاً متواتراً ولازماً. والاسترشاد بالخبرات الإنسانية فى هذا الأمر يوفر لنا قاعدة انطلاق نواجه بها واقعاً تتنازعه دعوات البغض والكراهية وتفككه الأنانية واختلال القيم، ومن هذه الخبرات ما اجتازته كنيسة روما، بعد عقود طويلة من المواجهة مع التيارات الفكرية والفلسفية التى ولدتها مرحلة الخروج من العصور الوسطى الظلامية، وكادت المواجهة تذهب بها إلى خارج التاريخ. فى خريف عام 1962 تنطلق من الفاتيكان دعوة البابا يوحنا الثالث والعشرين لعقد مؤتمر دولى كنسى (مجمع مسكونى بلغة الكنيسة) يبحث فى واقعها ومستقبلها، وحدد فى خطابه الهدف منه «أن يحقق تجديداً فى الكنيسة وفق مطالب العصر، وأن يجرى مزيداً من الضبط وأن يواجه مطالب الساعة»، ونبه خطاب الدعوة إلى أن هذا الضبط وتلك المواجهة «لا يرتبان بداهة تغييرات فى العقائد بل يرتبان سلوكاً فى تقديمها لتساير بموضوعية أوضاع العالم الحديث، إذ إنه منذ عدة قرون طرأ تغيير عميق على الإطارين التاريخى والاجتماعى للكنيسة»، ويطالب البابا فى السياق ذاته الكنيسة بأن «تبحث عن كيفية تقديم إجابات تناسب العالم فى ضيقاته».. وتمتد أعمال المجمع لتنتهى فى ديسمبر 1965، ويشير البابا بولس السادس فى خطاب جلسة اختتام أعماله إلى أن التحدى الحقيقى الذى واجهه هو معالجة «التباعد والانفصامات التى فرقت بين الكنيسة والحضارة المادية خلال القرون الأخيرة، لا سيما القرن التاسع عشر وقرننا الحالى». لم يقتصر المجمع على رجال الدين بمختلف مستوياتهم وتنوعاتهم من كافة أرجاء العالم، بل شارك فيه خبراء مدنيون (علمانيون) من كافة التخصصات الأكاديمية وأصحاب الخبرة فى الأطروحات والقضايا محل البحث. بل وسبقه استبيان شعبى وفر رصداً للمشكلات المتنوعة التى تشغل بال المؤمنين فى العالم، توافر على فحصها وتبويبها وتقديمها لجلسات وأعمال المجمع عشر لجان تحضيرية. ظنى أن تجربة المجمع الفاتيكانى الثانى هذه، التى تحاول السطور المتاحة استعراضها، تحتاج من الكنيسة المصرية إلى إعادة فحص وقراءة بدءاً من الفكرة والآليات والمنهج لتمصيرها فى لحظة فارقة، بعيداً عن التصورات المسبقة والتربصات التى تحتشد بها اللحظة، فقد خرجت منها كنيسة روما وقد استردت عافيتها وتواصلت مع احتياجات العالم بأسره وتجاوزت الصراعات الطائفية، وانتصرت للإنسان لكونه إنساناً. ولم تستبعد الكنيسة أياً من الملفات أو القضايا وتسلحت بالشفافية والمكاشفة وسعت لمواجهة واقعها بجلد وشجاعة وأعادت صياغة مفهوم الكنيسة والسلطة الرئاسية بها، والعلمانيون والرهبنة ومفهوم القداسة همها الأثير، والطقوس ومفهوم الوحى والحركة المسكونية والعلاقة مع الأديان غير المسيحية، التى امتدت خارج مربع الديانات السماوية، والتعاطى مع المشكلات الآنية فى دوائر الأسرة والثقافة والحياة الاقتصادية والاجتماعية. هذه الخبرة تقول إن تجديد الخطاب الدينى عمل مؤسسى لا يأتى بقرار منفرد ولا بتوافر النيات الحسنة، بل بإقرار أن لدينا ما يجب مراجعته تأسيساً على منظومة قيم نملكها، وهى قادرة على تغيير المشهد المجتمعى لحساب السلام والتنمية بمستوياتها، ولحساب الإنسان، وأعتقد أن الكنيسة المصرية مهيأة لمبادرة جادة للتواصل مع المجتمع ومؤازرته فى مواجهة التطرف وثقافة الكراهية. عبر خطاب دينى إنسانى إيجابى.