بزيادة 87.5%.. قيمة واردات مصر من الغاز ترتفع إلى 6.3 مليار دولار خلال 9 أشهر    الثورة الرقمية في أرض النيل: كيف تُشكّل التكنولوجيا مستقبل العمل في مصر؟    برنامج الأغذية العالمي يحذر من مجاعة..التدخل الخارجى يهدد باستمرار الحرب في السودان    المغرب والأردن في مواجهة الحسم.. التشكيل المتوقع لنهائي كأس العرب 2025    التشكيل الرسمي لمواجهة السعودية والإمارات في كأس العرب 2025    جوارديولا: لو كان مرموش معنا لما لعبت بهذه الطريقة أمام برينتفورد    تصادم أتوبيس وملاكي بالطريق السياحي الدائري| الصحة تكشف أعداد الإصابات    ضبط سيارة زيت طعام غير صالح وفول مصاب بالسوس بساقلته قبل توزيعها على المطاعم    مكانش قصدى أموته.. اعترافات طالب 6 أكتوبر بقتل زميله بقطعة زجاج    المشدد 15 سنة لمتهم بقتل شخص فى مركز طما بسوهاج    تكربم 120 طالبا من حفظة القرآن بمدرسة الحاج حداد الثانوية المشتركة بسوهاج    إقبال ملحوظ على لجان الاقتراع بالسويس في اليوم الثاني لانتخابات الإعادة    التعليم العالي: انضمام 11 فرعا جديدا إلى قائمة الجامعات الأجنبية بمصر    اسعار الفاكهه اليوم الخميس 18ديسمبر 2025 فى أسواق المنيا    وزيرة التنمية المحلية ومحافظ قنا يفتتحان محطة مياه الشرب بقرية حجازة بحري    تخصيص قطع أراضي لإقامة مدارس ومباني تعليمية في 6 محافظات    وزير الاتصالات يفتتح مقر مركز مراقبة الطيف الترددي بمحافظة الجيزة    سد النهضة وتسوية الأزمة السودانية تتصدران قمة السيسي والبرهان اليوم بالقاهرة    إخماد حريق داخل مزرعة دواجن بالفيوم.. وتحرير محضر بالواقعة    تجديد حبس 4 سيدات بتهمة ممارسة الأعمال المنافية للآداب في التجمع    إصابة 4 أشخاص والبحث عن مفقودين في انهيار عقار من 5 طوابق بالمنيا    استهداف سيارة عبر طائرة مسيّرة في مرجعيون بجنوب لبنان    صحة الدقهلية نجاح فريق طبي بمستشفى السنبلاوين فى إعادة بناء وجه وفكين لمصاب    صحة المنيا: تقديم أكثر من 136 ألف خدمة صحية وإجراء 996 عملية جراحية خلال نوفمبر الماضي    أنشطة مكثفة لصناع الخير عضو التحالف الوطنى فى محافظات الوجهين البحرى والقبلى    محافظ كفر الشيخ يعلن فتح اللجان الانتخابية في ثانٍ أيام جولة الإعادة بانتخابات النواب 2025    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الخميس 18 ديسمبر 2025    رئيس الوزراء يصدر قرارًا بإسقاط الجنسية المصرية عن 3 أشخاص    مصدر بالصحة: الدفع ب10 سيارات إسعاف في حادث مروري بدائري المنيب صباح اليوم    وزير العمل يلتقي رئيس اتحاد الحِرَف والمنشآت الصغيرة الإيطالي لتعزيز التعاون في التدريب المهني وتشغيل العمالة المصرية    انطلاق تصويت المصريين في اليوم الثاني لجولة الإعادة للمرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب    مركز التنمية الشبابية يستعد للبطولة التنشطية لمشروع كابيتانو