وعدت فى العدد الماضى عقب زيارة وزير خارجية مصر الأخيرة لواشنطن، بشرح ملامح خارطة التعامل السياسية الأمريكية تجاه مصر إلا أن النتائج غير الواضحة لزيارة وزير خارجية الولاياتالمتحدة جون كيرى لأفريقيا الأسبوع الماضى، وظهور توجه أمريكى وحيد وجاد لمسته فى أروقة واشنطن السياسية مؤخرا، فرض نفسه وهو التوجه الذى إن تم استثماره من قبل صناع القرار فى مصر لأمكن لمصر القفز نحو المستقبل وبشكل غير مسبوق فى العصر الحديث! صدقونى لا أبالغ لكن القراءة الاستراتيجية لحالة التملل الأمريكى وعلى جميع المستويات من أعباء وتكلفة حراسة العالم، بالتوازى مع قرارها فى تحديث عقيدتها العسكرية بأدوات لا تسمح بالمواجهة المباشرة على الأرض لدرجة أن تصنيع الدبابات للاستخدام الأمريكى وشك على التوقف مع ميكنة وبرمجة الحروب الأمريكية. وسنركز على شطر يخصنا فى هذه الحالة التى ترجمتها تحركات الإدارة الأمريكية بصمت ودأب سواء تحت مبرر الإعداد لمؤتمر قمه أفريقى أمريكى الخريف المقبل، أو بزيارة جون كيرى لأديس أبابا، إذ شكلت القلاقل الأخيرة فى أفريقيا أزمة لأمريكا التى تريد التفرغ لقضايا استراتيجية أهم تأهبا للمارد الأصفر والدب الروسى الذى يتعافى.
أهم هذه القلاقل كانت الحادث فى السودان الجنوبى وما لمسته من اعتزام واشنطن البحث عن حليف قادر يقوم بالتهدئة ويوفر لها عدم التورط على الأرض، ويبدو أن واشنطن لا ترى حتى الآن فى أديس أبابا التى تسعى دون جدوى لخلق دور زعامة لنفسها رغم العلاقة الوطيدة.. حليفًا قادرًا على أداء المهمة!
يحدث هذا بينما تتوافر لمصر المعطيات والمصالح القومية، ولن أبالغ إن أضفت والفرصة الذهبية لاستعادة زعامة أهدرتها طوعا فى القارة السمراء على مدى الثلاثين عاما الماضية، وببعض من سياسة خارجية رشيدة ممكن أن يقودنا تفعيلها إلى تحقيق الأمن المائى والتنمية لنا ولقلب القارة الأفريقية فى سنوات معدودات كيف؟
الإجابة تتلخص فى القيام بدور فاعل وتحت مظلة الأممالمتحدة بقيادة عملية حفظ سلام عبر إرسال فرقتين من الجيش المصرى تحت مظلة أممية لنزع فتيل الأزمة فى جنوب السودان بالتوازى مع تنفيذ مشروعات تنموية مصاحبة تستثمر فيها الثروة البشرية المصرية والأفريقية من أطباء ومهندسين وعمال مهمتهم مساعدة الجنوبيين وأيضا المساهمة فى تعميق مجرى النيل الأبيض والاستفادة من مشروع كونجلى المنسى واستزراع ملايين الأفدنة والتمدد بالمشروعات التنموية والزراعية لتشمل ليس فقط جنوب السودان بالتمدد شرقا وجنوبا لتشاد وحتى نهر الكونغو فيتم بذلك إنعاش القلب الأفريقى الذى سيوفر الغذاء والمياه لسكانه ناهيك عن توفير المحاصيل الاستراتيجية.
فما الذى يمنع مصر من تفعيل جهد تقوم به بالفعل لكن بكم محدود فعلى سبيل المثال أرسلت مصر مؤخرا ستة أطباء عسكريين لإجراء جراحات فى مستشفى جوبا العسكرى، كما ساهمت مصر منذ عدة سنوات بجهود إنسانية هناك، لكن من الواضح أن هذه الأعداد غير كافية إذا ما تحدثنا عن مشروع عملاق يتجاوز منطقة السودان الجنوبى كالذى نقترحه ليكون أشبه بمشروع مارشال مصرى فى أفريقيا والذى نستطيع به: تشغيل العمالة المصرية والأفريقية - توفير المياه لاستصلاح ملايين الأفدنة فى مصر- استعادة زعامتنا الأفريقية - حماية أمننا القومى جنوبا - بناء وشق طرق تخدم المستقبل ولربما تحيى مشروع خطوط السكك الحديدية القاهرة- جوهانسبرج وهو ماسيستلزم بناء موانى شمالية متوسطية لخدمة نقل البضائع والمحاصيل.
وقد يرى البعض فى مشروع كهذا ضربا من الخيال، لكن المؤكد أن الظروف الدولية والأمريكية مواكبة، ووصل الأمر إلى التلميح بإمكانية تشجيع المجموعة الدولية على تحمل التكاليف الأولية والمتعلقة بقوة حفظ سلام مصرية، وما يترتب على ذلك من تحمل تكاليف قواتنا وتسليحها وأيضا تكاليف إنشاء قاعدتين للخدمات اللوجستية التى ستحتاجها مصر والقوات المصرية إحداها مصرية جنوب مصر والأخرى فى السودان الجنوبى. وهو ما سيمثل قوة ردع فى هذه المنطقة أحسب أن مصر فى حاجة لها مع تصاعد التهديدات بالنسبة لأمن مصر المائى على الأقل.
ناهيك عن أن الظرف الحالى يدعو إلى اعتماد سياسة خارجية تركز على صالح تأمين الجبهة الداخلية لاسيما من ناحيتى منع انهيار الوضع الاقتصادى، والعمل على استقرار المشهد السياسى الداخلى، لأنه ودون تماسك داخلى لن تتمكن مصر من ممارسة سياسة خارجية قوية، وبالتالى سيكون من المهم تركيز جهود السياسة الخارجية فى قضايا دولية وإقليمية تصب فى صالح المصلحة الوطنية ولا بأس هنا من الاستفادة من دخول لاعبين جدد كبار على الساحة الدولية وبمقابل يصب فى مصلحة مصر.