كم من أحلام قتلت وكم من شباب أصيبوا بخيبة أمل وصدمة وشعور بالدونية، بل وبالكراهية للمجتمع بسبب عبارة «غير لائق اجتماعيا». عندما حاولت البحث عن هذه العبارة فى قواميس اللغة الإنجليزية لم أجد لها مرادفاً. فمفاهيم الطبقية وتحقير مهن بعينها اختفت تماما فى المجتمعات الغربية التى أصبح فيها العمل الشريف فى حد ذاته أياً كان نوعه هو القيمة الأهم وليس نوع العمل. عندما يتقدم أى شاب للالتحاق بأى وظيفة فى بلادنا فإن جهة العمل تطلب منه فقط سيرته الذاتية ثم يتم اختباره وإجراء مقابلة عمل وبعدها يكون القرار بقبوله أو رفضه. أما فى السلك الدبلوماسى فإن الأهم هى الاستمارة التى يجب على المتقدم للعمل بالخارجية المصرية أن يملأ بياناتها. الاستمارة تسأل عن اسم الأب والأم ومهنة كل منهما. قد يرى البعض أن هذا ضرورى للاستعلام عن الأهل قبل تعيين أى شخص فى مكان بأهمية وحساسية السلك الدبلوماسى وربما يكونون على صواب. لكن المؤكد أن الاستعلام عن الأهل هنا ليس فقط استعلاما أمنيا كما يبدو لكنه الأساس فى الاختيار وهو ما يحدد مستقبل المتقدم. فإذا كتب أن والده عامل أجير أو بائع متجول فقد حكم على نفسه بالرفض وعلى طموحاته وأحلامه بالعمل فى هذا المكان المرموق بالضياع. منافسة غير عادلة من المؤكد أن اختبارات الالتحاق بوزارة الخارجية المصرية اختبارات معروفة بصعوبتها وتفاصيلها الكثيرة. المتقدمون للاختبارات ليس بالضرورة أن يكونوا خريجى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية لكن يجب أن يتحدثوا الإنجليزية إلى جانب أى لغة أخرى بطلاقة إضافة إلى إلمامهم بكل ما يخص الصراعات الدولية وغيرها بشكل تفصيلى. وبالتالى فإن المتقدم لاختبارات الخارجية يدرس شهورا طويلة ويشترى كتباً للتعرف على العمل الدبلوماسى ومهام كل منصب فى الخارجية إلى جانب تعلمه لغتين بحيث يتقنهما تماماً. وبالتالى فإن المتقدم لاختبارات الخارجية إذا كان من أبناء الطبقات الدنيا فإنه يقوم بكل هذا المجهود بجانب عمله فى أى مهنة لتغطية تكاليف تعلم اللغات وشراء الكتب أملا فى الفوز بمكان فى السلك الدبلوماسى. وبعد اجتياز الشاب كل هذه الاختبارات الصعبة والتى يصعب على أبناء الدبلوماسيين اجتيازها فى كثير من الأحيان وبعد أن ترتفع أحلامه تدريجيا مع كل اختبار يجتازه حتى يصل إلى مرحلة يكون فيها قبوله أمر شبه أكيد فهو الأجدر والأحق والأولى، يجد هذا الشاب الطموح الواعد المتفوق والجدير بتمثيل بلده نفسه مرفوضا ليس لأنه غير مؤهل للوظيفة ولا لأنه غير كفء لكن لأنه «غير لائق اجتماعياً». هذا الشاب الذى نطالبه جميعا بالعمل الجاد من أجل بناء الوطن والنهوض به يجد نفسه يخسر وظيفته بسبب مهنة والده الذى اجتهد فى عمله البسيط لكى يتعلم ابنه ويعيش حياة أفضل منه. فجأة يصبح هذا الأب المكافح عقبة فى طريق تحقيق أحلام ابنه فى العمل بالسلك الدبلوماسى. والغريب أن المجتمع الذى يحقر من المهن البسيطة هو نفسه المجتمع الذى يتململ من سعى أبناء الفقراء للهجرة بحثا عن فرص أفضل. حكاية شتا فى المجتمعات التى سبقتنا اقتصاديا واجتماعياً يكون اختيار أى شخص للعمل على أساس مؤهلاته وخبراته وقدراته العلمية أو البدنية أو العقلية على حسب حاجة العمل ولذلك نجد دائماً لديهم الشخص المناسب فى المكان المناسب. أما لدينا فحتى لو كان الشخص المناسب بل والأنسب والأحق أحياناً فإنه قد لا يسمح له بتمثيل بلاده لأن والده شخص بسيط وإن كان شريفاً. ظلم يدفع البعض لهجرة أحلامهم والبحث عن أى وظيفة قد لا يحقق فيها أى