مصر    السفير السعودي: شراكة مؤسسية وتعاون دبلوماسي بين المملكة ومصر في خدمة اللغة العربية    عام استثنائي من النجاحات الإنتخابية الدولية للدبلوماسية المصرية    وزير الثقافة يبحث تعزيز التعاون الثقافي مع هيئة متاحف قطر ويشارك في احتفالات اليوم الوطني    سنوات من المعاناة والغياب عن الأضواء في حياة نيفين مندور قبل وفاتها المأساوية    الكوكي: الأهلي المرشح الأبرز للدوري وبيراميدز أقرب منافسيه    بعد تداول منشور حزبي.. ضبط متطوعين خارج اللجان بزفتى بعد ادعاءات بتوجيه الناخبين    أستاذ علوم سياسية: التوسع الاستيطاني يفرغ عملية السلام من مضمونها    أمريكا توافق على مبيعات أسلحة بقيمة 11.1 مليار دولار لتايوان    الائتلاف المصري لحقوق الإنسان: انطلاق اليوم الحاسم لجولة الإعادة وسط تصويت محسوب واستقرار أمني    وزير الصحة: الذكاء الاصطناعى داعم لأطباء الأشعة وليس بديلًا عنهم    من تخفيض الفائدة إلى مكافأة المحارب.. أبرز وعود ترامب لعام 2026    انخفاض ملحوظ، درجات الحرارة اليوم الخميس في مصر    الاحتلال الإسرائيلي يعتقل شابين خلال اقتحامه بلدتي عنبتا وكفر اللبد شرق طولكرم    إدارة ترامب تسخر من بايدن بلوحة تذكارية على جدار البيت الأبيض    راشد الماجد يشعل حفله في مصر ويهدي أغنية ل ملك السعودية: "عاش سلمان" (فيديو)    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 18ديسمبر 2025 فى المنيا.....اعرف صلاتك    النواب الأمريكي يرفض مشروع قرار لتقييد صلاحيات ترامب    خالد أبو بكر يدعو الجماهير والأندية لدعم الزمالك.. جزء من تاريخ مصر    غياب الزعيم.. نجوم الفن في عزاء شقيقة عادل إمام| صور    سوليما تطرح «بلاش طيبة» بالتعاون مع فريق عمل أغنية «بابا» ل عمرو دياب    يلا شووت.. المغرب والأردن في نهائي كأس العرب 2025: صراع تكتيكي على اللقب بين "أسود الأطلس" و"النشامى"    أبناء قراء القرآن يتحفظون على تجسيد سيرة الآباء والأجداد دراميًا    اقتحام الدول ليس حقًا.. أستاذ بالأزهر يطلق تحذيرًا للشباب من الهجرة غير الشرعية    18 فبراير 2026 أول أيام شهر رمضان فلكيًا    أسوان تكرم 41 سيدة من حافظات القرآن الكريم ضمن حلقات الشيخ شعيب أبو سلامة    باريس سان جيرمان وفلامنجو.. نهائي كأس الإنتركونتيننتال 2025 على صفيح ساخن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د.شاكر عبدالحميد: الأشباح عنده لا تكف عن الضجيج

فى محاولة جديدة للاقتراب أكثر من عالم «شاهين» المحير، قررنا الاستعانة ب«د.شاكر عبدالحميد» أستاذ علم نفس الإبداع بأكاديمية الفنون ووزير الثقافة الأسبق، كى يعاوننا من خلال خبرته فى الطب النفسى والفنون، على إنارة جزء غامض يتعلق بما كان يظهر فى أفلام «شاهين»، ونعرف فيما بعد أن الذى نراه له علاقة بحياته الخاصة، ولأنه ربط الخاص بالعام، فما كان منا إلا أن نربط نحن أيضًا حياته بالأفلام.
