بلطف غير مصطنع استقبل اتصالى الهاتفى المفاجئ بالنسبة له، اتصلت أطلب تحديد موعد لزيارته فى منزله، ألم يحن الوقت لفتح ألبوم ذكرياتك مع «كروان الشرق فايزة أحمد»، سألته، ومنعًا للرفض رحت أبادر بتذكيره: بعد أيام تحل ذكرى ميلادها الثالثة والثمانين، لكنى وجدته يكمل لى المعلومة: طبعا فى الخامس من ديسمبر من كل عام، قالها بطريقة تكشف عمق اهتمامه بهذا الموعد. بود شديد أكمل كلامه: أهلا وسهلًا، بابى مفتوح للحديث عنها، أنا لا أمل سرد كل ذكرياتى معها، خاصة إذا كان ذلك للنشر على صفحات «روزاليوسف» التى كانت مجلتها المفضلة، أنا هنا لأتحدث عنها وأخلد ذكراها بعد أن رحلت وتركتنى أواجه الحياة وحيدًا. فى تمام الساعة الواحدة كان موعد لقائنا فى «العش الجميل» الذى جمع بين «كروان الشرق» والموسيقار الكبير «محمد سلطان» أحد فنانى الزمن الجميل، على كورنيش النيل فى منطقة «جاردن سيتي»، كانت قبلتنا صوب العقار الفخم الذى جمع بين العشيقين. وقفنا أمام الشقة رقم «9»، ومع دقة الجرس الأولى فتح الباب رجل من طراز نادر، مازال يحتفظ ببريق خاص رغم تجاوزه الثمانين من عمره، ابتسامته ولغة جسده وطريقته فى الحوار مفعمة بقواعد الإتيكيت، لم يترك لنا مجالا للدهشة وقال: رغم تجاوزى سن الثمانين، لكنى رجل رياضى وأستقبل ضيوفى بنفسى. بعد خطوات من باب شقته وجدناه يستقبلنا مرة أخرى عبر صورة ضخمة له فى شبابه، وضعها فى مكان يراه كل من قرر زيارة منزله الفخم، وبعد تجاوز خطوات أخرى داخل المنزل، تدرك أنك فى صومعة خاصة بالفعل للعاشقين «فايزة أحمد» و«محمد سلطان»، وتفاصيلها تدل على ذلك حتى وإن مر الزمن عليها وتغيرت ملامح الجمال. فى عش «الكروان» و«السلطان» خمسة أركان تضمها ساحة الاستقبال الخاصة بالمنزل، كل منها يتميز بلون مغاير يضفى عليه قدرًا كبيرًا من الهدوء والسكينة، مزيج من الزهور الملونة والأضواء الخافتة الرومانسية، كل ركن تستشعر وكأن الحبيبين لم يفارقاه حتى اللحظة من خلال صورهما الموجودة فيه. الركن الأول عبارة عن جلسة صغيرة تتسع لأربعة أفراد وبه صورة للفنانة فايزة أحمد فى شبابها تقابلها صورة أخرى للموسيقار العاشق فى نفس السن تقريبًا، ومن حولهما باقة من الزهور، المنظر فى مجمله وكأنه مشهد حى يتحدث خلاله النجمان عن فترات الصبا ويسردان ما حققاه من نجومية فى عالم الفن وعلى وجهيهما ابتسامة تجمع بين الثقة والسعادة. تحيط بالركن الثانى صورة ضخمة للفنانة «فايزة أحمد» تزين جزءًا كبيرًا من الحائط، تتميز فيها الفنانة الراحلة بقدر عالٍ من الجمال والأناقة، أسفل الصورة أكثر من 50 تكريمًا تروى السيرة الذاتية للفنانين العملاقين، بين شهادات تقدير ونياشين وأوسمة وميداليات ودروع تؤكد إبداعهما الخالد فى قلوب من أحبوهما.. وفى المقابل تعلو الجدار صورة ضخمة أخرى للفنانة «فايزة أحمد» تكاد ملامحها تنطق فيها لتتحدث لزوار المكان. الركن الثالث فى المنزل مخصص لصور الزوجين مع الرئيس السادات فى حفلات جمعتهم معًا، فقد جمعت بين الزوجين والرئيس الراحل علاقة صداقة قوية تظهر من خلال الصور، وإلى جوار صور الرئيس سيف تكريم للموسيقار محمد سلطان. بالقرب من الشرفة هناك ركن خاص يحوى تمثالًا للموسيقار محمد سلطان باللون الأبيض، وبجواره صورة أخرى نادرة للفنانة الراحلة، بينما يعكس الركن الخامس والأخير شكل الحياة