رأى الرئيس جمال عبدالناصر أن مفتاح التنمية لا بدّ أن يمر عبر الهياكل الاقتصادية وبناء اقتصاد مؤمم أساسه الصناعة، وهو ما يستدعى دولة مركزية تخطط لتحديث المجتمع، أو تقوم بالتعبئة العامة لإنجاز التحولات الجذرية المطلوبة فى زمن مختزل. وإذا كانت الدولة فى عهد عبدالناصر وضعت التصنيع فى المقدمة بديلاً عن الاستيراد، وأمدت البلاد ببنية تحتية صناعية مهمة، فإن سياسة التصنيع لم تكن موفقة فى كل الأحوال، فقد مرت فترات غلب فيها الكم على الكيف، وأصبح زيادة عدد المصانع هو الهدف الأسمى. وكان هناك تفضيل للصناعات التى تتطلب استثمارات ضخمة بطبيعتها، رغم أن الحجم الذى تقرر لا يحقق وفورات الإنتاج الكبير على الوجه الأمثل، ومن أمثلة ذلك صناعات الحديد والصلب وتجميع السيارات والسلع المعمرة. ويستفاد من تقارير الجهاز المركزى للمحاسبات، أنه فى عام 1968/1969 المالية، حققت 240 شركة فى القطاع العام أرباحًا مجموعها 125 مليون جنيه، وحققت 29 شركة أخرى أرباحًا استخدمت فى تغطية خسائر مُرحلة من سنوات سابقة، فى حين أظهرت 79 شركة خسائر لأسباب مختلفة، بينها سوء التخطيط وعدم إحكام الرقابة والمتابعة، وتأخر الحصول على الحصة النقدية والعملات الأجنبية وقصور تلك الموارد عن الحاجة، وعدم التنسيق بين جهازى الإنتاج والتوزيع (فى شركات الغزل مثلاً)، وقصور الطلب الحكومى (كما هى الحال فى عقود هيئة المواصلات السلكية واللاسلكية، العميل الرئيسى لشركة المعصرة للصناعات الحربية والتليفونات)، وتحديد أسعار السلع والخدمات المقدمة أو المنتجة أحيانًا دون أسعار التكلفة التى زادت باطراد التضخم (مثل أسعار منتجات شركة الحديد والصلب التى لم ترتفع رغم ارتفاع السعر العالمى للكوك، وهو من أهم مستلزمات إنتاج الصلب). لم يمنع الاهتمام بالقطاع العام ظهور مشكلات خطيرة فى أدائه، حتى بات إلحاق كلمة «العام» بأى شيء فى مصر مرادفًا لغياب الخدمة أو تواضعها. فقد استخدم لامتصاص الأعداد المتزايدة من الخريجين وتوفير البضائع المدعومة للمواطنين مما أبطأ من مسيرة التصنيع. وفشلت الحكومة فى إطلاق الخطة الخمسية الثانية الموضوعة للفترة 1965-66-69-1970. أما القطاع الخاص، فقد أبدى جمال عبدالناصر فى عام 1958 اهتمامه بأن يتعاون هذا القطاع فى خطة التنمية، ولكنه أصر على أنه «لكى يشارك يجب أن يقبل أنظمة الدولة، ويعمل بها، فلا يكون هناك احتكار ولا استغلال ولا إساءة، ثم فى نفس الوقت يكون العمل فى حدود الخطة، بالتعاون مع القطاع العام، من أجل المنفعة العامة». وقال عبدالناصر فى اجتماع له مع الوزراء المركزيين والتنفيذيين لمناقشة خطة التنمية لمضاعفة الدخل القومى فى عشر سنوات، فى 24 يناير 1961: «إننا يجب أن نصل إلى القطاع الخاص حتى نجمع استثمارات، بحيث نضع التنمية الاقتصادية موضع التمييز. أما إذا كان القطاع الخاص غير مؤمن بالأهداف التى نسير عليها، ويقولون: لا فائدة! إذًا، كيف نضمن القطاع الخاص مهما عملنا أو قلنا؟! وإذا بدأ يساوم، فذلك سيجرنا إلى أنه لن يطمئن إلا إذا سيطر على الاقتصاد! ولم يقتنع القطاع الخاص أبدًا!». على الأرض، كانت القرارات الاشتراكية التى أعلنها عبدالناصر خلال الفترة بين 19 و23 يوليو 1961، أشبه بالعدَّاء الذى يخوض سباق الموانع، ما يكاد يتجاوز أحدها حتى يجد أمامه الآخر، كأنه وعدٌ بالتحدى والتصدى. والقرارات التى نعنيها هى تلك التى شملت عددًا كبيرًا من الشركات الصناعية والتجارية فى مصر، وكذا المصارف وشركات التأمين وشركات النقل العام والمقاولات والكهرباء، كما أصبحت الحكومة شريكة