أول أفلام يوسف شاهين كان «بابا أمين» وقصته كانت عن أب يحلم بأنه يموت ويتحول إلى شبح، وفى أفلام سيرته الذاتية، وجدنا أن شخصية الأم كانت الأقوى وكان للأب دور هامشى فى اتخاذ القرارات. كيف تفسر دور الأب فى حياته من خلال هذه المعطيات؟
- فكرة غياب الأب وتحوّله إلى شبح فى فيلم « بابا أمين» هى فكرة أو تيمة ذات أبعاد رمزية مهمة جدّا، فالشبح فى الفن والأدب والتراث الإنسانى فكرة أو تصورًا يتعلق بالماضى، لكنه الماضى الذى يزور الحاضر على نحو دائم، يزوره بأفكاره ومشاعره والإحساسات المتعلقة به فى عقول ومشاعر الآخرين، والشبح روح ميت تتجلى وتظهر نفسها كى يراها الآخرون من الأحياء، هو الوهم والسراب والشخص الذى يظهر للعين أو غيرها من الحواس، لكن دون قوام مادى محدد، فهو يكون حاضرًا ومدركًا، لكنه غير قادر على التأثير المباشر، وذلك لأن تأثيراته تكون غامضة وغير متوقعة، ولكنها قد تكون مخيفة ومفزعة ومدمرة أيضًا، إنه يسكن منطقة التصورات والتوقعات والوجدان، يظهر ويختفى، مثل روح هائمة، تجىء وتختفى، ليست حية وليست ميتة، تجمع بين القديم والجديد، الماضى والحاضر، الإدراك والتذكر والتخيل.. ويكون حضورها متعلقًا أكثر بالذكريات، والذكريات المؤلمة تحديدًا، هكذا تحضر الأشباح كى تنكئ الجراح، كى تذكر من تزوره أنها لم تدفن بعيدًا، أنها غير قابلة للنسيان، أنها ستهيم فى المكان كى يتم تذكرها، هكذا كان شبح الأب فى «بابا أمين» يظهر، كى يعبر عن تلك الأزمة التى عاشت فى ظلها أسرته، كى يقول لهم إنه يتذكرهم، ويراهم ويتعاطف من أجلهم، لكنه غير قادر على مساعدتهم، إنهم ينبغى أن يكونوا نسخة مختلفة عن النسخة التى كان عليها، ينبغى أن يكونوا أكثر وعيًا وصلابة وقدرة على المواجهة، هكذا ظهر شبح الأب فى «هاملت» مثلاًً.. وأعتقد أن الشبح فى «بابا أمين» كان يظهر لتذكير أسرته والآخرين بالجرائم التى ارتكبت فى حقه. والأمر كله متعلق أيضًا بصورة الأب فى عقل الابن، الأب الذى كان ينبغى أن يكون قويّا وسندًا وحاميًا، تحول إلى أب ضعيف، غائب، مقهور، حاضر، لكن حضوره يساوى غيابه فى الوقت نفسه.. يبدو أن هذه الصورة الضعيفة للأب وهذا الحضور القوى للأم، وللمرأة بشكل عام، فى أعمال «يوسف شاهين»، له علاقة بطريقة تربيته، وأتوقع أن والدته قد لعبت دورًا كبيرًا فى تربيته وتعليمه، وأن ذلك انعكس على سمات شخصيته وعلى أفكاره، لكن الأمر فى رأيى أيضًا ليس بمثل هذه البساطة، فصور الشخصيات لدى «يوسف شاهين» غالبًا ما كانت صورًا متناقضة تحتوى على الشىء ونقيضه، والأمر كله يتعلق بأزمة الهوية التى أعتقد أن «شاهين» قد عانى منها طيلة حياته، والهوية هنا ليست هويته الشخصية فقط، ولكن أيضًا انتماءاته الثقافية ورؤاه الحضارية وميوله الجمالية..لقد أدى غياب الأب إلى غياب اليقين، إلى اختفاء أو تراجع وجود الأرض الثابتة التى كان ينبغى له أن يقف عليها.
