فى عالم موازٍ آخر بعيدا عن صخب العاصمة وأضوائها وفنادقها ومشروعاتها الاقتصادية الضخمة، يعيش الفلاحون البسطاء أصحاب الوجوه السمراء والأيادى الخشنة المخضبة بطين الأرض، يعيشون مع أحلامهم الصغيرة لا يطمعون فى شىء سوى أن يزرعوا القراريط القليلة من الأرض التى تمثل مصدر رزقهم الوحيد. لم يكن المخرج يوسف شاهين يعلم أن فيلمه «الأرض» الذى أنتج أواخر الستينيات ويعرض حقبة تاريخية قُهر فيها الفلاح سيتحول إلى مشاهد حية وشخصيات حقيقية من لحم ودم تتعرض لظلم الإقطاع من جديد، ولكن فى عام 2015 على أرض الواقع، لم تكن شخصية «أبوسويلم» هى النموذج الوحيد الذي قدمه محمود المليجى، ففى قريتى «سرسو» و«كفر الجنينة» وغيرهما بمركز طلخا محافظة الدقهلية هناك المئات من شخصية «أبوسويلم». فلاحون صناديد من خيرة أبناء مصر، شاركوا فى حرب اليمن ثم عادوا للدفاع عن الأرض والعرض فى 1967 ثم حققوا النصر فى .1973 أكثر من 24 فلاحا بعد عودتهم من حرب اليمن عام 1966 كافأتهم الدولة بتوزيع قطع من الأراضى عليهم ليزرعوها، وأصبحت بعد عدة سنوات تؤول لملكيتهم النهائية بعد سداد أقساطها فى هيئة الإصلاح الزراعى، ولكن دوام الحال من المحال. ومن المعروف أن الحرب فى الميدان قواعدها الشرف والنزاهة وهم الذين اعتادوا طوال عمرهم على أخلاق الفرسان والجنود، ويخوض الفلاحون حربا جديدة تفتقد لهذا الشرف لأنه يحميها الفساد وتواطؤ رأس المال مع السلطة، حيث يتم طردهم من أراضيهم وتجريفها وحرث محاصيلها على أيدى الشرطة وبلطجية «ورثة فريد المصرى» الذين يدعون بعد هذه السنوات ملكيتهم للأرض، رغم صدور أحكام قضائية عديدة تثبت حق الفلاحين. وبما أن أرض الميدان الآن اختلفت ولم تعد معركة شريفة، ولا صوت يعلو فوق صوت البلطجية تحت حماية الشرطة، خسر الفلاحون معركتهم الحالية، والآن يعيشون مشردين مهددين بالحبس والقتل وفقدان مصدر الرزق، ويتمسكون بأوراقهم ومستنداتهم وأحكام القضاء ليبقى السؤال: هل مصر مازالت دولة قانون أم تغير هذا الشعار؟! «روزاليوسف» على الأرض تحاور «ملح الأرض» هؤلاء الفلاحين المحاربين القدامى، تستمع إلى شكواهم ومطالبهم. على محمد عبدالله - 75 عاما - قرية «سرسو»: حاربت فى اليمن من أبريل 1964 حتى ديسمبر 1966 وكانت فترة صعبة للغاية، ولكن كان الجميع وقتها يعيش حلم عبدالناصر والوحدة القومية العربية، وبعد عودتى مع غيرى من المصريين الذين حاربوا فى اليمن، كانت الدولة تعرض علينا إما الحصول على وظيفة أو قطعة أرض للزراعة، وطبعا لأننا فلاحون أبا عند جد من الدقهلية، اخترت الأرض وحصلت على فدان ونصف بناء على استمارة بحث برقم شراء من منطقة دميرة التابعة لهيئة الإصلاح الزراعى. أضاف: تم توزيع نحو 42 فدانا شمل أكثر من 24 فلاحا آنذاك، ممن شاركوا فى حرب اليمن فى 7 قرى تابعة لمركز طلخا بمحافظة الدقهلية وشملت قرية سرسو، كفر الجنينة، ميت الكرما، كفر الخوازم، العزبة الحمراء، قرية جوجر ومنشية البدوي، وتفرقت الملكيات على الفلاحين من فدان إلى فدان ونصف الفدان حسب أعداد الأسرة والحالة الاجتماعية. صمت عم عبدالله قليلا ثم قال: فخور أننى حاربت فى اليمن وكنت أحد جنود جيش بلدى العظيم، ولكن دلوقتى لم نحصل إلا على الإهانة وقلة القيمة والضرب بالعصا. وكشف عن إحدى ساقيه التى تعرضت للضرب من بلطجية ورثة فريد