قطعًا لم تكن القوات المسلحة تقبل الأوضاع التى مرت بها البلاد قبل ثورة 25 يناير أثناء حكم الرئيس المخلوع محمد حسنى مبارك، وبالتأكيد لم تقبل أبدًا بمشروع توريث الحكم لجمال مبارك الذى كان ضد رغبة الشعب والجيش، ولم تصمت عن الفساد الذى كان يسرى فى شريان الدولة فى عهد مبارك والحزب الوطنى، وهناك العديد من الأدلة والمواقف التاريخية للقوات المسلحة فى هذا الصدد لكنه لا يسعنا أن نذكر هذه الأدلة والمواقف الآن، بل سيذكرها التاريخ فيما بعد. كل هذه الأشياء التى لم يقبلها الجيش قبل قيام الثورة تجلت واضحة فى موقفه المؤيد الحامى لثورة يناير عندما وقفت الحشود المطالبة بسقوط نظام مبارك بالملايين فى ميادين مصر المختلفة، ولعل موقفه المنحاز لإرادة الشعب لم يتزحزح أو يتذبذب بل كان حاسمًا وواضحًا منذ الوهلة الأولى.
كان من الممكن أن نعتبر مظاهرات 25 يناير فى ميدان التحرير وفى السويس وفى عدة مدن مجرد مظاهرات عادية تطالب بالحرية والكرامة ورغيف العيش، ولكن سرعان ما تطور الأمر ليتشكل فى قالبه الثورى بعد صلاة الجمعة يوم 28 يناير 2011 حيث زادت حدة التظاهرات فى كل البقاع داخل مصر، واستطاعت الحشود الثائرة أن تتغلب على قمع قوات الشرطة التى حاولت الوقوف كحائل بين المتظاهرين وبين الميادين العامة، حتى لم تستطع قوات الشرطة الصمود مساء يوم 28 يناير وبعد ثلاثة أيام من التظاهرات المتفرقة فانهارت تمامًا وخرجت من المشهد وصاحب ذلك الانهيار فتح السجون وهروب العديد من المساجين والمسجلين خطر وكذلك اقتحام الأقسام وإشعال النيران فى بعضها والاستيلاء على الأسلحة والذخائر.
هنا لم يجد الرئيس المخلوع مفرًا من استدعاء الجيش للنزول إلى ميادين وشوارع مصر لاستعادة الأمن والتحكم فى الفوضى التى نجمت عن انسحاب الشرطة، وعلى الجانب الآخر قرر المتظاهرون الاعتصام فى ميدان التحرير وازدادت الحشود يومًا بعد يوم طوال 18 يوما حتى تنحى مبارك.
كان نزول القوات المسلحة إلى الميادين فى هذه اللحظة بمثابة الدرع الحامية للشعب الثائر ومطالبه، ولعل أعداء هذه الثورة ظنوا أن الجيش سينتشر فى الميادين لردع الثورة والقضاء عليها لصالح مبارك ونظامه، ولكن هذا لم يحدث.
لا يستطيع أحد أن ينكر هتافات المتظاهرين يوم 28 المطالبة بنزول الجيش لحماية الثورة فهتفوا «سابوا الشرطة بتضرب فينا.. فين الجيش ينزل يحمينا».
لذلك عندما اقتحمت مدرعات القوات المسلحة المشهد يوم 28 لاقت ترحيبًا وتهليلاً غير عادى من الثوار خصوصًا فى ميدان التحرير، وكان أمل الثوار وقتها أن يدعم الجيش موقفهم ويتخلى عن رئيس ونظام فاسد قضى على البلاد طوال 30 عاما، وهذا ما تحقق بالفعل. طوال 18 يوما من الاعتصام فى ميادين مصر لم يطلق الجيش المصرى رصاصة واحدة ضد أبناء الشعب، ووقف حاميًا لتظاهرات المصريين وواجه البلطجية المأجورين الذين حاولوا الاعتداء على المتظاهرين أكثر من مرة.
ولعل من أبرز المشاهد التى لا ينساها المتظاهرون هو ما فعله النقيب ماجد بولس عندما دافع عن الميدان والمتظاهرين ضد اعتداء البلطجية يوم موقعة الجمل الشهيرة عندما هجموا على الميدان من المداخل الرئيسية الخمسة ووقتها طمأن بولس المتظاهرين وأخبرهم أنه سيتعامل مع الأمر وصعد على دبابته دون أن يرتدى درعه الواقية وأطلق رصاصات تحذيرية فى الهواء لإبعاد البلطجية لكنها لم تكن كافية لردعهم فظل يطلق الرصاصات فى الهواء ودخل فى معركة بدنية مع بعضهم حتى استطاع إبعادهم عن الميدان وأنقذ الثوار من مذبحة أخرى كانوا سيتعرضون لها، ولم يجرؤ البلطجية على دخول الميدان مرة أخرى بعد ما فعله «بولس» الذى أطلق عليه المتظاهرون وقتها «أسد الميدان».
مشهد آخر شاركت به بنفسى عندما توجه مجموعة من المعتصمين وأنا منهم إلى أحد الضباط المسئولين عن حماية الميدان بعد موقعة الجمل ورتبته «رائد» وذلك بعدما ثارت عدة شائعات أن مبارك أمر القوات المسلحة بفتح النار على المتظاهرين، سألنا الرائد الذى لا أعرف اسمه «هل ستنفذون أوامر الضرب فى المتظاهرين إذا صدرت لكم؟».. أجابنا بسرعة دون تردد «احنا نموت قبلكم يا جماعة».