فى أفلام سيرته قام بتعرية خطايا ومساوئ عائلته ونفسه بالطبع. هل تعتبر هذه الجرأة محاولة للتخلص من عُقد نفسية معينة صاحبته فى طفولته وشبابه؟
هل نستطيع أن نوازى أو نقارن أو نطابق بين تعرية الشخصيات فى الأفلام وتعريتها فى الواقع أو حتى فى عالم السيرة الذاتية الخاصة بالمفكرين والأدب؟، لقد فعل «لويس عوض» ذلك، وانتقد عائلته، أمّا فى السينما فالأمر يتعلق بالإيهام والتمويه والرمز والمجاز والتخيل، وهنا سيصعب أن نتحدث عن تعرية حقيقية لخطايا ومساوئ عائلته. فلا تتوافر لدينا- أو على الأقل لدىَّ أنا- معلومات كافية ودقيقة عن عائلته وعن ظروف تربيته المبكرة، وحتى لو فعل ذلك فلا أعرف إذا كان قد فعل ذلك من أجل التخلص من عُقد شخصية معينة صاحبته فى طفولته وشبابه؟ لا أعرف ربما كان هذا صحيحًا وربما لم يكن، ومن كان يعرف العُقد التى كان «يوسف شاهين» يعانى منها! هل كانت لديه عُقد فعلا؟ هل تلعثمه فى الكلام بسبب عُقدة أمْ تربية قاسية أمْ مبالغة فى الحماية over protection، من جانب الأم وتجاهل تام أو عشوائية من جانب الأب؟! لا أعرف ربما كانت القراءة الأعمق لسيرته الذاتية هى الفيصل هنا، وأنا لا أدعى أننى قرأت هذه السيرة إلا من خلال أفلامه وهذه لا يمكن اعتبارها وثيقة نفسية دقيقة لأن المجاز والرمز والتخيل والإسقاطات وعمليات الإنكار والتشويه وغيرها قد تلعب دورًا هنا.
قدم يوسف شاهين أربعة أفلام عن سيرته الذاتية. هل تعتقد أن هذا العدد الكبير كان نوعًا مما يطلق عليها بلغة علم النفس النرجسية؟
طبعًا، الفنانون عمومًا نرجسيون، فما بالنا بفنان ومبدع كبير مثل «يوسف شاهين»! والسينما فن عظيم وهى أيضًا نوع من العلاج النفسى للممثلين والمخرجين والمشاهدين، والنرجسية موجودة لدى هؤلاء جميعًا وغيرهم بدرجات متفاوتة، والنرجسية ليست نوعًا واحدًا، هناك نرجسية ترتبط بالوعى والتأكيد للذات والثقة والإنجاز والطموح وهذه نرجسية ترتبط بنوع من الصحة النفسية، وهناك نرجسية مرضية تتعلق بالتركيز حول الذات وتكرار الإحالة إليها وإلى إنجازاتها، رُغم أن هذه الإنجازات قد تكون مجرد وهْم وتخيلات.. وترتبط النرجسية المرضية بالنزعة الاستعراضية وبانخفاض مستوى النضج العاطفى، وكذلك الحاجة الدائمة إلى المديح والإطراء من جانب الآخرين وإن لم يجد ذلك القدر الكبير المتوقع من الإعجاب من الآخرين، فيبدأ فى الاهتمام والإعجاب بنفسه، وتكون أعماله الفنية وسيلته للحصول على هذا الإعجاب، وقد يتوقع إعجابًا أكبر إذا اشتملت أفلامه على شطحات وغرائب وكسر للتوقعات وصدمات، هنا لدى «يوسف شاهين» نرجسية خفية مطمورة لا تنشغل الذات خلالها بنفسها فقط، بل إنها تطلب من العالم كله أن يقدم لها، مثل هذا الإعجاب، إنها تستغرق فى أحلام ليلها وكوابيسها وحيلها الدفاعية، أو فى أفلامها التى تجسد ذلك كله وأكثر وتكون عودتها من خلال