المصرى، الذين يدعون الآن ملكيتهم 43 فدانا وطرد الفلاحين منها، مضيفا: عهد عبدالناصر هو اللى انتشلنى من الطين وكان فى دولة وقتها تبحث عن حقوق أبنائها وترد لهم جهدهم وتكرمهم بعد الحرب، ولكن الآن ليس لنا سوى الضرب والطرد والتشريد! ويتدخل فى الحوار صبحى عبدالغنى - 77 عاما - أحد مقاتلى حرب اليمن قائلا: لا يمكن أن يشعر أحد بمخاوف رجل عجوز مثلى الآن من ضعف وخوف وعجز، بعد أن خاض معارك وعاش تحت قصف الطائرات ومدافع الدبابات وسقوط الرفاق فى أرض الميدان، والآن أخشى أن أنام فى بيتى خوفا من أى هجوم من الشرطة والقبض علىّ لتلفيق الاتهامات والمحاضر الكيدية لصالح ورثة فريد المصرى، وإجبارنا على التوقيع على قرارات تصالح وتنازل عن الأرض، تحت مرأى ومسمع مأمور شرطة طلخا، بعد أن مكنت الشرطة ورثة فريد المصرى من الأرض فى فبراير الماضى. أما بلال عبدالحى - أحد المتضررين من فلاحى «كفر الجنينة» وقطعة الأرض لم تزد على فدان ونصف الفدان، وكانت تمثل حياة لأكثر من عشر أسر، يعيشون على رزقها وخيرها، متسائلا: لماذا بعد كل هذه السنوات تدخل الدولة علينا لتعطيها لرجل الأعمال، وهذا حقنا والقضاء هو الذي قال كلمته، إلى متى يهان الفلاح ولا يسمع صوته أحد، فأمناء الشرطة يعتدون علينا بالقسم، ويعتدون على شيوخنا بالضرب على «القفا»، هؤلاء الشيوخ الذين حاربوا من أجل الوطن بأكمله فى الستينيات! أضاف: فلاحو سرسو وكفر الجنينة وغيرهم مظلومون ولا يسمع مسئول صوتهم، والفساد مسيطر على هيئة الإصلاح الزراعى وبدل أن تقف مع الفلاح أصبحت تقف مع الإقطاع، وتقدمنا بمئات الطلبات للهيئة لنؤكد أحقيتنا فى الأرض، وكان الرد علينا: روحوا طلعوا عبدالناصر من «التربة» وهو يعيد لكم الأرض مثلما وزعها عليكم فى الستينيات!! وفى حزن يقف عبدالحى ليحكى ما يحدث للفلاحين من ذل وهوان من قبض وملاحقة أمنية متكررة، موضحاً أنه تم القبض عليه ثلاث مرات، ويتم تهديده بالقبض على ابنه، وكان يقضى أكثر من عشرة أيام بقسم شرطة طلخا باتهامات ملفقة من قطع الطريق وحرق شجر وإتلاف مزروعات، وأكبر دليل على كذب الاتهامات أنه لا يتم العرض على النيابة، ولكن قسم الشرطة يريد إرهاب الفلاحين ويضغط عليهم ليستسلموا لورثة فريد المصرى للتنازل عن الأرض. يقول أحمد عز- أمين مكتب الطلاب بحزب التحالف الشعبى الاشتراكى بالدقهلية - وكان أحد شهود العيان يوم 25 أبريل الماضى أثناء واقعة هجوم الشرطة على الأرض واحتجاز الفلاحين: إن الهجوم كان همجيا ووحشيا، فالفلاحون تعرضوا لمحاولات القتل بالخرطوش والنار من قبل بلطجية عزيز المصرى، وهجمت الشرطة وتم القبض على 23 فلاحا وتم اتهام الفلاحين بالشغب وقطع الطرق والبلطجة ومقاومة السلطات. وأضاف: إنه تم القبض على نساء فوق الستين عاما وشيوخ فوق 70 عاما والأطفال لمجرد مطالبهم البسيطة فى استردادهم للأرض، موضحا أن الاحتجاز كان مهينًا فهناك 44 فردا فى حجرة مساحتها 3 * 3 متر، مطالبا وقد تم الإفراج عن بعض الفلاحين وتبقى 10 أفراد هم: رمضان عبداللطيف ، محمد عبداللطيف، مؤمن عبدالمقصود، السيد عاطف إبراهيم، السيد محمد إبراهيم، رضا الهلالى الأنور، نور عبدالجابر الأنور، عبدالباسط السيد الأحمد، سعد الدين، بالإفراج عنهم. أكد عز أن الحزب سوف يعقد مؤتمرًا بحضور شخصيات سياسية بالقاهرة الأسبوع المقبل