لا يوجد فى برديات الفراعنة ما يؤكد أن القدماء المصريين مارسوا الثأر، فقد جاءت الجرائم التى سجلتها أوراق البردى خالية تماماً من أية إشارة صريحة إلى حالات القتل بدافع الثأر، وإنما كان أكثر تلك الجرائم انتشاراً التى ترتكب بدوافع أخرى أهمها الفقر الذى كان يدفع إلى نبش القبور ونهبها وجرائم الرشوة والسرقة بأنواعها، ولكن دراسة أعدها الدكتور السيد عوض، أستاذ ورئيس قسم الاجتماع بجامعة قنا، بعنوان «الجرائم والمصالحات الثأرية»، ترجح بأن الثأر دخل المجتمعات المصرية فى القرن السابع الميلادى مع العرب الفاتحين، حيث اندمجوا مع شعب مصر وبثوا فى أهلها عقيدتهم التى أخذوها من عهد الجاهلية الأولى وتأثروا بها لملاءمتها طابع القبائل العربية التى تتمثل فى شدة الاعتزاز بنسلها وسلالتها، مما أدى إلى ظهور التعاون والتضامن بين أبناء السلالة الواحدة لدرجة ذابت معها شخصية الفرد فى قالب المجموع. فالقبيلة كلها مسئولة عما يرتكبه أحد أفرادها من إثم، وقد يثأر من أى فرد منها حتى وإن كان غير آثم، ولقد صادفت فكرة الثأر هوى فى نفوس المصريين بشكل عام والريفيين بشكل خاص بحكم ميلهم إلى المحاكاة وتشابه البيئة الزراعية المصرية مع البيئة الصحراوية العربية من حيث طبيعة التعصب المقيت للقرابة، والإعجاب بمعانى الرجولة والبطولة التى رأوها فى الثأر. وكان لضعف المستوى الثقافى والجهل الأثر الكبير فى سرعة انتشار هذه الظاهرة، حيث إن عادة الثأر عادة أصيلة عند العرب كانوا يمارسونها فى جاهليتهم وظلت عندهم حتى بعد العصر الإسلامى. وهذه الظاهرة نفسها توجد بشكل أو بآخر مع بعض الاختلافات فى التفاصيل لدى كثير من الشعوب التى خضعت للعرب، فالظاهرة توجد فى كل من شمال أفريقيا كما توجد فى فارس والعراق وتركيا والأندلس وقبرص وفى بعض جهات الهند وهى كلها خضعت فى وقت ما للفتح العربى أو اتصلت بالثقافة العربية اتصالاً وثيقا. فالعرب فى جاهليتهم كانوا من أشد الشعوب تمسكاً بعادة الأخذ بالثأر وكانوا الأكثر خضوعاً لها، وكان لها أثر كبير فى حياتهم، فمعظم الحروب بينهم كحرب البسوس وداحس والغبراء كانت مظهراً من مظاهر الثأر. ويزداد وضوح أثر القرابة فى الحياة الاجتماعية خاصة فى الناحية القانونية المتعلقة بنظام الثأر، حيث تتلازم علاقات القرابة مع علاقات الجوار، وحيث يسكن الأقارب فى منطقة واحدة من المجتمع المحلى وهذه فى الواقع سمة شائعة فى الريف المصرى، وقد يكون مرد ذلك إلى الرغبة الطبيعية فى أن يسكن الناس بجوار أقاربهم، حيث تعتبر الوحدة القرابية وحدة اقتصادية ذات مصالح مشتركة تتمثل فى ملكية الأرض وفى التعاون فى أعمال الزراعة أو الرعى فى المجتمعات الصحراوية، ومهما يكن من أمر هذا التكتل المكانى لأفراد الجماعة القرابية فإن له وظيفة تتعلق بنظام الثأر وهى تأمين الناس من القتل وتكوينهم لوحدة متماسكة يمكن الدفاع عنها، كما يمكنهم مهاجمة الأعداء ككل، ويساعد التكتل المكانى أيضاً على استمرار حالات النزاع لمدة طويلة، حيث إنه يقوى من إشراف البدنة على أفرادها