شاب فى الثلاثينيات من عمره، مهندم المظهر، لحيته خفيفة، تبدو عليه مظاهر يسر الحال يحمل حقيبة جلدية قيمة، ويصعد من محطة مترو الملك الصالح، ممسكًا سواكا فى يده، ومنشورات فى يده الأخرى، كتب عليها «صدقة جارية على روح محمود أحمد وفاطمة إسماعيل» أحدها من 6 ورقات مجتمعة، تفوح بالدعوة إلى الجهاد، والأخرى من 3 ورقات، ترهب من عذاب القبر والنار، وزعها على ركاب المترو، دون تفرقة بين رجال ونساء، وسط سخرية بعض الشباب، قابلها بابتسامة، مستمرا فى عمله قائلا إنها صدقة جارية على روح والدته. المشهد ليس من أفلام الكاتب «وحيد حامد» بل هو مشهد «واقعى» حدث فى مترو الأنفاق، ويتكرر كثيرا، فى غياب الدولة، وشرطة الأنفاق، التى لم تفق من سباتها بعد.
قصة طبعها ذلك الشاب من كتاب عنوانه «موارد الظمآن لدروس الزمان»، للمؤلف «عبدالعزيز المحمد السلمان»، قال لأحد ركاب المترو: أنه جاءه من الخارج خصيصا، قبل أن يتحدث معه عن الجهاد، وفضله، ومدى قناعته به.
القصة باطلة، ومطعون فى كل جزء منها، لشخص يقال له «أبو قدامة الشامى» فندها كاتب يدعى «إحسان العتيبى» فى مقال له بدءا من بطل القصة، الذى لم يعرف من قبل فى سير التاريخ، ومرورا بفعل المرأة التى دخلت عليه وقصت شعرها، ليستخدمه فى الجهاد، وهو فعل لم تأت به أمهات المؤمنين ونهاية بما أوردته القصة من ادعاء بطلها بعلم الغيب.
القصة المزعومة فى 6 ورقات «مصورة» تحض على الجهاد، وعلى الثأر من الكفار، وتبشر بأجر عظيم ناله البطل، واكتشفنا أنها متداولة بشكل كبير فى الشبكة العنبكوتية، كما تناقلتها العديد من المنتديات، والمواقع المنتسبة للتيار الإسلامى فى مصر والسعودية، التى أشادت بها، دون أى محاولة للتأكد من صحتها، خاصة أنها وردت فى بعض الكتب، ومنها الكتاب الذى أشرنا إليه.
هو إرهاب يغذى فى الوعى المصرى، على طريقة «دس السم فى العسل»، يستغل غياب المواجهة الفكرية المستنيرة، وغياب تصحيح المفاهيم الدينية الخاطئة، التى استوردناها، وما زال يبثها من ينتحلون صفة المشايخ، و«سم زعاف» فى عقول الشباب «المغيب»، فى الوقت الذى ينشغل الأزهر فيه بمنع فيلم «النبى نوح»، عن منع إفساد عقول أمة «النبى محمد صلى الله عليه وسلم»، وتنشغل الداخلية بحرب وهمية، ابتدعتها مع ملصق «هل صليت على النبى»، عن فوضى مترو الأنفاق، الذى بات رمزًا لانفجار قنابل الجماعة الإرهابية، والتى كان آخرها «4 محطات مترو»، ومرتعًا للبلطجة، والتحرش، والمتسولين، والباعة الجائلين.
الخبراء حللوا المنشورات وأجابوا عن الأسئلة المسكوت عنها: اللواء فؤاد علام- وكيل جهاز مباحث أمن الدولة السابق - أكد أن المجموعات الإرهابية المدعومة من الإخوان المسلمين، تحاول تصوير الدولة منهارة، وغير آمنة، فى محاولة يائسة للتأثير على الناس وإثارة الرعب، وفى الحقيقة أن ذلك يعود بنتائج سلبية عليهم أولا، لأن الناس كرهت وكشفت أفكارهم للعالم.
وأضاف: هذه المنشورات لها تأثير، لكن ليس لها خطورة لأنها تثير نوعًا من البلبلة، وعلى الداخلية الرد عليها فى بيان لوضعها فى حجمها الطبيعى، فما هى إلا «لعب عيال»، ويجب أن ينتبه شيخ الأزهر لها، ليلعب دوره الرئيسى، ولا يقتصر الأمر على وزير الأوقاف، خاصة تناول المنشورات للجانب الدينى.
