لم تكن الإسكندرية بالنسبة لنا منتجعا صيفياً نقضي فيه بضعة أسابيع في فصل الصيف، وإنما كانت عالماً آخر، نتحرر فيه من الملل ورتابة الحياة وتسقط عنا همومنا كما تسقط عن الشجرة أوراقها الذابلة في الخريف. والبحر في الإسكندرية ليس أمواجاً تعلو أو تهدأ نلقي فيها بأجسادنا الصغيرة فتبرأ من العلل البدنية والنفسية فالأمهات في الإسكندرية يلقين بالمشيمة في البحر ليحصن أبناءهن من الغرق، والفتيات والشبان يلقون بقطع النقود المعدنية في بئر مسعود بعد أن يودعوها أحلامهم وأمانيهم وكلهم أمل في أن يتحقق ما يتمنونه. كان يوم 26 يوليو عام 1954 مشهوداً في حياتنا عندما تحلقنا حول أبي وهو يبحث بمؤشر المذياع حتي وصل أخيراً إلي صوت يعلن «هنا الإسكندرية»، ومن يومها لعبت إذاعة الإسكندرية التي أنشئت في ذلك اليوم دوراً كبيراً في لم شمل الإسكندرانية وخلق إحساسهم المميز بمدينتهم، عن طريق إذاعة الإسكندرية تعرفنا إلي أغاني المطرب السكندري عزت عوض الله الذي لقب بمطرب الإسكندرية الأول وتعلقنا بها وبصوته الرخيم، ولا أدري لماذا لم يتبوأ عزت عوض الله مكانته التي يستحقها في صفوف المطربين المصريين. قال عنه الشيخ سيد مكاوي «الفنان عزت عوض الله لا يعوض» وأشاد الناقد الفني جليل البنداري بأغنية «يا زايد في الحلاوة»، وقصة هذا المطرب الذي غادر الحياة وهو في الأربعين من عمره تستحق أن تكون فيلماً سينمائياً سيلقي كل نجاح.. فاسمه الحقيقي هو مرقص عوض الله باسيلي من مواليد غيط العنب عام 1934 وكان يعمل في صيانة التليفونات بمنطقة جليم وقد أتيحت لمرقص الذي غير اسمه إلي عزت عوض الله الفرصة للغناء والتلحين بعد انطلاق اذاعة الإسكندرية، فنال شهرة كبيرة بين أبناء الإسكندرية خاصة بأغنيتيه «أنا أصلي إسكندراني» و«يا زايد في الحلاوة» كذلك عرفتنا إذاعة الإسكندرية بالمطربة الشعبية السكندرية بدرية السيد التي كنا نردد أغانيها خاصة موالها الشهير «علمني طبعك أطاوعك» ولن أنسي تلك الرحلة التي اصطحبت فيها زميلتي وصديقتي العزيزة نازك عباس العتر ونحن في العام الأول من قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب إلي كلية العلوم بمحرم بيه، كنت أحلم بعرض محاولاتي الأولي في القصة القصيرة علي ذلك الأديب العملاق الذي كنا نتحلق عصر كل يوم حول الراديو لنستمع إلي مسلسلاته بإذاعة الإسكندرية الدكتور يوسف عز الدين عيسي الأديب والمفكر الذي اختار الإسكندرية مستقراً له، هذا الكاتب العبقري كان أستاذاً ورئيساً لقسم علم الحيوان بكلية علوم الإسكندرية ولكننا تعرفنا عليه من خلال مسلسلاته الإذاعية التي كانت أدباً درامياً رفيعاً ومنها «العسل المر» و«اليوم المفقود» و«لا تلوموا الخريف». -- أهدت الإسكندرية لمصر العديد من فنانيها العالميين وعلي رأسهم الرائع عمر الشريف والمخرج يوسف شاهين وتمساح النيل عبداللطيف أبوهيف وألهمت كل من ولد أو مر بها وعاش فترة بين ربوعها ومن أهمهم ابنها العبقري السيد درويش البحر الذي في حياة خاطفة تخطت الثلاثين بعام واحد أثري الموسيقي العربية وبعث النهضة الموسيقية في مصر كان يدرس بالمعهد الديني في الصباح ويغني في مقاهي الإسكندرية في المساء ولم يشعر بأي تناقض بين المجالين كذلك الشيخ سلامة حجازي الأب الروحي لسيد درويش الذي ولد بحي رأس التين بالإسكندرية، ورغم أنه عمل في بداية حياته مقرئاً للقرآن الكريم وعين شيخاً للطرق الصوفية فقد تعلم أصول فن الإنشاد وأوزان النغم والأداء، وأصبح واحداً من أشهر المطربين والممثلين والملحنين في عصره وأسس تختاً كان يحيي الحفلات الغنائية في الأفراح. ومحمود بيرم التونسي الذي ولد وعاش طفولته في حي الأنفوشي بالسيالة والفنان التشكيلي محمود سعيد الذي عشق الإسكندرية وخلد بنات بحري في لوحاته والذي بيعت مؤخراً إحدي لوحاته «الشوادف» ب4,2 مليون دولار، أي أكثر من 13 مليون جنيه مصري، في قاعة كريستي بدبي والأخوان سيف وأدهم وانلي اللذان ولدا في قصر «عرفان باشا» بمحرم بك بالإسكندرية ودرسا الفن في مرسم فنان إيطالي في الإسكندرية.. وسطعت موهبة وكفاءة سيف فعين أستاذاً في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، رغم