يحتفل عمال مصر هذه الأيام بعيدهم، ورغم الأوضاع الساكنة فإن التاريخ العمالى فى مصر حافل بالإنجاز والنضال المهنى والسياسى معًا، ففى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كانت المصانع هنا وهناك مكتظة بالأيدى الماهرة التى لا تتوقف عن العمل. وقبل مجىء ناصر إلى سدة الحكم بأكثر من قرن، كان هناك فى صحراء السويس فلاحون مصريون، يمسكون بالحفار ويضربون الصخر بالفؤوس ومنهم من يموت عطشًا قبل أن تصل المياه إلى الوادى الذى حفروه قناة السويس الملاحية. اليوم يتكرر نفس المشهد ونفس المشروع، نحفر تفريعة جديدة للقناة التى مر على افتتاحها 146 عامًا، لكن ثمة اختلافات بين الماضى والحاضر، بين العامل الحر والفلاح العامل بالسخرة تحت وطأة الاستعمار الأجنبى والخزى المحلى، فالعامل المصرى الذى عاش الفترة ما بين (1859 إلى 1969) هو الأسوأ حظًا على الإطلاق، فمصر التى كان لا يزيد عدد سكانها على 5 ملايين، تم تسخير حوالى مليون منهم للعمل فى صحراء السويس بعد جلبهم من حقولهم التى لم يملكوها فى ذلك الوقت لتفشى الإقطاع. لم يكن للمصريين حينها أى حيلة للهروب من العمل فى حفر الممر الملاحى ولا أى طريقة للهروب من الموت سواء هاربين من الحفر أو هاربين من العطش والجوع فى حرارة الجو وبرودة الطقس. الدكتور عبدالعزيز محمد الشناوى فى كتابه «السُخرة فى حفر قناة السويس» الصادر عن الهيئة العامة للكتاب عام2010 قال إن سعيد باشا الذى جاء واليًا على مصر قبل البدء فى حفر القناة بشهور قليلة كان خاضعًا للتسلط القنصلى للدول الأوروبية مثل فرنسا وانجلترا وإيطاليا. واستعرض الشناوى فى مؤلفه كيف كانت مصر تدار حينها؟ وكيف كان الأجانب المقيمون بمصر ينهبون خزانة البلاد عن طريق التعويضات التى يحصلون عليها جراء أى مشكلة أو واقعة تضايقهم؟، فقرر سعيد باشا ألا يعتمد على العمال الأجانب فى حفر قناة السويس خوفًا من أن يأتى العمال بصحبة أسرهم ويؤسسون مستعمرة أجنبية على أراضى السويس، فيعجز سعيد عن دفع الأموال ويتزعزع عرشه. واقترح سعيد على المهندس الفرنسى الذى باشر أعمال حفر القناة «فرديناند ديليسبس» أن تكون العمالة مصرية فقط، ووافق ديليسبس بشدة، لأنه كان يعرف أن أجور العمال المصريين متدنية جدًا بالمقابل للعمالة الأجنبية ذات الأجور المرتفعة وساعات العمل الأقل، بينما يقتصر تواجد الأجانب فى المهام الفنية فقط التى لا يتقنها المصريون. وإذا قارنا الماضى بالحاضر فسينتصر الحاضر فى أشواط أهمها أن العمالة الحالية التى تحفر القناة الجديدة الموازية لقناة السويس كلها مصرية، وأنهم لم يذهبوا للعمل هناك بالأمر أو الإجبار أو بسخرة مستعمر، وإنما المشروع يُعتبر حاليًا فرصة عمل يبحث عنها شباب كثيرون اضطرتهم الظروف الاقتصادية والسياسية للتفرغ لأى عمل يملأ جيوبهم وبطونهم. ورغم أن مشروع قناة السويس الجديدة لم تتضح معالمه كاملة على أرض الواقع حتى الآن نظرًا لاستمرار أعمال «تكريك» نواتج الحفر، فإنه إذا استطاعت الإدارة الحالية للدولة المصرية تحقيق المشروع مكتملا كما أعلنه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الخامس من أغسطس عام 2014 فسيكون مشروعًا قوميًا خالصًا يوازى مشروع القناة القديم الذى تحول من مشروع استعمارى إلى قومى بعد تأميم شركة قناة السويس فى 26 يوليو .1956 فى السنوات الأربع الأولى من بدء حفر القناة فى عهد سعيد باشا (1859 - 1862) واجهت شركة قناة السويس التى كانت مملوكة لفرنسا مشكلة متوقعة حينها وهى نقص ماء الشرب فى مواقع الحفر، والتى نتج عنها وفاة أكثر من 150 ألفا، وكان الاضطراب الشديد وارتجال الحلول هما الطابع الذى اتسمت به تلك الفترة فيما يختص بهذه المشكلة. وواجهت الشركة حالات خطيرة من نقص