لاستعراض تقرير المجلس القومى لحقوق الإنسان بعد تشكيله لجنة تقصى حقائق برئاسة المناضلة شاهندة مقلد. ويكشف أحمد إبراهيم- أحد ورثة الجندى المقاتل يوسف إبراهيم- الذى كان أسيرًا لدى الصهاينة فى حرب 1967 العديد من الأحكام القضائية المتلاحقة التى تثبت حق الفلاحين فى الأرض، موضحًا أن الفلاحين امتلكوا الأرض منذ 1967 واستمروا فى زراعتها إلى أن بدأت أولى الأزمات مع ورثة فريد حامد المصرى عام 1977 بتقديم اعتراض برقم 737 لسنة 1977 لاسترداد الملكية المنزوعة منه، إلى أن صدر حكم قضائى من المحكمة الإدارية العليا برقم 2143 لسنة 29ق، لصالح الفلاحين فى 1986/11/25 برفض الاعتراض وإقرار الاستيلاء لصالح هيئة الإصلاح الزراعى التى قامت بتوزيعها على صغار الفلاحين من جنود اليمن. ويستكمل إبراهيم أنه مع عهد مبارك 1995 صدر قانون المالك والمستأجر الذى فتح الباب للتصالح مع كبار الملاك مع هيئة الإصلاح الزراعى واسترداد أراضيهم، ولكن هذا القانون حمى الأراضى التى صدر بشأنها أحكام قضائية وغير متنازع عليها بحكم القانون وقرار 1986 ومع ذلك زور ورثة فريد المصرى مع هيئة الإصلاح الزراعى بتاريخ 25 فبراير 1995 حيث ادعوا التصالح مع هيئة الإصلاح الزراعى، وحاولت الشرطة 1997 إخراج الفلاحين بالقوة إلى أن رفعنا قضية ثانية أمام مجلس الدولة بإلغاء قرار البيع ومحضر التصالح مع الورثة وحصلنا على حكم 2007/7/4 من المحكمة الإدارية العليا رقم 3238 لسنة 25ق لصالح الفلاحين أيضًا ونص الحكم على إلغاء قرار البيع والتصالح وتسليم الأرض لورثة فريد المصرى. أوضح أنه برغم صدور حكمين قضائيين 1986 و2007 لم يتمكن الفلاحون من تنفيذ الحكم، وظلوا مهددين يزرعون الأراضى ولكن تحت وطأة خوف مستمر من الورثة، إلى أن قامت الثورة فى 2011 وحصل الورثة على قرار إدارى من المحامى العام لنيابات المنصورة بتمكين الورثة من الأرض دون النظر إلى مذكرة النيابة العامة بطلخا رقم 1483 لسنة 2011 إدارى طلخا التى تثبت أحقية الفلاحين للأرض واستمرار حيازتهم للأرض، ومنع تعرض أسرة عبدالعزيز المصرى للفلاحين. ومع ذلك فوجئ الفلاحون بتنفيذ الشرطة لقرار المحامى العام فى 17 فبراير ,2015 رغم صدور الحكم القضائى الثالث من الإدارية العليا 2489 لسنة 54ق، والذى أنهى النزاع على الأرض وأثبت ملكيتها للفلاحين، وخلال الأشهر الثلاثة الماضية والفلاحون بالشارع دون أرض، بل يتم القبض عليهم وتلفيق الاتهامات لهم باستمرار وآخرها ما حدث فى 25 أبريل الماضى واستمرار حبس 10 فلاحين. اختتم إبراهيم مطالبه بالنداء للدكتورة هدى عبدالناصر ابنة الزعيم الراحل لاستعادة حقوق الفلاحين، لأن الفلاح بعد ناصر أصبح بلا ظهر، وأصبح مهانًا، ولا صوت له، وإنقاذهم من الإقطاعى عبدالعزيز المصرى وأشقائه. ويوضح سيد أبو العلا- مسئول الوحدة القانونية بحزب التحالف الشعبى الاشتراكى ومحامى فلاحى «سرسو»- أصل حكاية الأرض، قائلاً: إن مساحة أراضى الفلاحين تبلغ 43 فدانًا وتعود حكايتهم أنهم كانوا جزءًا من 95 فدانًا يمتلكهم الإقطاعى فريد المصرى وحصل عليها من الدولة كبدل عن أراضى له فى الشرقية وذلك قبل ثورة يوليو، ثم بعد قيام الثورة وتطبيق قوانين الإصلاح الزراعى فى عهد جمال عبدالناصر، أصبحت أراضى فريد المصرى ملكًا للدولة وتم توزيع 52 فدانًا للجيش لإنشاء قاعدة عسكرية