نفذ الرئيس ترامب ما وعد به إبان حملته الانتخابية، وأعلن انسحاب الولاياتالمتحدةالأمريكية من الاتفاق الدولى مع إيران بشأن برنامجها النووى مع استمرار فرض العقوبات الأمريكية على إيران، بل والمزيد منها فى حال إقدام طهران على تخصيب اليورانيوم بالمعدلات العالية، واستئناف نشاطاتها النووية. الأطراف الدولية المشاركة فى الاتفاق حاولت فى السابق إقناع إدارة ترامب بالمحافظة على الاتفاق وعدم الخروج منه؛ إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل! وحتى بعد أن أعلن ترامب خروجه من الاتفاق؛ فإن الأطراف الدولية الأخرى (الأوروبية) – فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا - يسعون خلال تلك المرحلة إلى إقناع إيران بضرورة الإبقاء على الاتفاق، وأنهم ملتزمون به.. لكن إيران تطالب تلك الأطراف بضمانات أكبر من أن يستطيع الأوروبيون تقديمها أو تنفيذها. ولعل هذا ما دفع المستشارة الألمانية (أنجيلا ميركل) إلى محاولة الوقوف فى (منتصف المسافة) بين طهرانوواشنطن، عندما أعلنت أنه لابد أن نتحدث الآن عن اتفاق نووى شامل مع إيران.. وهذا ما سبق أن رفضته إيران. وكانت تصريحات قائد الحرس الثورى الإيرانى محمد على جعفري، قد قللت من إمكانية أن تلتزم طهران بوقف برنامجها النووى العسكرى طالما انسحبت واشنطن من الاتفاق؛ لأن الأوروبيين مرتبطون بالولاياتالمتحدة، ولا يمكنهم اتخاذ قرار مستقل (على حد قوله). وبذلك.. فإن المسئولين الإيرانيين يرون أن بلادهم أصبحت فى حلٍ من أمرها، وسوف تواصل ما توقفت عنده عندما تم توقيع الاتفاق (إذا كانت توقفت أصلا)؛ لأن الخبرة والتجربة مع إيران تشير إلى أن استراتيجيتها فى المنطقة، والخليج العربى محددة، ولن تغيرها.. ولكن ما تقوم بتغييره هو مسئولون بوجوه مختلفة. والمتابع لإيران فى هذا الشأن يجد أنها فى الأساس عندما شرعت فى برنامجها النووى العسكرى – بالرغم من انضمامها لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية – فإنها لم تنتظر أحدًا أو تستأذن.. بل قامت بإنشاء برنامجها السرى بصورة موازية مع برنامجها المعلن للوكالة الدولية للطاقة النووية. وهى كانت ماضية فى برنامجها العسكرى السري، وخطت فيه خطوات متقدمة وصلت فيه إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 %، لولا أن تم اكتشاف أمرها فى أواخر التسعينيات من القرن الماضي. فى عام 2002 كشفت الاستخبارات الأمريكية وجود اثنتين من المنشآت النووية السرية: (منشأة لتخصيب اليورانيوم فى ناطنز) و(محطة لإنتاج الماء الثقيل بالقرب من آراك). ومنذ ذلك التاريخ استطاعت إيران أن تدخل القوى الدولية فى مفاوضات ماراثونية امتدت قرابة 13 عامًَا حتى وصلت إلى اتفاق معها فى عام 2015.. وكان بموجب هذا الاتفاق أن تلتزم طهران بالتخلى لمدة لا تقل عن 10 سنوات، عن أجزاء حيوية من برنامجها النووي، وتقييده بشكل كبير، بهدف منعها من امتلاك القدرة على تطوير أسلحة نووية، مقابل رفع العقوبات عنها، وأن لا تزيد نسبة تخصب اليورانيوم على 3.67 % بعد أن وصلت إلى نسبة 20 % قبل الاتفاق. وفى حقيقة الأمر.. فإن توقيع الاتفاق كان مكسبًا لإيران؛ لأنه بعد توقيع الاتفاق بأيام تدفق على الخزانة الإيرانية ما يقرب من 100 مليار دولار تقريبًا من الأموال المجمدة، ولعل هذا ما دفع وزير النقل الإيرانى إلى الإعلان عن أن بلاده توصلت لاتفاق مع شركة كونسرتيوم لتصنيع الطائرات (إيرباص) لشراء 114 طائرة ركاب، لتحديث أسطولها. كما أنه بموجب الاتفاق حصلت طهران على اعتراف دولى من جانب القوى الدولية بالحق فى برنامجها النووى الذى بدأت فيه بصورة سرية.. وأن تقوم باستكماله بعد عشر سنوات، أى أنه بموجب الاتفاق فإن إيران سوف تعمل وتستكمل ما كانت تقوم به منذ أن بدأت فى برنامجها النووي.. ولكن بصورة علانية وأمام القوى الدولية.. ولعل هذا ما أقلق إسرائيل التى طالما ادّعت أنها ستكون الهدف المحدد فى حال حيازة إيران لسلاح نووي، وقد شنت إسرائيل منذ توقيع الاتفاق النووى حملة ضده على جميع الجبهات. وبذل نتنياهو جهودًَا ضد الاتفاق.. وفى عام 2015 تحدى إدارة الرئيس الأمريكى (باراك أوباما) بذهابه أمام الكونجرس وإلقائه خطابا هناك داعيًا إياه لمعارضة الصفقة. لكن لم يكن أوباما وإدارته بنفس التوافق والتجاوب مع نتانياهو كإدارة دونالد