الأفلام، من خلال ألعابها الخيالية والإبداعية، محاولة لتأكيد وجود هذه الذات الهشة أو المهمشة التى أدركت وجودها فى العالم على أنه جرم أو عالم صغير فى كون كبير.. يعود «شاهين» عبر سيرته كشبح، يتجلى على أنحاء شتى، وللشبح هنا قناع أو رمز، وكما كان «هيدجر» يقول، كل قناع تجسيد لانقسام ما، هنا انقسام لذات تواجه نفسها من خلال أقنعتها وتحولاتها ورموزها وتسريباتها وتجسيداتها المختلفة، والأشباح فى أفلام «شاهين» لا تكف عن الضجيج، الأشباح تعبث بالذاكرة، تلحق الخسائر بالنائمين، وتشكل مجموعة من العقول الباطنة، الأشباح قادرة على القيام بكل شىء، وغير قادرة أيضًا على القيام بأى شىء، كل شخصية تحيل إلى الذات فى سينما «شاهين» لا تحيل فعلاً إلى الذات، بل تحيل إلى قمة جبل الجليد الظاهرة من هذه الذات، الذات الحقيقية موجودة فى منطقة الظلال، وعوالم «شاهين» عوالم ظلية، عوالم عميقة. الذات فيها موجودة بين الظل والنور، بين الحضور والغياب وهى عوالم متفككة ومتماسكة خلال الوقت نفسه، والذات تظهر هنا فى صورة ذات ترقص أو تغنى أو تسخر أو تمثل أو ترتدى أقنعة تاريخية أو توهم بشىء أو توحى أو ترمز إلى شىء موجود فى أعماقها هى فقط، وهى فقط التى تعرفه، وما يظهر على الشاشة هو مجرد ظل الصور الحقيقية، أشباح لشخصيات مرّت وتجاوزها الزمن ولمراحل تباعدت وانفضّت.لكنها ظلت موجودة بداخل «شاهين»، الطفل داخل الرجل، والمرأة داخل الرجل، والمغامر داخل الخائف المتردد المرتعش، والمقتحم للجديد والمتراجع المتشكك، القلبى والساخر المستمتع باللذات الحسية والعوالم الفانية. هى دائمًا ذات فى حالة مطاردة لأشياء وخبرات وأفكار وصور وذكريات، أو فى حالة هروب من كل تلك الأشياء، إنها ذات مفككة مراوغة متفكهة مرحة لاعبة ومستمتعة بالحياة وفى الوقت نفسه تعاودها دائمًا نوبات من الكآبة والحزن والشعور بخواء العالم والأشياء.
فى فيلم «الاختيار»- وهو فيلم سيكودراما من الدرجة الأولى، ويُعتبر الفيلم الوحيد ل«شاهين» فى هذه النوعية- تناول قصة الانفصام. هل يعبر ذلك عن شعوره بالانفصام نتيجة ما يشعر به من حب وإقبال على الحياة وبين ضرورة أن يلتزم بنوع معين من الوقار نتيجة وضعه الاجتماعى كشخصية عامة؟
- أعتقد أن فيلم «الاختيار» كان يمثل محاولة من كاتبه «نجيب محفوظ» عن تلك الأسئلة الكبرى التى تواجه الإنسان، خصوصًا إذا كان ذا عقل قلق متسائل مستطلع مفعم بالفضول والرغبة فى المعرفة، أقصد تلك الأسئلة المتعلقة بالحب والحرية والحقيقة والطبيعة البشرية، قد يُفهم الفيلم على أنه حالة فصام schezophrenia أو حالة ازدواج شخصية أو حالة شبه فصامية، أى على الحدود بين الصحة والمرض، أى على مشارف الفصام، لكنه لم يصبح بعد فصاميّا لأنه لم يزل يتمتع بنوع من الوعى والقدرة على التساؤل والرغبة فى المعرفة، رُغْمَ ما تشى به حياته من تصدع وانقسام