هذه المشاهد وغيرها توضح كيف انحازت قواتنا المسلحة لإرادة الثورة ومطالب الشعب وكيف حمت هذه الثورة العظيمة.
داخل غرف صناعة القرار فى هذا الوقت كان للمجلس العسكرى وقتها موقف لا يقل عن موقف الضباط داخل ميدان التحرير، ورغم أخطاء المجلس العسكرى السابق طوال المرحلة الانتقالية التى انتهت بوصول الإخوان لسدة الحكم إلا أننا يجب أن نذكر دورهم فى إدارة المشهد حتى تنحى مبارك.
كان لهم دور كبير فى الضغط على مبارك للاستجابة إلى مطالب المعتصمين.
وكان أول مشهد يوحى بذلك هو نزول المشير طنطاوى يوم 29 يناير إلى محيط ماسبيرو وكان هذا بمثابة الإعلان عن الانحياز لإرادة الشعب، وظلت المفاوضات مستمرة بينهم وبين مبارك حتى أصدروا بيانهم الأول فى 10 فبراير 2011 وقبل التنحى بساعات يعلن خلاله انعقاده بشكل مستمر لبحث الأزمة والخروج منها، هذا الانعقاد الذى خلا منه حضور مبارك القائد الأعلى للقوات المسلحة وقتها، وكان هذا كافيا لإعلان موقف القوات المسلحة مما دفع مبارك للتنحى فى اليوم التالى مكلفا المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد.
بدأت أخطاء المجلس العسكرى فى إدارة المشهد السياسى فى المرحلة الانتقالية بعد ذلك، ولسنا بصدد ذكر هذه الأخطاء التى مكنت الإخوان فيما بعد من الوصول للسلطة وساهمت فى إشعال الأوضاع عدة مرات أثناء المرحلة الانتقالية، ورغم أن الكثير من هذه الأخطاء كانت غير مقصودة وكان سببها الصورة الخادعة التى صورتها جماعة الإخوان عن نفسها أمام المجلس العسكرى والرأى العام الداخلى والخارجى، إلا أن السماح بسفر عدد من الأجانب الذين كانوا على ذمة قضايا خطيرة تتعلق بالأمن القومى للبلاد بسبب عملهم فى بعض منظمات المجتمع المدنى التى تتلقى تمويلات مشبوهة من الخارج تعود المسئولية المباشرة فى هذا الأمر للمجلس العسكرى السابق بقيادة المشير طنطاوى والفريق سامى عنان.
هذا الموقف للأسف عكس عدم قدرة المجلس السابق على الصمود أمام الإدارة الأمريكية بواشنطن ورغم أن هذا التوقيت كان لا يسمح على الإطلاق بفتح جبهة صراع خارجية فى ظل الأوضاع داخل البلاد مما يعطى للمجلس السابق بعض المبررات المنطقية إلا أن ما فعله المجلس العسكرى الحالى بقيادة الفريق أول عبدالفتاح السيسى من مواجهة صلبة وقوية لمخططات الإدارة الأمريكية وعدم رضوخه لهذه الإدارة الخبيثة وانحيازه الكامل لإرادة الشعب جعلت الجميع يضع المجلسين فى مقارنة حتمية ومنطقية حسمت نتائجها بالتأكيد لصالح السيسى على حساب طنطاوى وعنان، فلو كان المجلس العسكرى السابق لديه القدرة على اتخاذ نفس مواقف المجلس الحالى إبان ثورة 25 يناير لكنا استطعنا اختزال كل ما حدث فى الثلاث سنوات الأخيرة فى عام واحد واستطعنا توفير العديد من الاشتباكات والصراعات والأرواح التى زهقت خلال هذه الفترة.
ولا ينحصر الدور التاريخى للفريق السيسى فى موقفه من ثورة 30 يونيو فقط فلا أحد ينسى أنه كان ضمن تشكيل المجلس العسكرى السابق الذى لعب دورا مهما فى دفع حسنى مبارك إلى الرحيل عن السلطة حيث كان يشغل وقتها منصب مدير المخابرات الحربية وأن السيسى هو من أعد تقرير موقف القوات المسلحة فى 2010 أى قبل الثورة بعام للتدخل فى حالة ما إذا تم تصعيد جمال مبارك للرئاسة هذا التقرير الذى يؤكد أن الجيش والشعب كانوا بالفعل يدا واحدة سواء قبل 25 يناير و30 يونيو وبعدهما ويؤكد أيضا أن القوات المسلحة لن تسمح مطلقا بعودة الوجوه الفاسدة للحياة السياسية مرة أخرى كما أكد السيسى منذ أسبوع سواء كانت هذه الوجوه تنتمى لنظام مبارك أو لنظام الإخوان وطوال الفترة من 25 يناير وحتى 30 يونيو لم تتعد القوات المسلحة على إرادة الشعب بل دعمتها وحمتها فأسقطت نظام الإخوان وبدأت فى تنفيذ خارطة الطريق وأوشكنا على الانتهاء منها حتى تستقر البلاد.