الأسرية التى جمعتهما، ويحرص «سلطان» على قضاء معظم أوقاته فيه لما يحمله من ملامح خاصة، فهو يضم صور الأب والأم مع الأبناء، ويغلب اللون الأخضر على تفاصيله، وهو يطل على الشرفة أيضًا. دموع فى عيون وفية فى الركن المفضل له جلس معنا سلطان بهيئته المهندمة، وخلال حديثه معنا ظهر حرصه على قواعد الإتيكيت، وفى بداية كلماتنا استوقفناه للاطمئنان على صحته بعد تعرضه لوعكة صحية نقل على أثرها إلى المستشفى منذ عدة شهور فقال: صحتى سيئة جدًا، فمع أقل قدر من الحركة أشعر بالإرهاق وليس هناك مرض محدد أقطع بأننى مصاب به، لكنها الشيخوخة وبعد عدة كشوفات قال الطبيب ليس لدى سوى «إرهاق»، وقد حضر «طارق» ابنى الأكبر من فايزة أحمد من روسيا للجلوس معى عدة أيام وتولى الكشف عليّ بنفسه، وكتب لى قائمة بالأدوية والفيتامينات طلب منى الانتظام فى تناولها. عندما انتقلنا إلى تفاصيل الحوار، لم يتماسك محمد سلطان وذرفت عيناه وقال معتذرًا: «سامحونى، لا أستطيع التحكم فى مشاعرى أثناء الحديث عنها، فى تلك اللحظات تتملكنى مشاعر مختلطة بين الحب والاشتياق، فهى لا تفارقنى، فأنا عاشق من طراز خاص فهى لم تكن زوجتى فقط، بل كانت حبيبتى وصديقتى وزوجتى ومطربتى المفضلة، وسوف أستفيض فى الحديث عن ذكرياتنا فى الأيام التى كنا نحتفل معا بيوم ميلادها». كانت «فايزة» تستقبل العديد من المكالمات الهاتفية من أصدقائها من الفنانين، لكنها كانت دائمًا ترفض الاحتفال بذلك اليوم بشكل صاخب، لذلك كنت أفضل الاحتفال به على طريقتى الخاصة بشكل رومانسى خارج المنزل على كورنيش النيل أو فى مكان محبب إلى قلبها، لكنها كانت تحب نهر النيل، وكانت هديتى لها فى ذلك اليوم هى الزهور الحمراء، أو شيئًا من المجوهرات المفضلة لها، أو فستانًا على ذوقى، وكانت هديتى لها هى الأفضل من بين هدايا المقربين، فهى كانت لا تبتهج سوى بهديتى. يلقى سلطان بظهره إلى الوراء قليلاً ويتذكر بعض الطرائف التى كانت تصل إليها فى بعض البرقيات من المعجبين ويقول: كنت أستقبل الأمر بالضحكات معها، فقد كنا زوجين متفاهمين وندرك أن لكل منا معجبين، لكننا نحب بعضنا البعض أكثر من أى شخص خارج حياتنا.. كان لقبها المفضل إلى قلبى «كروان الشرق» وكنت أدلعها ب«فوز»، فكانت تعشقنى، وكنت أحبها. يبتسم الفنان العاشق قاطعًا حديثه وكأن خاطرة ما قد ألحت على ذاكرته، فيرفع إصبعه مشيرًا إلى إحدى صور «فايزة أحمد» القريبة منه قائلاً: «قصتى مع فايزة جعلتنى أريد أن أقوم بتدريس الحب على هيئة كورسات للشباب الحاليين فهم يفتقدون لقيم ومعانى الحب التى عرفها جيلنا». يستعيد سلطان النغم وضعه مرة أخرى للحديث عن ذكريات الاحتفال بيوم ميلادها قائلاً: بعد أن رحلت لم أغفل عيد ميلادها يوما واحدًا، فحاليًا أحتفل به بشكل مختلف، وخاصة أننى أجلس بمفردى وابنينا التوءمين «طارق وعمرو» خارج مصر، فهما يعملان طبيبين. أجلس منذ الصباح الباكر لأقرأ لها القرآن، ولا أتوقف عن الدعاء لها فتلك الكلمات هى التى سوف تصل إليها سريعًا، وأخرج مسرعًا فى منتصف اليوم للذهاب إليها لزيارتها ويكون معى المصحف وأجلس بجوار مقبرتها عدة ساعات وأقرأ لها بصوتى، ثم أعود إلى منزلى لأدخل صومعتى الخاصة وهى غرفة نومنا فى شقتنا بجاردن سيتى. داخل غرفة نوم العاشقة والفنان يمضى سلطان معنا مستعرضًا جنبات منزل الزوجية، وفى كل ركن