واستطرد أنه لا توجد قوة فى العالم فى إمكانها القضاء تمامًا على تلك الثغرات، فإذا ترك شخصًا حزمة منشورات بالمترو، لن ينتبه له أحد، لذا الوعى الشعبى مطلوب فى مثل هذه الظروف، وهو مهم للغاية، خاصة أن وسائل التواصل الاجتماعى، والإنترنت، تجاوزت بمراحل الصورة النمطية لمثل هذه المنشورات.
ويرى الدكتور ناجح إبراهيم القيادى السابق بالجماعة الإسلامية- أنه لابد من معرفة هوية المنشور، والقامات العلمية التى وراءه، وأغراضها الدينية والسياسية، ولا يجب أن توزع تلك المنشورات دون ضابط أو رابط، ففريضة الجهاد عظيمة جداً، لكن أساء إليها أبناؤها وخصومها على السواء، فخصومها أنكروها، وأبناؤها استخدموها فى التفجيرات والاغتيالات، لقتل المسلمين، وقتل الشرطة، كما أساءوا فى استخدام السيف فى غير موضعه ووقته، فالكلام العام عن الجهاد دون بيان أحكامه، ومتى يكون حقاً، وصواباً، ومتى يكون باطلاً وضاراً، يجب الانتباه له، فلا يجوز إطلاقه فحسب، لأن البعض يعتبر اغتيال الشرطة الآن جهاداً مثل جماعة بيت المقدس وغيرها، والبعض الآخر يعتبر قتل الحكام جهاداً وهذا يسيئ للفريضة، لذا يعد تحليل مضامين تلك المنشورات مهم جداً أما الكلام العام فلا يجوز.
واستكمل أن الجهاد فى الأمم، خاص بالجيوش، التى تحارب بقواعد وأسس، أما قتل المسلمين، وتفجير المؤسسات، فليس جهادًا، وتقع المسئولية الكبرى فى محاربة هذه الأفكار، على عاتق مؤسسات الفكر، وليس الأمن، وهى مسئولية المثقفين، ووزارة الأوقاف، والأزهر، فلا يجب أن يتحمل الأمن العبء كله، حتى لا يتشدد، ويقسو، فيضر البلد.
وقد اندثرت فكرة المنشورات أساسًا، بسبب انتشار مواقع التواصل الاجتماعى، وشبكات الإنترنت، التى حلت محلها، لذا من قام بنشر هذا المنشور، تفكيره سطحى وبسيط.
وأضاف اللواء جمال أبو ذكرى- الخبير الأمنى ومساعد وزير الداخلية الأسبق- أن الإخوان «شياطين» فى الدرك الأسفل من النار، وهم أقذر من الملحدين والكفار، وقد فقدوا كل شرعيتهم وكل وسائل التظاهرات وليس لديهم سوى الحقد والغل، ويتبقى لهم النفس الأخير، والأجهزة الأمنية ترصد خلاياهم، أما بخصوص المنشور المذكور، فالدولة تعمل كل ما فى وسعها للحد من الجريمة، ولا تمنعها، وأكبر دول العالم لا تستطيع التصدى بشكل كامل، فهذا المنشور يحض على الجهاد، ويكفر الناس، لكن الشعب المصرى ليس كافراً فالمكتوب كذب، والأسلوب ضعيف، وليس له أية قيمة.
واختتم الدكتور مظهر شاهين- إمام وخطيب مسجد عمر مكرم السابق- بأن استخدام هذه المنشورات فى وسائل المواصلات العامة لا بد أن يكون خاضعاً للأزهر ومراجعته، ويجب أن يحمل توقيع العلماء الموثوق بهم، لأن شروح البعض فى هذه المنشورات يكون بعيداً عن الوسطية، خاصة مسألة الجهاد لأنها توظف سياسيا، وهى تعنى بشرح المسألة بشكل غير صحيح ومسىء، وهى بمثابة دعاية لمؤسسات غير رسمية، قد تهدف إلى جمع التبرعات، لذا لا بد من أخذ الحيطة والحذر فى التعامل معها.