وإخضاعهم لسلطانها، بحيث لا يستطيع أحدهم الخروج على تقاليد الأخذ بالثأر، كما أنه يقضى على كل النزعات الفردية أو الانفصالية التى قد تغرى الفرد بالاستقلال والانفصال عن سلطة الجماعة. وقد ترتب على تجانس بناء هذه البدنات وتجانس العلاقات الاجتماعية داخلها وتجانس النشاط الاقتصادى من حيث اعتبار الزراعة المهنة الرئيسية أن أصبحت قيم الأفراد ونظرتهم للحياة متجانسة أيضاً، الأمر الذى أدى إلى تشابه المركزين الاقتصادى والاجتماعى لجميع أعضاء البدنة لأنهم جميعاً يحملون مركز بدنتهم. وهذا يعنى أن البناء الاجتماعى يرتكز لا على أساس فرض سلطة فرد معين أو جماعة معينة على بقية المجتمع، وإنما يقوم على أساس إيجاد نوع من التوازن بين تلك الجماعات التى ينقسم إليها المجتمع ما دام يستحيل على إحداها أن تتمتع بأية سلطة قاهرة تخضع غيرها لها. مبادئ وقوانين جرى العرف فى صعيد مصر أن هناك بعض المبادئ والقوانين والطقوس والعادات التى يسير عليها نظام الثأر وأهمها: ∎ لا يصح قتل النساء والأطفال فالثأر لا يؤخذ إلا من الرجل الذكر البالغ القادر على حمل السلاح وعلى الدفاع عن نفسه. ∎ لا ثأر لرجل قتل أثناء السرقة، ولا لرجل اعتدى على العرض، ولا لمن ينتهك حرمات المنازل، ولا من القاتل بطريق الخطأ إلا إذا رفض الدية أو الاعتذار. ∎ كل من يقتل لابد وأن يؤخذ بثأره عن طريق قتل شخص واحد على الأقل من الطرف المقابل وفى حالة عدم تمكن الأسرة من الأخذ بثأره تظل وصمة عار فى جبين الأسرة على مر الأيام. ∎ الاعتداء على حياة فرد إنما يعتبر اعتداء على الجماعة القرابية التى ينتمى إليها كما أن جماعة الجانى تكون مسئولة ككل عن جريمتها. ∎ يقوم الثأر بين الوحدات المتمايزة فليس ثمة ثأر فى البدنة الأبوية إلا فى حالات نادرة أو حين تتفرع البدنة إلى بدنات مستقلة اقتصادياً وسياسيا. ∎ الامتناع عن تبليغ السلطات، حيث إنه فى حالة حدوث جريمة قتل ويكون فيها القاتل معروفاً للجميع يرفض أولياء الدم اتهام أحد خاصة إذا كانوا من أسرة قوية استعداداً للأخذ بالثأر منه فى أقرب فرصة، حيث إن اتهامه يؤدى إلى سجنه وأن السجن يحول بينهم وبين قتله وإذا ما اضطروا إلى اتهام أحد فهم لا يكتفون باتهام القاتل وإنما يشركون معه جماعة من زعماء الأسرة القاتلة والبارزين فيها. ∎ دفن القتيل دون جنازة، حيث يسير الرجال خلف الجنازة صامتين فلا يصح أن تبكى عين أو يولول النساء، حيث إن بكاء الرجال وولولة النساء دليل على الضغف والعجز عن الأخذ بالثأر. ∎ الامتناع عن قبول العزاء، حيث إن من العادات أن العزاء لا يتم إلا عند الأخذ بثأر القتيل مهما طالت السنين. ∎ الاحتفاظ بملابس القتيل وهى ملوثة بالدماء، حيث إن ذلك يعد بمثابة شاهد ونذير بالثأر. ∎ إن التعبير عن الحزن عند أولياء الدم من الرجال يبدو فى عدم حلاقة شعر رءوسهم أو لحاهم وارتداء الملابس الرثة وعدم الاقتراب من المرأة حتى يتم الثأر، ومن الأمثلة الشعبية التى تؤيد ذلك «من كان له ثأر لا يهنأ له أكل ولا شرب»، أى أن صاحب الثأر لا يتمتع بملذات