و43 فدانًا على الفلاحين العائدين من حرب اليمن 1962 كتعويض لهم على السنوات الطويلة التى قضوها فى الحرب، بواقع فدان ونصف فدان لكل فلاح. أضاف: إن الفلاحين منذ 1967 وهم يزرعون الأرض ويسددون أقساطها لهيئة الإصلاح الزراعى حتى يتملكوها بشكل نهائى، إلى أن عاد الإقطاع من جديد فى عهد السادات يكشف عن وجهه القبيح، وبحث فريد المصرى من جديد لاسترداد الأرض من الفلاحين وقدم بعض الأوراق المزورة، التى تفيد أنه تصالح مع هيئة الاصلاح الزراعى وأنه استعاد ملكيته للأرض مرة أخرى. وقد رفعت هيئة الإصلاح الزراعى قضية ضد فريد المصرى عام 1986 وحصلت على حكم نهائى من الإدارية العليا يفيد بأن ال43 فدانًا ملكيتها نهائية لهيئة الإصلاح الزراعى، إلى أن جاء عهد مبارك الذى كان امتدادًا طبيعًا للسادات وسياساته للانحياز لرجال الأعمال والإقطاعيين ضد الفلاحين الصغار، وصدر قانون إنهاء الإيجارات الزراعية 1991 وبناء على هذا القانون حاول ورثة فريد المصرى الاستيلاء على أراضى الفلاحين من جديد بادعاء أن الفلاحين مستأجرون لهذه الأراضى من والدهم وهذا غير صحيح. حدثت ثورة يناير 2011 ورغم حصول ورثة فريد المصرى على قرار إدارى من المحامى العام لنيابة المنصورة بناء على تحريات مزورة من قسم شرطة طلخا تدعى بأن 43 فدانًا ملكهم واحتوت التحريات على وقائع غير حقيقية بأن الأراضى تقع فى حيازة ورثة فريد المصرى وهذا غير حقيقى، وصدر بالفعل قرار من المحامى العام بتمكين الحائز على الأراضى. وأكد محامى «فلاحى سرسو»: سوف نحرك دعوى قضائية ضد المحامى العام للتحقيق فى كل هذه الثغرات القانونية من جديد، معربًا أنه رغم قرار المحامى العام 2011 ونظرًا لاندلاع ثورة يناير آنذاك وأن الدولة كانت منحازة بقوة للمواطن وللفلاح، لم تتمكن الشرطة من تنفيذ قرار المحامى العام، ولكن فى فبراير 2015 الماضى وبعدما عادت عصا الشرطة من جديد بنفس قوتها وانحيازها لرجال الأعمال، نفذت شرطة طلخا القرار الإدارى الصادر من 2011 ولم تلتفت لحكمين قضائيين نهائيين ملزمين للتنفيذ. وأشار إلى أن الفلاحين منذ طردهم وتمكين ورثة فريد المصرى من الأراضى خلال الأشهر الثلاثة الماضية يتعرضون لجميع أشكال الانتهاكات بالأسلحة من بلطجية الورثة الذين تم تسكينهم فى مصنع السيراميك المقابل للأراضى وهو ملك زكريا فريد المصرى أحد الورثة، ويتم تحرير محاضر كيدية ضد الفلاحين باستمرار باتهامات باطلة من قطع السلك الشائك حول الأراضى أو سرقة كشافات الإضاءة، وقيام مباحث قسم شرطة طلخا بحبس بعض الفلاحين لمدة 7 أيام لتجبرهم لبيع الأراضى والإمضاء على أوراق تصالح مع ورثة فريد المصرى. قال عيد حواش- المتحدث الرسمى باسم وزارة الزراعة: إن الوزير الدكتور صلاح هلال يفتح أبوابه لجميع الفلاحين ليستمع إلى مشكلاتهم، وهو يعترف بأحقية وملكية فلاحى «سرسو» بالأرض، ولكن الوزارة ليس من اختصاصاتها التدخل للفصل بين النزاع القضائى بين الفلاحين وورثة فريد المصرى، مؤكدًا أن تمكين الفلاحين من الأرض هو مسئولية وزارة الداخلية ومديرية أمن الدقهلية. حاولت «روزاليوسف» الوصول إلى عبدالعزيز المصرى ليطرح وجهة نظره، ولكن لم يرد على أرقام هاتفه رغم إرسال رسائل نصية له تكشف عن الرغبة فى كفالة حق الرد له، وطرح رأيه، إلا أنه لم يرد على الهاتف حتى كتابة هذه السطور.∎