كميات الماء أو نفادها أو تأخر وصولها أو انعدامها خاصة فى منطقة بورسعيد التى كانت أولى مناطق حفر القناة، وأخذت الشركة تنقل إليها ماء الشرب أول الأمر من الإسكندرية فى سفينة استأجرتها وكانت تسمى «سعيد 1». وكما جاء فى كتاب «السخرة فى حفر قناة السويس» فإن ديلسبس ضغط على الخارجية الفرنسية لتتدخل وتجبر سعيد باشا على زيادة عمال السخرة ونجح ديلسبس فى خطته فى منتصف عام1861 وخضغ سعيد مرة أخرى وتدفق نحو ساحات الحفر عمال سخرة بكثرة لم تعهدها الشركة منذ بدء الحفر، حتى وصل عدد العمال المصريين المهاجرين قراهم والمسخرين للحفر إلى 7929 عاملاً فى أغسطس من ذات العام. وكان سعيد باشا لا يدرك تمامًا كيف كانت الأمور تسير فى حفر القناة والأخطار التى كانت تحدق بأفراد الشعب المصرى المسخرين فى حفر القناة. فسعيد فى تطبيقه نظام السخرة كان يرضخ للضغط الفرنسى من ناحية وينظر إلى مصلحته الشخصية بتخليد ذكراه فى التاريخ من ناحية ثانية. ويمكننا أن نقول إن حوالى ربع سكان مصر فى ذلك الوقت شاركوا فى الحفر ولم يكن سعيد يصدر أوامره للعمد ومسئولى الأقاليم لجمع العمالة وتوفيرها للشركة وبذلك سمح لديليسبس أن يجمع المصريين كيفما يشاء وبالطريقة التى يختارها. ويختلف المؤرخون حول ما إذا كانت الشركة تدفع أجورًا لهؤلاء العمال أم لا والبعض منهم أشار إلى أن الشركة لم تنتظم فى دفع الأجور بشكل شهرى والتى كانت متدنية مقارنة بمتوسط الأجور فى ذلك الوقت. وفرضت الشركة على العامل بالسخرة نظامًا عُرف باسم «المقطوعية» ويقضى بإعطاء العامل أجزاء من الأرض التى ستحفر فيها القناة يطلق على كل جزء منها «النمرة» وتخطط على شكل مستطيل والقطعة الواحدة كانت تستغرق عادة 5 أيام وكلما فرغ من قطعة حفر قطعة جديدة حتى ينقضى الشهر المقرر لإقامته فى ساحات الحفر. ولم تكن الرقابة الصارمة المفروضة تسمح للعامل بالتهاون فى العمل أو حتى التراخى فيه وكانت الشركة لا تقبل أثناء فرز العمال الجدد من القادمين من مدينة الزقازيق بالشرقية إلا بالشبان الأشداء الذين يقوون على عمليات الحفر. وحددت الشركة من نفسها أجورا متباينة تختلف حسب نوع الترعة التى يحفر فيها العامل، وكان متوسط الأجر الذى يحصل عليه الفلاح العامل بالسخرة 57 قرشًا ونصف القرش مقابل العمل طوال الشهر دون انقطاع فى حفر ترعة ذات ماء عذب، أما إذا كان عاملا فى حفر قناة بحرية فيكون أجره 4 قروش فقط متضمنة ثمن الخبز الذى يأكله. ويقول الشناوى فى كتابه إن الشركة استحدثت السخرة الليلية فى نظام العمل، وهذا دليل على أن الشركة كانت تعتصر كل ذرة من النشاط فى الفلاحين إلى حد أن الذين قدر لهم أن يعودوا إلى بلادهم ويعيشوا بعد تلك المحنة كانوا يظلون أسابيع عديدة عاجزين عن العمل. وقرر أحد المؤرخين بحقيقة أنه كثيرًا ما أسىء استخدام نظام السخرة فى مصر حتى أصبحت السخرة أمرًا عاديًا فى مصر. وطالب المهندس الفرنسى سعيد باشا بتسريح عدد من جنود الجيش المصرى ليتجهوا للعمل فى حفر القناة ولا توجد وثيقة توضح رد سعيد على ذلك الاقتراح. هكذا كان حال العمالة المصرية فى ذلك الوقت، مهانة وسخرة وموت عطشًا. وبجانب هذا النوع من العمال كان هناك عمال من نوع آخر يصنعون رزقهم من فنون أيديهم مثل الذين كانوا يعملون فى مهنة الخزف والنسيج والجلود والطباعة، ولكن نسبتهم لم تكن كبيرة، ولم تكن هناك نقابة عمالية تدافع عن حقوقهم وحقوق السخرة فى السويس. ورغم أن النقابات العمالية والمهنية تتعدد الآن فإن العمالة المصرية تعانى من حالة هبوط وركود سواء على مستوى العمالة التطبيقية أو الفنية، ربما لأسباب عدة تولد من ضعف الاقتصاد وعدم قدرة الدولة على استيعاب واستخدام الموارد البشرية بالشكل الذى يغذى قلاع الإنتاج والعمل.∎