وهو يكون لديه خلال الوقت نفسه نوع من الشعور بالقدرة الكلية على القيام بكل ما يرغب فيه، وفى الوقت نفسه نوع من العجز والخوف من التحقق والاكتمال وتركيز مفرط حول الذات وإحساس أيضًا بالانعزال والانفصال وانشغال دائم بالعالم الباطن.. وكذلك الميل المستمر إلى الاجترار والاستعادة الدائمة للأفكار والمواقف والتفسيرات ثم محاولة للانسحاب الاجتماعى والغرابة والشذوذ السلوكى والتلقائية الضعيفة ووجدان سطحى وميل إلى التفلسف وتحويل العالم الحقيقى إلى العالم من الصور والأخيلة والكلمات.. والأمر كله يمثل أزمة فى الهوية وأزمة أيضًا فى التكيف مع الواقع ومع الحياة.. هكذا يتعلق النمط شبه الفصامى بشخص سليم ظاهريّا، لكنه مريض داخليّا، يتظاهر بالقوة وهو شديد الهشاشة والضعف والقابلية للانجراح والكسر، قد يكون فنانًا أو مجرمًا أو ثوريّا أو متعصبًا دينيّا، انطوائيّا أو انبساطيّا..متذوقًا للفنون، أليفًا أو متحقرًا للثقافة السائدة متهكمًا منها ومن نفسه ومن الآخر، لكنه بشكل عام غير قادر على الإحساس بالهوية أو التكيف أو الاتزان فى ظل المعايير السائدة، هكذا كان الحال بالنسبة ل«محمود» أو «سيد» فى هذا الفيلم وكذلك بالنسبة لشخصيات أخرى، نوع من أزمة الهوية ونوع كذلك من البحث عن الهوية، والهوية هنا ضائعة أو مفقودة أو مهمشة أو متجسدة فى شكل حلم ضاع وتهاوى وانكسر بعد أن ظن أصحابه أنه كان قويّا محصنًا. وقد ظهر هذا الفيلم عام 1971 وأعتقد أنه كان يجسد هوية مصر بعد هزيمة 1967 وأنه كان يدين تلك الأفكار والأحلام الكبرى حين كنا نعتقد أن مصر قوية وأن زعيمها «جمال عبدالناصر» محصّن أو منيع ضد الكسر وضد الهزيمة، ثم فوجئنا بالكارثة الكبرى، ما نعتقد أنه قوى قد يحوى بداخله بذور الضعف، وما نعتقد أنه منبع قد نكتشف أنه هش ومن نظنه ناجحًا قد يكون مجرد واجهة للاضطراب والمرض والإخفاق.
فى آخر أفلامه «هى فوضى»- 2007- شاهدنا مشهد هجوم الناس على قسم شرطة، وفى ثورة يناير 2011 تكرر المشهد نفسه.. هل يُعتبر ذلك نوعًا من الذكاء فى قراءة ما سوف يحدث أمْ حدسًا أقوى من العادى؟
- فى هذا المشهد وذلك الفيلم نوع من الذكاء ونوع من الحدس غير العادى أيضًا، وأعتقد أن «شاهين» كان يقرأ الواقع المصرى جيدًا ولم يكن بعيدًا عن أحداثه، وأعتقد أنه كان يتوقع أن هذا هو المشهد الختامى بعد الضغوط التى كان الناس يعانون منها، إنه مشهد يذكرنا بما قرأناه عن اقتحام الباستيل أثناء الثورة الفرنسية واقتحام أقسام الشرطة فى مدينة بيلا بكفر الشيخ خلال العشرين سنة الماضية، أو فى رومانيا وغيرها، والمشهد بشكل عام تجسيد لمشاعر القهر والظلم التى لم تعد تحتمل الانتظار، هى تجسيد للانفجار الذى لم يتوقعه من كان يحكم مصر قبل ثورة يناير 2011، وهو درس غالبًا ما ينساه من يستبد بالسُّلطة ويركن إلى معاناة ونفاق حاشية فاسدة منافقة.
