بإمكاننا بسهولة رؤية البطل من زوايا مختلفة للقصّة الواحدة، أمير الدنمارك فى القصّة الأصليّة يقترب من الجنون ويَخسر كُلّ شىء فى الوقت الذى كان يُريد أن يُحافظ فيه على نفسه، فى روايات أُخرى، يَظهر شبحُ الأبّ فى صورة جمال عبدالناصر طالبًا الأخذ بالثّأر واستعادة الإرث، بينما تَغرق التراجيديا الشكسبيريّة الشهيرة فى مَحليّة شديدة فى مسرحية «أنا هاملت» 2009يركض هاملت المصرى للّحاق بآخر عَربة مترو ويُواجه مَتاعب المدينة والتفاوت الطبقى. أين هو هاملت اليوم بعد الثورة؟ على أية صورة سنتخيّل هاملت وهو فى قلب ميدان التحرير؟ تقرأ أستاذة الأدب المقارن هذه المُعالجات وإحالاتها فى كتاب، ويبدو أن رحلتها فى عالمنا العربى ممتدّة، خاصة عندما نعرف أنها تعمل على دراسة «التطويع العالمى لحكايات ألف ليلة وليلة». رحلة شكسبير العربيّة.. نُكتة مُستهلكة يُغرى كتاب مارجريت ليتفين قارئَه بدايةً من العُنوان. «رحلة هاملت العربيّة.. أمير شكسبير وشبح عبدالناصر»، هو فى الأساس دراسةٌ أكاديميّة طوّرتها أستاذةُ اللغةِ العربية والأدب المُقارن بجامعة بوسطن عن رسالتِها لنيل الدكتوراه فى الفكر الاجتماعى من جامعة شيكاغو، ورغم هذا، يَفيض بأفكارٍ حيويّة ولقاءاتٍ وجولات نقلت معلوماتٍ ُفارقة، كان بعضها طريفًا. مثل انضمام المؤلّفة فى طريق بحثِها إلى ما سُمّى ب«رابطة شكسبير فى أمريكا»، أو إشارتِها إلى رؤية باحثين «ماركسيّين» لشكسبير باعتباره «فيتيش» الثقافةِ البريطانيّة، وهى النظرة التى تَستند إلى واحدة من التفسيرات التى سادت فى حينها وتعاملت مع أدب شكسبير باعتباره الأيقونة التى تُضفى الشرعيّة على المشروع الرأسماليّ للإمبراطورية. وليس آخر تلك القفزات الدالّة واللمّاحة، الاقتباس الذى تبنّته ليتفين على لسان أستاذها الناقد العراقيّ الكبير فاروق مصطفى «كل مثقّف عربيّ، هو خليطٌ من هاملت، والمسيح، ودون كيشوت». تُعتبر دراسة مارجريت ليتفين، المُقاربةَ الأولى من نوعها التى تَصدر فى كتاب. حيث سبقتها أبحاثٌ تناولت صورةَ «هاملت العربى» أو «الشرقى»، أو شكسبير فى الترجمات العربية بصفة عامة، لكنها كما تُشير لم تُستَكمل وظلّت حبيسة قاعات الدرس، وتُخبرنا الباحثة أيضا أنه لم يَسلم طرح أعتى أساتذة الأدب العربى فى الجامعات الغربيّة المرموقة من الإشارة إلى الموضوع باعتباره «بدعة»، وحتى وقت الدراسة كان لايزال بعضهم يُردّد الطُرفة القديمة ذاتَها: «شكسبير... الشيخ زبير». هاملت منذ مائة عام.. صورة مُنتحلة تَنطلق ليتفين فى كتابِها - بدأت العمل فيه من 2001 و صدر فى لُغته الأصليّة عن منشورات جامعة برينستون عام 2011 فى ذُروة عُنفوان الربيع العربيّ - من المقولات التى طالما استقرّت ك«شريعة» لنقّاد ودارسى الأدب المُقارن، ومنها: «كُلّ أُمّة تَرى وجهها فى مرآة شكسبير»، «يقرأ هاملت لنفسه، ولكن كُلّ جيل يضع فى يده كتابًا مختلفًا». تفرد الباحثة الفصل السادس والأخير من كتابها فى تحليل ست مسرحيّات من مصر والأردن والكويت وسوريا، اُستلهمت جميعها من «هاملت». وقبل الشُروع فى تَتبُّع رحلة الكتاب الذى ترجمته بإِحكام سُهى السباعى وصدر حديثًا عن المركز القومى للترجمة، تجد نفسك مدفوعًا لتَقليب الذِكريات. «اللقاء الأوّل مع شكسبير»، متى كانت أوّل مَرّة قرأت أو تعرّفت فيها على «هاملت»؟ وأين كانت المَرّة الأولى التى شاهدّتَها «مُمسرَحة»؟ لاحقا؛ سنعرف، فى أحد فصول الكتاب، أن هذه الأسئلة شَغلت كتّابنا من قبل. وها هى الباحثة تستخدم الإجابات على هذه الأسئلة لاختبار أسئلتها هى: «كيف حصل المِصريّون على هاملتهم؟» وكيف تعامل المُثقف العربيّ والمصريّ الآتٍ من مجتمعات ما بعد الاستعمار مع عمل كلاسيكيّ غربيّ؟ كيف صاغ العرب نصوصهم المستوحاة من «هاملت» على مدار أكثر من مائة عام؟ على مدار هذا الكتاب الشيّق، تَتحدّث المؤلّفة عن «هاملتّات» و«هواملت» و«هملتة». تستخدم مُفردة «Appropriacion» للتعبير عن «الاستيلاء» على هذه الملحمة، بينما فضّلت واختارت المُترجمة عوضا عنها لفظة «الاحتياز» ما يعنى أن العرب ادّعوا حيازة هاملت لأنفسهم، أو «الاستملاك» بحسب تعبير مارجريت لسهى فى إحدى النقاشات بينهما أثناء الترجمة. نحن المِصريّين يعرفنا هاملت فى ترجمات خليل مُطران وجبرا إبراهيم جبرا وعبدالقادر القط. أتذكّر أوّل مرّة شاهدّتُ فيها مسرحية هاملت كان على شاشة التلفزيون المصرى، بطولة محمد صبحى، هذه المسرحية من إنتاج 1977 وهناك نسخة أخرى قدّمها محمود أبو دومة تحت عنوان «رقصة العقارب» عام 1989 سنعرف من الكتاب أن نسخة أبو دومة تأثّرت بالفيلم الروسى «جاملت» لجريجورى كوزنتسيف. الكُلّ لديه ما يقوله عن هاملت وهاملت لا يُقرّ لهم بذلك تذهب مارجريت ليتفين إلى أن «الجميع لديهم ما يقولونه عن هاملت» . وهو أمر يبدو عاديّا، لكن الشىء الأكثر تفصيلًا من هذا وتُحاول المؤلفة شرحه هنا، أن «هاملت» نفسه (كحبكة) لديه أيضًا شىء مُهم ليقوله، ويبدو أن هذا الشىء المُهمّ فى تلك التراجيديا عبّر عن نفسه بقوّة فى تمثيلات هاملت فى المسرح العربيّ. تمضى مارجريت، مُستخدمةً الجملة المحوريّة «أكون أو لا أكون»؛ فى تحليل المسرحيّات، لتصل إلى أنّ هاملت ساعد على وضع اليد على مشكلة المَصير والأصالة التى تَشغل البال العربى، فى حين اختصر نقاشًا طويلًا ربما لم ينته حتى اليوم، عن ماهيّة الهويّة العربيّة الحديثة فى زمن مُضطّرِب. وقبل كل شىء، جرى تطويع هاملت فى المقام الأوّل للتعبير عن انكسارات الحرب والسلم. كلمات مثل «الاحتياز» أو «الانتحال» إن شئنا الاقتراب أكثر من المعنى، تبدو مفهومة تمامًا مع تاريخ الاسقاطات المتباينة التى كانت من نصيب «هاملت العربى» أو «البطل المُسلم». ظهر هاملت غير الناطق بالإنجليزية فى صور «الذابل الرومانسى»، البطل القومى، الفيلسوف المتحرّر، الوجودى، وحتى هاملت الطالب فى «يشيفا بوكير»، مؤسسة تعليمية لتدريس تعاليم الديانة اليهوديّة كما نعرف داخل الكتاب. وفى نسخته العربية على مدار مائة عام، لم يختلف «هاملت» كثيرا عن هذه الأوجه، تقول مارجريت: «جنّد الليبراليّون والقوميّون والإسلاميّون هاملت من أجل نُصرة قضاياهم». كان بمثابة «قناع»، «بوق»، ظهر «وعّاظ» ومُشاركون فى مُناظرات، وروائيّون وشعراء ومخرجون سينمائيّون كلٌّ يصوّر هاملت الخاص به. هاملت ظهر فى كتابات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من كتابات مصطفى محمود والقرضاوى، إلى كتابات صادق جلال العظم. فى النهاية؛ المؤلّفة ليست متأكّدة من الصورة الجديدة التى سيكون عليها هاملت ما بعد الربيع العربيّ. لكنها شرعت الصفحات الأخيرة من كتابها على أسئلةٍ مفتوحة عن الواقع الجديد، وهل ستظلّ صورة هاملت أو شكسبير «المُعالَج» أو المُعاد صياغته محتفظة بنفس تماسُكها. «التاريخ المستقل» الذى أوجدته الثورة، بحسب ليتفين، أوجد بالتبعية جمهورًا مختلفًا للمسرح السياسى، وفى رأيها؛ «مضى قرن القوميّة العربيّة» فهل سيكون هناك حاجة للبكائيّات مرّة أخرى، أو ستظلّ الشبح الذى يُطارد هاملت المعاصر؟