إنجاز يذكر طوال حياته بينما قد يدفع هذا البعض الآخر إلى هجرة بلادهم والبحث عن دولة تقدره وتختبر قدراته فى العمل وليس مستواه الاجتماعى. وهنا نتذكر عبدالحميد شتا أشهر ضحايا عبارة «غير لائق اجتماعياً». نشأ عبدالحميد فى قرية صغيرة بمركز ميت غمر لكن أحلامه كانت أكبر من حدود قريته. حلم شتا بالالتحاق بالعمل فى السلك الدبلوماسى لكن مجموعه فى الثانوية العامة لم يؤهله للالتحاق بها فقد حصل على مجموع 85% لم ييأس شتا فالتحق بكلية التربية قسم جغرافيا وبالتوازى كان يذاكر للثانوية العامة. لم يضيع تعب شتا هباء فحصل على مجموع 95% وهو مجموع أهله للالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة. ترك شتا قريته الصغيرة وبدأ ما كان يعتقد أنه أول خطوة فى الطريق إلى تحقيق حلمه. كان شتا يسعى أن يكون مميزا حين يتقدم لاختبارات الالتحاق بالخارجية فقرر التحضير للماجستير فور إنهاء دراسته الجامعية التى حصل فيها على امتياز مع مرتبة الشرف. أما رسالة الماجستير فكانت بعنوان «دور المحكمة الدستورية فى الإصلاح السياسى». كان شتا مصمما على تحقيق حلمه فلم يكن يضيع وقته دون الاستعداد للاختبارات قدر استطاعته فكان يدرس اللغات مع تحضير الماجستير، فضلا عن كتابته عدداً من المقالات لمجلة السياسة الدولية. زملاء شتا وصفوه بأنه موسوعة متنقلة لا يمكن أن تسأله عن أى معلومة إلا وتجد لديه الإجابة الوافية. درس شتا اللغة الإنجليزية ثم الفرنسية والألمانية على نفقته الخاصة وذلك فى إطار تجهيز نفسه ليكون جديرا بالعمل فى السلك الدبلوماسى. وعندما قرر شتا التقديم فى وظيفة ممثل تجارى عام 2002 كان يتقن ثلاث لغات إلى جانب إتقانه للحاسب. حصل شتا على المركز الأول بين المتقدمين لشغل هذه الوظيفة بعد اجتيازه جميع الاختبارات بتفوق مستحق. وبينما كان شتا ينتظر التعيين كان القائمون على الاختبارات يجهزون له مفاجأة مختلفة. ففى كشوف التعيين وجد شتا نفسه مرفوضاً ولم تخف اللجنة السبب وراء الرفض فكتبت «غير لائق اجتماعيا». بعد عناء وجهد واجتهاد وصبر وبعد إنفاق كل ما يكسبه من مال على الدراسة والتعلم والاستعداد لتحقيق حلمه بل وبعد أن أوشك حلمه أن يتحقق وجد شتا نفسه مجرد ابن فلاح وليس شتا المتفوق ولا شتا الأول على من تقدموا لشغل وظيفة أحلامه ولا شتا الذى جد فوجد. لم يجد شتا أمامه سوى الانتحار فلم يعد لحياته معنى بعد أن دمرت الطبقية أحلامه. واليوم نتساءل هل ستقبل الخارجية مريم فتح الباب وهى من أوائل الثانوية العامة هذا العام إذا ما تقدمت للالتحاق بالعمل بها واجتازت الاختبارات بنجاح؟ هل يمكن أن تصبح مريم يوما سفيرة تمثل بلادها وتكون قدوة لكل مجتهد؟ أم أنها ستكون ضحية العبارة نفسها؟ هل ستكون لقاءاتها الصحفية هى الأخيرة فى حياتها أم ستلتقى بها الصحافة مجددا بعد سنوات كشابة متفوقة وطموحة تتقلد منصباً دبلوماسيا مهماً لتميزها واجتهادها؟ هل سيكون اجتهادها وعلمها سببا فى تقلدها أعلى المناصب لاستحقاقها أم ستلاحقها لعنة مهنة والدها؟ التعالى على المهن البسيطة مرض أصاب مجتمعنا منذ زمن وحان وقت تغييره إذا أردنا لبلادنا أن تتقدم. لا يمكن أن تتقدم الدول إلا بتحقيق العدالة واختيار الأصلح لكل وظيفة صغيرة كانت أو كبيرة. والأهم أن تتغير نظرة هذا المجتمع لبعض المهن مثل الميكانيكى والحلاق والنقاش وعامل النظافة وغيرهم من المهن التى تتعالى عليها جهات مثل السلك الدبلوماسى. ونعلم جميعاً أن أصحاب هذه المهن لو هجروها سيصبح من يرون أنفسهم أصحاب وظائف مرموقة فى مأزق.