أنه لم يدرس الفن بأي كلية. والكاتب الكبير إدوارد الخراط الذي ولد بالإسكندرية وحصل علي ليسانس الحقوق من جامعتها ولعب دوراً في الحركة الوطنية الثورية في الإسكندرية واعتقل عام 1948 في أبوقير والطور. -- الإسكندرية حياة وعمر يضاف إلي العمر وجسر يمتد ما بين مصر والعالم لذلك لم يكن غريباً أن يقصدها الموهوبون من شتي أنحاء الوطن العربي ليحققوا أحلامهم علي أرضها، وأن تكون ثاني مدن العالم في العروض السينمائية والرائدة في الصحافة النسائية حيث صدرت أول مجلة نسائية في مصر «الفتاة» عام 1982 التي أسستها ظلت تحررها لمدة عامين المسيحية ذات الجذور اللبنانية هند نوفل (1875 - 1957)، ومن الإسكندرية صدرت أول موسوعة عن المرأة العربية كتبتها أمها مريم النحاس، وأصدرت ألكسندرا خوري أفرينو (1872 - 1927) مجلتها «أنيس الجليس» التي استمرت سبع سنوات من 1898 - 1904 وكانت منبراً للأقلام الحرة. الإسكندرية ليست مدينة واحدة بل عدة مدن تتعانق وتتنفس معاً هواء بحر واحد ومن الظلم أن تستأصل أياً من تلك المدن التوائم كي تعيش واحدة فقط.. ما يجري منذ السبعينيات هو محاولة يائسة من البعض لإخفاء معالم إسكندرية الكوزموبوليتانية التي وصفها داريل بأنها «عاصمة الذاكرة المحببة» وقسمها إلي مدينة أوروبية وأخري عربية يقطن بها خمسة أجناس وخمس لغات ودستة من المذاهب، العديد من شوارع الإسكندرية وأحيائها مثل رشدي وباكوس وصفر وشوتز وزيزنيا وجناكليس، استمدت أسماءها من أسماء من البارونات والباشوات الأجانب الذين كانوا يقيمون بها بينما أحياء أخري تحمل أسماء مشايخ نزحوا إليها من المغرب العربي واستقروا بها وأصبحوا من معالمها الأساسية من أشهرهم أبوالعباس المرسي صاحب أكبر جامع في الإسكندرية الذي ولد ونشأ بمدينة مرسيه بالأندلس ثم جاء مع أستاذه الحسن البصري وبعض تلاميذه إلي الإسكندرية عام 642 هجرية، واستقروا بحي كوم الدكة. إن حي وجامع سيدي بشر اللذين ينسبان إلي الشيخ بشر بن الحسين بن بشر الجوهري جزائري الأصل وجامع وحي سيدي جابر اللذين ينسبان إلي الشيخ الجزائري الكبير جابر الذي عاش في الإسكندرية وكان إماماً لمسجد سيدي جابر. -- أما الإسكندرية الأوروبية التي خلد الكاتب لورانس داريل (1912 - 1990) روحها «الكوزموبوليتانية» في رباعيته واعتبرها «مدينة الرومان والإغريق التي بنيت «كالسد لمنع طوفان الظلمة الأفريقية» فقد طمست معالمها وهدمت أغلب الفلل والقصور الرائعة التي كانت تميزها منذ السبعينيات، وأصبحت تعاني من التعتيم والإهمال الشديد كأنها مرحلة يود الجيل الحالي من أبناء المدينة أن يمحوها من ذاكرتهم. مثل آلاف الأوروبيين لجأ داريل إلي مصر عام 1941 هرباً من تقدم النازيين وفي شارع المأمون الهادئ بحي محرم بك العريق بالإسكندرية سكن داريل الدور العلوي من فيللا رائعة، وفيها كتب «رباعية الإسكندرية» وقد ظل بها حتي غادر الإسكندرية في أعقاب العدوان الثلاثي علي مصر عام 1956 وبعدما يقرب من ثلاثين عاماً عاد داريل إلي المدينة التي ألهمته رباعيته الشهيرة لكي يصور فيلماً وثائقياً لقناة BBC عنوانه «روح المكان» وعندما زار داريل المنزل الذي أقام فيه فترة أصيب بصدمة شديدة، فقد دمر المنزل الساحر الذي كان محاطاً بحديقة غناء تحوي أندر وأجمل الخمائل والأشجار؟ واختفت النافورة الرخامية بديعة الصنع والتماثيل، والأعمدة الرخامية، وساعة الزهور الرخامية المنقوشة عليها الحروف اللاتينية والمصور عليها مسار الشمس والتي كانت تعد من أندر الساعات ونزعت السلالم الرخامية التي كان يصعدها إلي البرج الأثري الذي كتب فيه أروع القصائد والروايات. -- لم يتغن الشعب المصري بحب مدينة كما فعل مع الإسكندرية، ولم يدلل أبناء مدينة بقدر ما دلل وامتدح وتغني بأهل الإسكندرية وفي التراث الشعبي الفني اسكندرية مارية وترابها زعفران، واقروا الفاتحة لأبوالعباس يا إسكندرية يا أجدع ناس، وشط إسكندرية يا شط الغرام، وبين شطين وماية عشقتهم عينيا يا غاليين علي يا أهل إسكندرية. فهل سنستسلم لمعاول الهدم التي تسعي لطمس تلك المدينة الرائعة أم سيهب أبناؤها المخلصون لينقذوها وينقذوا معها مصر كلها..