التطورات التى تشهدها المنطقة فى المرحلة الحالية تؤكد أن موقف مصر من الأزمات التى شهدتها الدول العربية كان الموقف الأكثر نضوجا وقراءة دقيقة لمجريات الأحداث وتطورات الصراع فى سوريا أو ليبيا وفى قطاع غزة، بعض الأشقاء حاولوا تفسير موقف مصر على أنه تراجع عن دورها القومى العربى، والبعض الآخر دعا إلى ضرورة أن تسلم مصر القيادة إلى دول أخرى. لكن مجريات الأحداث تؤكد على محورية الدور المصرى فى المنطقة وأن نجاح أى ترتيبات أمنية أو سياسية مرهون ومتوقف على مدى انخراط ومباركة مصر لتلك الترتيبات. لذلك لم تكن سياسة الثبات التى اتبعتها مصر خلال الفترة الماضية تجاه أزمات المنطقة سواء فى سوريا أو ليبيا أو الأحداث فى قطاع غزة؛ سوى تكتيك بعيد المدى هدفت منه مصر إلى بناء استراتيجية على أرض صلبة تنطلق بعدها بقوة من أجل ضبط إيقاع المنطقة سياسيا وأمنيا، والملاحظ على السياسة المصرية من تلك الأزمات أنها ارتكزت على مبادئ أساسية هى: عدم الانخراط فى أعمال عسكرية أو التورط مع جماعات إرهابية كما فعلت جميع دول المنطقة سواء العربية وغير العربية، فالجميع تلطخت أيديهم بدماء السوريين والليبيين ما عدا مصر ظلت حريصة على دماء الأشقاء العرب رافضة للأعمال العسكرية التى راح ضحيتها الآلاف ناهيك عن ملايين المهجرين والنازحين، وفى الوقت ذاته مازالت تخوض حربا ضد الجماعات الإرهابية على أرضها. قراءة عميقة لطبيعة وديناميات عملية الصراع فى سوريا وليبيا ومراقبة للتطورات التى تشهدها علاقة حماس بقطر وتركيا. رفض تقسيم الدول العربية وضرورة الحفاظ على وحدة الأراضى العربية سواء فى ليبيا أو سوريا، كما دعت مصر إلى ضرورة الحفاظ على مؤسسات تلك الدول خاصة الجيوش العربية بها لأن سقوط وانهيار المؤسسة العسكرية فى تلك الدول معناه عدم وجود قوة عسكرية قادرة على محاربة الإرهاب. العمل مع الشركاء المحليين الذين لم تتلطخ أيديهم بالدماء سواء فى سوريا أو ليبيا من أجل تقديم الحل السياسى على العمل العسكري؛ لذلك كانت هناك منصة سياسية للمعارضة السورية عرفت «بمنصة القاهرة» ناهيك عن وجود لتيار الغد السورى بالقاهرة برئاسة أحمد الجربا الذى يتمتع بوجود وثقل سياسى يعتد به فى سوريا ولدى قبائل المنطقة هناك خاصة قبائل «شمر» المنتشرة فى كل من العراق والكويت والسعودية بالإضافة لسوريا. وفى ليبيا وقفت مصر بجانب مجلس النواب الليبى المنتخب من الشعب الليبى، إضافة إلى دعوتها فى جميع المنظمات والمحافل الدولية لضرورة رفع الحظر المفروض على تسليح الجيش الليبى من أجل محاربة الإرهاب. إضافة إلى محاولاتها بناء أرضية مشتركة بين القبائل الليبية من أجل الوصول إلى اتفاق سياسى يمكن البناء عليه فى مرحلة لاحقة، كما أنها تعاملت مع حكومة الوفاق الليبى برئاسة فايز السراج. التحرك على الصعيد الإقليمى من خلال الدول الإقليمية الفاعلة فى تلك الأزمات كالسعودية والإمارات والجزائر، إضافة إلى التفاهمات التى وصلت لها مصر مع القوى الدولية المنخرطة والمتحكمة فى العملية السياسية والعسكرية كروسيا وأمريكا. لذلك ليس غريبا أن نجد إصرارا من جانب روسيا على حضور مصر لمفاوضات جنيف، وتأكيدا من جانب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب على أهمية الدور المصرى خاصة فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب وتأكيده على دعم مصر فى حربها ضد الإرهاب خلال الزيارة الأخيرة للرئيس عبدالفتاح السيسى لواشنطن. مصر خلال الشهور الماضية برزت كطرف فاعل فى أزمات المنطقة ومفتاح لحل القضايا العالقة فى عملية الصراع، كما استطاعت أن تبعد أى أدوار إقليمية دخيلة على قضايا تمس الأمن القومى المصرى كالدور القطرى والتركى الداعم للإرهاب فى كل من سوريا وليبيا وتدخلهما فى قطاع غزة، لذلك كان الرد المصرى على التوغل القطرى - التركى فى قطاع غزة خلال الفترة الماضية هو التفاهمات والاتفاقات التى أجراها وفد حماس مؤخرا فى القاهرة برئاسة يحيى السنوار رئيس المكتب السياسى، والتى يتم بمقتضاها بناء محطة للطاقة الكهربائية وتطوير معبر رفح إضافة إلى عدد من المشاريع التنموية فى قطاع غزة بالتعاون مع الإمارات. وفى سوريا نجحت مصر من خلال علاقاتها مع الأطراف الفاعلة على الأرض فى سوريا - باستثناء الجماعات الإرهابية المتطرفة كداعش والنصرة - فى الإعلان عن توقيع اتفاق لخفض الأعمال العدائية وتخفيف التصعيد فى الغوطة الشرقية يوليو الماضى وفى الشهر الجارى أعلنت أيضا عن توقيع اتفاق مماثل يشمل المناطق الواقعة شمال حمص. تجدر الإشارة إلى أن هاتين المنطقتين هما جزء من الاتفاق الذى تم التوصل إليه فى الاجتماع الرابع الذى عقد فى الاستانة فى شهر مايو الماضى، ورغم عدم مشاركة مصر فى تلك الاجتماعات التى اقتصرت على روسيا وإيران وتركيا، فإن رعاية مصر للاتفاق هو ضمانة أمنية وسياسية من أجل إنجاحه. انخراط مصر فى الأزمة السورية من خلال استضافتها لمباحثات مناطق خفض التصعيد خلال تلك المرحلة يشير إلى أن سياسة مصر تجاه الأزمة السورية كانت الأنجح والأكثر نجاعة فى تحقيق تقدم على الصعيد السياسى والأمنى من الأزمة السورية، فمصر ظلت على مسافة واحدة من جميع أطراف الصراع فى سوريا باستثناء الجماعات الإرهابية، كما أنها كثيرا ما طالبت بضرورة التركيز على محاربة الجماعات الإرهابية فى سوريا أولا، والبدء فى العملية السياسية وضرورة الحفاظ على الجيش السورى، ولعل هذا ما دفع بعض الأشقاء إلى الاختلاف مع مصر، والآن أكدت التطورات صواب الرؤية المصرية تجاه سوريا.