الحياة حتى يأخذ بثأره، فأولياء الدم يقلعون عن جميع مظاهر الترف والزينة، فقد روى عن امرئ القيس إنه أقسم ألا يتطيب أو يقرب النساء أو يأكل اللحم حتى يثأر لأبيه من بنى أسد. ∎ إن التعبير عن الحزن عند أولياء الدم من النساء يبدو فى وضع التراب على الرءوس وقص الشعر كله ووضع الطين على الرءوس والثياب ولطم الخدود ولا ينقطع تعديدهم ما لم يؤخذ بالثأر. كما أن النساء يلعبن دوراً كبيراً فى إثارة حمية رجال العائلة فى الإسراع بالأخذ بالثأر، حيث يبدو ذلك فى تعبيراتهن المتتالية «عن القتيل يظهر لهن فى المنام وهو أسود الوجه حزين وكأنه مخنوق» «إننا لا نستطيع أن نقابل نساء العائلات الأخرى لأنهن يتهامسن علينا بعبارات فيها من المذلة والمهانة لنا» ولا حديث للنساء بعد حادث القتل إلا فى هذا الموضوع. ومن أقوالهن أيضاً «إدينى اللبدة وخذ الشقة» بمعنى اعطنى عمامتك وخذ طرحتى ومثل هذا القول الصادر من النساء فيه طعن لرجولة الرجال فى العائلة الأمر الذى يشعل حماسهم ويسير حميتهم، وهناك مثل آخر يتردد على ألسنة النساء «لا يأخد تار ولا ينجى من عار» وفى هذا المثل توبيخ لرجال العائلة الذين يتخاذلون عن الإسراع فى الأخذ بالثأر. ∎ إن الثأر لا يسقط بمرور الزمن ولا تمحوه السنون، حيث إن الثأر ينتقل من جيل إلى جيل ومن الأمثلة الشعبية التى تذكر فى ذلك «إن الثأر يبقى لولد الولد» بمعنى أن الثأر لا يمكن بأى حال نسيانه لأنه يظل أجيالاً متعاقبة ويقولون أيضاً إن الثأر نقطة دم لا تعفن ولا تسوس، أى أن دم القتيل لن يهدر مهما طال الزمن. ∎ التنافس فى امتلاك شتى أنواع الأسلحة، حيث يقولون «إللى معاه باروود يوقع أبو فص» أى أن الشخص المسلح هو الشخص القوى الذى يهابه الآخرون ويستطيع أن يأخذ بثأره. ∎ إن الثأر يجب أن يؤخذ من شخص بمكانة رفيعة فى عائلة الجانى فى حالة ما إذا كان القاتل مأجوراً أو عديم القيمة، فالشخص الضعيف لا يقتص منه حيث يقولون «كلب ضار ملهوش تار» «يعملها الأقرع ويقع فيها أبو شعر» «اضرب كبيرهم يعدوك». ∎ يقع واجب الأخذ بالثأر على عاتق أقرباء القتيل على حسب درجة قرابتهم منه وتتضامن جماعة المجنى عليه وتعاونه على الأخذ بالثأر إذا لم تجد جماعة المجنى عليه فى نفسها القدرة على الثأر استعانت بأحد المجرمين المحترفين ليثأر لها نظير أجر معين. ∎ انتشار الخرافات التى تهدف إلى تأكيد عادة الثأر والحض عليها، حيث الاعتقاد فى أن الميت تخرج من رأسه «هامة» كأنها شبح أو طائر، فإن كان قتيلا فلم يؤخذ بثأره، أخذت الهامة تنادى على قبره «اسقونى فإنى صبية»، كما أكد شعراء الجاهلية ذلك بقولهم له هامة تدعو إذا الليل جنى بنى عامر: هل للهلالى ثائر؟ ∎ إن الصلح فى نظرهم ما هو إلا فترة هدوء مؤقتة يعقبه صراع جديد، علاوة على رفضهم مبدأ الصلح لأنه فى نظرهم دليل على ضعف منزلة الأسرة التى تقبله، حيث يقولون «صلح عيش وملوخية» «الحب على الرأس ضحك على الذقون» بمعنى أن الصلح مظهر زائف أمام السلطات خاصة إذا شعر أى طرف من طرفى الخصومة بأن هناك ظلماً واقعاً عليه.∎