بالنصف فى رأس مال بعض الشركات الأخرى. وللعمال نصيبٌ أيضًا من تلك القرارات. فقد أصبح من حق العمال والمشتغلين فى الشركات والمؤسسات الصناعية والتجارية الحصول على نسبة 25 % من الأرباح فى شكل خدمات اجتماعية، كما أصبح لهم الحق فى المساهمة فى إدارة تلك الشركات والمؤسسات بأن يمثلوا فى مجلس إدارتها بعضو مقابل 7 أعضاء، وأن يتم ذلك عن طريق انتخاب من يمثلونهم وتخفيض عدد ساعات العمل اليومية من دون تخفيض الأجور، وزيدت أيضًا نسبة الضرائب على الإيراد العام. هذه القرارات التى أطلق عليها لاحقًا القرارات الثورية الاشتراكية، سبقتها قرارات أخرى مماثلة فى عام 1960 تقضى بتأميم البنك الأهلى وبنك مصر (11 فبراير 1960) وشركاتهما الصناعية والتجارية، وشركات النقل الداخلى بالقاهرة، وكذلك انتزعت تجارة الشاى والأدوية من أيدى القطاع الخاص، وتم أيضًا تأميم شركات الأقطان التجارية وجميع شركات التجارة الخارجية فى يونيو 1961، إضافة إلى ما كان قد سبقت مصادرته من ممتلكات الرعايا البريطانيين والفرنسيين واليهود. وهكذا سارت مصر على نهج ما سُمى «تأميم الصراع الطبقي»، من قرارات تأميم قناة السويس والبنوك وشركات التأمين والتجارة الخارجية، إلى قرارات الحراسة التى استهدفت أصلاً مطاردة الثروات الطائلة التى تمكنت من الإفلات من قوانين الإصلاح الزراعى ومن قوانين التأميم فى يوليو 1961. وبحلول بداية عام 1962، أصبحت كل البنوك، والصناعات الثقيلة، وشركات التأمين والمشروعات الاقتصادية الرئيسية، مملوكة للدولة، وأصبح على كل الوحدات الاقتصادية المتوسطة الحجم أن تقبل مشاركة حكومية تبلغ 51 % فى رأسمالها، وبالتالى فى إدارتها. وأصبح هناك أيضًا قطاع واسع من النشاط الاقتصادى المتوسط والخفيف يدور فى فلك الدولة أو يدار بمشاركتها، وأدخلت كل شبكة النشاط الاقتصادى ضمن «المؤسسات العامة» التى أنشئت حديثًا والتى كان عددها 38 مؤسسة فى البداية. وجاءت «الثورة الثالثة» فى 12 أغسطس 1963 بموجة جديدة من التشريعات التى أممت 228 شركة فى الصناعة والمواصلات والمناجم. وسُمِحَ لحملة الأسهم بتلقى تعويض فى شكل سندات حكومية تحمل فائدة 4 % سنويًا وتدفع خلال 15 سنة، وتبع ذلك تأميم 177 شركة (تشمل المواصلات الداخلية وثلاثة مصانع للسلاح) فى 11 نوفمبر 1963، ثم جاء دور شركات الأراضى (18 نوفمبر 1963). الموجة الجديدة من إجراءات التأميم فى أغسطس 1963 جعلت 80 % من الصناعة داخل القطاع العام. كما أن مراسيم نوفمبر هدفت إلى جعل القطاع العام يمارس تأثيرًا غالبًا فى التجارة والمواصلات ومصانع الأسلحة. فى تلك الفترة، تهاوت طبقات واحتكارات طبقية ترمز إلى القوى الرأسمالية القديمة، وإن كانت قوى أخرى قد بدأت تظهر بالتدريج، من التكنوقراط (الاقتصاديين والمهندسين وأساتذة الجامعات والإداريين)، والسياسيين والعسكريين السابقين، الذين أصبحوا قادة القطاع العام، الذى ورث بدوره الرأسمالية المصرية والأجنبية فى مصر على حد سواء. ويرى لمعى المطيعى أنه بعد قيام ثورة 1952 «نشأت قيادات كثيرة فى القطاع العام وفى الحكومة استطاعت أن تكوِّن ثرواتٍ كبيرة، مستندة فى ذلك إلى قربها من مواقع السلطة وتداخلها معها». وعقب الموجة الأولى من قوانين التأميم عام 1961، حذر عبدالناصر من احتمال انحراف القادة الجدد فى القطاع العام قائلاً: «لا ينبغى لنا مهما كان الثمن أن نسمح لظهور طبقة جديدة تظن أن الامتيازات إرثٌ لها بعد الطبقة القديمة وعلينا أن نقاوم هذا الانحراف، ونثور عليه إذا اقتضى الأمر ونجرده من أى سلاح يكون قد حصل عليه».