لم يحظ كاتب من الاهتمام العالمي والتتبع النقدي والإعلامي والأدبي مثلما حظي به المسرحي والمؤلف الانجليزي وليام شكسبير، كما لم تلف مؤلف إشاعات مثلما حدث مع شاعر الوطنية كما يلقب، فقد أحيط بحياته غموض زادته الشائعات حول حياته وأصالة كتاباته غموضا أكبر. فعلى الرغم من مرور أكثر من أربعة قرون على ولادة الكاتب الانجليزي المثير للجدل إلا أن أصالة أعماله ما زالت محل تشكك ونقاش دائم، فقد قيل إن شكسبير كان مجرد شخصية أدبية وهمية وواجهة لإخفاء الكاتب أو الكتاب الأصليين لأعماله. كما وصلت الإشاعات من جديد إلى الادعاء بأن وراء كتابات شكسبير امرأة يهودية تكتب له، وما زلنا حتى الآن نقرا مقالات وأبحاثا تشكك في أصالة أعمال شكسبير ونسبتها إليه. ولا يمكن مقارنة الشهرة التي اكتسبها أي كاتب آخر بشهرة شكسبير عالمياً على كافة المستويات، فقد دخل إلى جميع الثقافات والمجتمعات الأدبية والفنية والمسرحية في كل بلدان العالم. والمتتبع للادب العالمي منذ اربعة قرون يدرك الأهمية التي تمتع بها شكسبير والتي تعود لكونه الابن النجيب لفكر وفن عصر النهضة الأوربية بامتياز. وهذا الفكر الذي عالج جوهر الإنسان الفرد وموقعه في الكون ودوره في الحياة، على كافة الأصعدة، انعكس بجلاء في مسرحياته، وما شخصيات هذه المسرحيات، على تنوعها وتباينها إلا تعبير عن معاناة الفرد في واقعه وتوقه إلى الانعتاق من أي قيد يعرقل تفتحه وطموحه. ويتضح تميز شكسبير الفكري والفني في صياغة الصراع الذي يخوضه الفرد بين نوازعه وغرائزه وطموحاته وبين ظروف الواقع المحيط والحتمية التاريخية. وقد أدرك شكسبير أهمية العواطف الإنسانية ونوازعها في الأعمال الأدبية لذلك اعتمد في مسرحه وشعره عليها مما عزز من عالميته واستمراريته، فأبطال مسرحياته المأسوية شخصيات تتميز بالنبل والعظمة والعواطف الإنسانية. فلا تزال الشخصيات الكوميدية تضحك الجمهور لما في تصويرها من ذكاء ودقة وفكاهة، وما زالت أعماله التراجيدية تبكي قراءها ومشاهديها في كل مكان، فمن منا لم تؤثر فيه مسرحيته الخالدة روميو وجولييت بكل أشكالها المجسدة. طما تترك شخصياته النسائية، مثل كليوباترا وجولييت والليدي ماكبث وروزالند وبورشيا وبياتريس وميراندا، أكبر الأثر عند القراء وجمهورالمسرح والسينما أينما كانوا. وتكمن براعة شكسبير في القصص المثيرة التي يستخدمها في مسرحياته، والمخزون الغني من الشخوص التي يمتزج فيها الخير والشر والعاطفة والعقل، واللغة الشعرية البليغة، والبراعة في التلاعب بالكلمات والألفاظ، والمفردات الجديدة. فشكسبير ابن واقعه وهو حين يكتب لا يبتعد عنه ولا يحوم في الهواء بحثا عن شخصيات فلا توجد في مسرحيات شكسبير شخصيات معلقة في السماء، بل هي دائماً ابنة واقعها بتجلياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وعلى الصعيد الفني كان شكسبير نفسه ابن واقعه ومعطياته، وقد تجلت عبقريته الفنية في استيعاب الأشكال الفنية التراثية والمعاصرة والشعبية وإعادة صياغتها استجابة لمتطلبات العصر ولشروط الممارسة المسرحية في دور العرض الفقيرة بالتجهيزات المسرحية آنئذ. وقد مزج شكسبير في أعماله بين الواقعي والخيالي وبين العواطف والأهواء المتضاربة، واستخدم الشعر والنثر في العمل المسرحي الواحد وبمستويات لغوية مختلفة حسب طبيعة الشخصية وموقعها الاجتماعي، وخرج في أعماله عن الكلاسيكيات باحثا عن التغيير والحداثة بالنسبة إلى عصره. بالإضافة إلى أن كتابات شكسبير لم تقترن بمكان محدد بل كانت مفتوحة على الزمان والمكان، ولم تكن هناك تحديدات أو قيود تجعل من أعماله الخالدة صالحة للاستهلاك في وقت أو بلد معين. بالنسبة إلينا يتمتع شكسبير بشعبية عالية وبأهمية متصلة بأهميته العالمية، ففي ستينيات القرن الماضي انطلق مشروع لترجمة أعماله إلى العربية، وكان برعاية جامعة الدول العربية، لكن مشروع الترجمة واجه صعوبات فنية تعلقت بالحفاظ علي روح النص في المعنى والأسلوب. كما واجه المشروع تحديات من نوع آخر تتعلق بكيفية تقريب ما كان مقصورا على ثقافة عصر شكسبير إلي روح عصرنا الحاضر التي تختلف اختلافا شاسعا عن عصر شكسبير، خاصة واننا في مجتمعات مغايرة تماما بكل مقايييس الاختلاف الفكرية والاجتماعية. وعلى الرغم من تعثر الترجمة في بداياتها إلا أن تأثير شكسبير وصل إلينا سواء كقراء او ككتاب، فقد تأثر مؤلفون كثيرون بأعماله، وتمت محاكاتها والنسخ على مسارها في العديد من الفنون الكتابية العربية، وفي الفنون التجسيدية أيضا. ولا يزال تأثير وليام شكسبير على اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات إلى اليوم تأثيراً هائلاً، وكان شكسبير أول كاتب إنجليزي يستعمل الكلمات المركبة، بمعنى استخدام كلمتين بمعنيين مختلفين لتصبح كلمة واحدة جديدة تدل على معنى جديد. ولعل ما جعل شكسبير متميزاً في زمنه، كما كتب الكثير من النقاد العالميين حول أعماله، هو عدم الاهتمام بمحيطه القريب فقط "فعندما يكاد عطيل أن ينفجر من الغيرة، وعندما يعرف روميو وجولييت لأول مرة معنى الحب الحقيقي، وعندما يتساءل هاملت عما يحدث معنا بعد الموت، فإن كل واحد منا يجد نفسه في ذلك"، هنا تتجلى عبقرية شكسبير كما كتب عنه الناقد والشاعر البريطاني بان كريستال.