منه ذكريات جميلة لم تفارق ذهنه، هنا غرفة نومنا، لم تزل كما هى لم يتبدل منها أى شيء، أدوات الماكياج الخاصة ب«فايزة» كما وضعتها بيدها آخر مرة، وأحذيتها، وفساتينها الباهظة الثمن الشهيرة فى أغانيها، ويصل عددها إلى أكثر من 50 فستانًا نادرًا، فى غرفة نومها ركن خاص بالمجوهرات وآخر خاص بالإكسسوار، ومراياها الخاصة، وحقائبها، أحرص على ترتيب أدواتها فى الغرفة كما كانت وأقوم بمسحها من الأتربة بانتظام. بالإضافة إلى صورها المتنوعة فى جنبات المنزل يحتفظ الشريك الوفى بصندوق خاص يضم صور زوجته الراحلة وحدها، ولا يحتفظ بأى صور بجوار صورها، فهى ملكة ولابد أن يكون لها مكانها الخاص، يتجاوز عدد صورها 100 صورة تركتها لى، ولم أفرط فيها لأحد، تلك الغرفة أقضى فيها معظم وقتى فى يوم ميلادها أشعر أنها معى، فكل شيء من خلال مقتنياتها يذكرنى بها، وهذا يكفينى. يتذكر سلطان تفاصيل أول لقاء له معها ويقول: اتصلت بى إحدى صديقاتها المقربات وهى مطربة لبنانية تدعى «رويدا عدنان»، وقالت لى: أريد زيارتك فى أمر عاجل وفور وصولها منزلى، بادرتنى بالسؤال: ما رأيك فى فايزة أحمد فقلت لها: «صوت جبار»، قالت لى: «وماذا عنها كأنثى؟ هى تحبك بشدة». الطريف أن صديقتنا قامت بالاتصال ب«فايزة» بشكل فورى، وقالت لها: أنا عند محمد سلطان، وطلبت فايزة أن تتحدث إلى وقالت: أنا فى انتظاركما فى المنزل لسماع أغنية «هان الود» للموسيقار محمد عبد الوهاب فى التليفزيون، وذهبت مع صديقتها إلى بيتها فى شارع جامعة الدول وبدأت قصتنا من هنا. أول نظرة حب جمعتنا كانت مع أغنية «أؤمر ياقمر» التى قمت بتلحينها لها، ورغم مطاردات الفتيات الجميلات لى فقد وقعت فى غرامها هى، ولم تكن تشعر بالغيرة رغم حبها الشديد لى وعلمها أنى شاب وسيم ولى معجبات، وكنت أحترم مشاعرها وإخلاصها، فقد كانت تضعنى فى مقدمة أولوياتها. واقع حزين لعاشق مخلص يقضى سلطان أيامه الآن بمفرده وبنفس التفاصيل، يبدأ يومه مع صلاة الفجر ويقول: أحرص على صلاة الفجر ولم أتركها يومًا واحدًا منذ طفولتى حتى الآن، بعد الصلاة أنام عدة ساعات، ثم أمارس رياضة المشى وأؤدى بعض التمارين لمدة ساعة يوميًا، فى شقتى أو النادى الرياضى، وأفطر فى تمام الساعة ال10 صباحًا، وإفطارى عبارة عن لبن وقهوة، وأيضًا وجبة الغداء كميتها قليلة جدًا، فأنا أتناول الطعام حتى أستطيع السير والحركة. وفى منتصف اليوم أستقبل الأصدقاء أو المقربين لى، وأذهب إلى غرفة النوم مبكرًا، ولأن بها كنوزًا خاصة أحمل مفتاحها فى جيبى فهى مملكة كبيرة لذكرياتى مع زوجتى لا يدخلها أحد سواى. أقرأ ل«فايزة أحمد» الفاتحة أكثر من 10 مرات يوميًا، وهى تستحوذ على نصف دعواتى اليومية فى كل صلاة، أزور زوجتى الراحلة كل ثلاثة أيام، وفى بعض الأحيان كل يوم، فهى فى مقبرة والدتى ووالدى، وأشتاق إليهم وزيارتى لهم تريحنى كثيرًا. فى نهاية الحديث تجول معنا فى باقى أركان عش الزوجية، ثم جلس ليمارس هوايته الخاصة وهى تربية القطط، مؤكدًا عشقه لها، ففى منزله 14 قطة من فصائل متنوعة، القطط صديقتى بعد رحيل فايزة أحمد عن حياتى، ولم أسمّ أى قطة منها باسم حبيبتى «فايزة». انتهت المدة المتفق عليها للقاء، وإن كانت كلماته معنا عن «فوز» كانت تأبى التوقف، وخرجنا نلملم أطراف الحديث حتى عتبة المنزل، على وعد بتكرار الزيارة فى أقرب فرصة لذلك.