فى المشهد الأخير من فيلم «المصير» تحرق جميع كتب البطل «ابن رشد».. وكان البعض قد نادَى بحرق أفلام «شاهين» عقب أزمة فيلم «المهاجر»- الفيلم الذى سبق «المصير» مباشرة- هل كان هذا المشهد مردودًا لما واجهه من احتمالية حرق أفلامه، خصوصًا أنه أظهر استعداده أو تصالحه مع هذا الأمر بعد إدراكه الذى عبّر عنه فى حوار الفيلم بأن الأفكار لها أجنحة محدش يقدر يمنعها توصل للناس؟
- ربما يكون الأمر كذلك، وربما كان «شاهين» يُحذر من حرائق كثيرة قادمة لحرق الكتب والأفلام واللوحات الفنية.. لقد جسّد «شاهين» مأساة «ابن رشد»، لكنه كان فى الوقت نفسه يُعبر عن مخاوفه الخاصة بالنسبة لأعماله هو، وكذلك مخاوفه بالنسبة للثقافة المصرية بشكل عام ، خصوصًا ما يتعلق بثقافة التنوير والإبداع، والتقدم والحرية.. لقد وضع الحرق فى مقابل الفكر، فالحرق لكتب «ابن رشد» لم يكن متعلقًا بحرق الورق الذى احتوت عليه تلك الكتب بقدر ما كان متعلقًا بحرق الأفكار التى احتوت عليها، حرقت كتب «ابن رشد» وتم نفيه لأنه كان يؤكد دائمًا دور العقل المستقل فى محاكمة وفهْم الأمور. وخلال الحقبة النازية حرقت كتب «بريخت» و«فرويد» وأعمال فنية كبيرة وقد كان «شاهين» يحاول خلال ذلك كله أن يوجه الأنظار إلى حضور دعاة الظلام والموت والتخلف المتزايد فى الثقافة المصرية وأن يدين هيمنة الفكر الشيطانى الظلامى المعتم المخيف الذى يرفض كل فكرة مختلفة وكل رأى جديد ويسعى لتكريس النمطية والاتباع والجهل وثقافة القطيع.
الكثير اعتبروا يوسف شاهين «خواجة» رُغْمَ أن أفلامه كانت تعنى كثيرًا بمصر ومشاكلها. وكان دائم الانتقاد للقوى العظمى، خصوصًا أمريكا. كيف يستطيع أى إنسان أن يواجه مثل تلك الأزمة. بأن يحاصره الناس بصورة هى ليست صورته الحقيقية؟
- كيف يكون من أخرج أفلامًا مثل أفلام «يوسف شاهين» على مدار تاريخه الفنى، خواجة، لقد ذهب «شاهين» إلى أمريكا ودرس المسرح وعندما عاد إلى مصر فى أوائل خمسينيات القرن الماضى وفى كل أفلامه كان مصريّا، لكنه كان يحلم بمصر أخرى، كان يحلم بمصر قوية عفية زاخرة بالحرية والعدالة الاجتماعية والفن والإبداع والكرامة الإنسانية، لكن ما كان يجده هو الاستبداد والظلم والفقر والجهل والمرض، ورُغْمَ أصوله «اللبنانية من ناحية الأب» واليونانية «من ناحية الأم»، فإن «شاهين» كان أكثر تحمسًا لوطنه من الكثيرين، وقد كان حريصًا على وجود السينما المصرية فى المهرجانات العالمية ولم يكن يعتبر حصوله على جوائز عالمية تقديرًا لفنه وإبداعه فقط بل لبلده ولثقافتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.