ترامب، الذى قرأ خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو كلمة كلمة دون أخطاء.. على حد وصف المحلل الإسرائيلى بن كاسبيت فى صحيفة معاريف الإسرائيلية). وكان لنتنياهو ما أراد.. فقد حصل على (الحُسنَيَينِ) من إدارة ترامب : الأولى – اعتراف أمريكى بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها، والثانية – انسحاب أمريكى من الاتفاق النووى مع إيران. إيران كعادتها استغلت القرار الأمريكى أحسن استغلال، وظهر الخطاب السياسى للمسئولين الإيرانيين منذ إعلان ترامب انسحابه من الاتفاق، بأن طهران لم تتنصل من اتفاقاتها الدولية، وأن واشنطن لا تحترم الاتفاقيات الدولية؛ بل إن إيران وجدت ذريعة؛ لكى تواصل العمل فى برنامجها وتخصيب اليورانيوم بحجة أنها لم تكن البادئة فى انهيار الاتفاق. ولعل هذا ما عبر عنه الرئيس الإيرانى حسن روحانى فور كلمة ترامب فى خطاب بثه التليفزيون الرسمي، إذ قال روحانى : (لقد أصدرت تعليمات إلى الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية للقيام بما هو ضرورى (...) بحيث نستأنف التخصيب الصناعى اللامحدود إذا لزم الأمر). رئيس مجلس الشورى الإيرانى (على لارجاني) أكد على أن طهران لم تعد ملزمة بأى اتفاق، وأن إيران ستعيد الأمريكيين لرشدهم من خلال تجاربهم النووية. تلك التصريحات الصادرة عن المسئولين الإيرانيين تشير إلى أمر فى غاية الأهمية والخطورة، وهو أن إيران من الممكن أن تعلن صبيحة أحد الأيام أنها تمتلك القنبلة النووية، وتكون واقعًا استراتيجيا فى الإقليم، خاصة وأن الحالات المماثلة التى سبقت إيران والتى امتلكت القنبلة النووية لم تكن بعيدة عن إيران – لا زمانيًا ولا جغرافيًا كالهند 1974، وباكستان 1994 – إذ تتشابه ظروفهما وإمكانياتهما مع إيران من عدة أمور: أولاً: إن تلك الدول اعتمدت على نفسها فى تطوير برامجها النووية العسكرية، أى لم تستورد مفاعلات نووية كحالة العراق أو تنوى شراء قنابل نووية كما أعلنت إحدى الدول العربية من قبل، وإنما بدأت برامجها النووية العسكرية بخبرة ذاتية وعلماء محليين ليسوا مستوردين وهذا ما تقوم به إيران. ثانيا: يمثل التسابق للحصول على السلاح النووى وامتلاك الترسانة النووية هدفًا استراتيجيًا لكلا الطرفين: الهندوباكستان، ولم يقف الحد لكل طرف فى تجربة سلاحه النووى بنجاح، بل سعى كل منهما فى التوسع بعدد وحجم الرؤوس النووية وامتلاك القدرات الصاروخية لحمل هذه الرؤوس لمسافات بعيدة تغطى أهدافا واسعة، ولعل هذا ما أدركته إيران أثناء التفاوض مع القوى الدولية، وحرصت على أن لا يتضمن الاتفاق نشاط وبرامج إيران الصاروخية الباليستية.. ورفضت بشكل قاطع أن يتم التطرق إلى نشاط إيران الصاروخى أو إضافة أى ملاحق للاتفاق النووي. ثالثا: أنهما دشنا برامجهما النووية العسكرية بصورة سرية ومخالفة للقرارات والمواثيق الدولية.. ولم يلتزما بقرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية مثلما التزم العرب بها. رابعا: أن كلتا الحالتين المشار إليهما (الهندوباكستان) تتشابهان مع إيران من ناحية الظروف المعيشية والاقتصادية الصعبة التى تعيشها تلك الدول.. كما أن التشابه أيضا من الناحية السياسية والإثنية والدينية والعرقية فى إقليمهما، فالتنوع والاختلاف هو السمة السائدة فى تلك الدول، والامتدادات الدينية والعرقية بين سكان تلك الدول التى كانت سببا فى تأجج الصراع بين الحين والآخر بين تلك الدول، ومحاولات هيمنة دول الجوار أو هيمنة دولة على أخرى أمر ظاهر للعيان. فالخلاف بين الهندوباكستان على إقليم كشمير كان سببًا فى اندلاع ثلاث حروب بينهما وامتلاكهما للسلاح النووى مما أوجد سياسة الردع بينهما.. والهند التى دخلت مع الصين فى حرب على الحدود عام 1962، ولا زالت العلاقات الهنديةالصينية يشوبها التوتر. والخلاف السياسى والعقائدى والإثنى بين باكستانوإيران ممتد ومرشح للتصعيد، وطموح إيران فى فرض نفوذها وهيمنتها على الخليج العربى أمر واضح وتبنته (إيران الثورة) منذ عام 1979، فكانت حربها مع العراق 1980-1988، وتهديدها لأمن السعودية والبحرين والإمارات من خلال دعمها لجماعات متطرفة وإمدادهم بالسلاح والصواريخ.. لذلك؛ فإن إيران لا يمكن بأى حال أن تتخلى عن طموحها فى أن تكون دولة تمتلك السلاح النووى؛ لكى تحقق ما تهدف إليه!