فى مشهد يدل على مدى قوة وسيطرة وتمكن شخصية الممثل التركى «خالد أرجنش» المعروف فى الدول العربية بالسلطان سليمان بطل مسلسل «حريم السلطان».. يقوم مجموعة من ممثلى المتظاهرين الأتراك فى ميدان تقسيم الذى شهد المظاهرات فى مايو الماضى، بترك المكان أمام ميكروفونات وعدسات الإعلاميين، عندما يظهر «خالد» تاركين له المكان كى يلقى البيان الذى يلخص التقاء ممثلى الميدان مع «أردوجان»، «خالد» هو القائد والزعيم بالفطرة.. وطبيعة شخصيته أقرب لشخصية السلطان التى التصق بها. المشهد يأتى عقب لقاء «خالد» ووفد من الفنانين والناشطين السياسيين الذين التقوا رئيس الوزراء التركى «رجب طيب أردوجان» لوضع مطالب المتظاهرين أمامه والمطالبة بتحقيق هذه المطالب، والتى تتلخص فى التراجع عن تدمير حديقة جيزى وترك الأمر للقضاء، وحتى لو حكم القضاء لصالح الحكومة، فالأمر لن يحسم إلا بعد استفتاء شعبى، ولم ينسى «خالد» الهدف الأهم وهو التحقيق مع رجال الشرطة المتورطين فى التعدى على المتظاهرين السلميين، وفى اليوم التالى للقاء مع «أردوجان» يخرج «خالد» من جديد إلى ميدان تقسيم ويشاركه الوفد الذى حضر هذا اللقاء، يصفقون للمعتصمين كتحية لصمودهم ويخبرونهم بالنتائج التى توصلوا إليها تاركين القرار للمتظاهرين بالعودة إلى بيوتهم أو الاستمرار فى التظاهر، وتنتهى الأزمة ولكن هل يتعلم «أردوجان» الدرس، ويتوقف عن محاولة السيطرة أو تغيير هوية بلاده أو محاولة إرضاء حزبه على حساب شعبه؟ يبدو أن الإجابة سوف تكون بالسلب. فمن جديد يعود «أردوجان» لمحاولة استبدال الطبيعة العلمانية لتركيا بأخرى إسلامية وذلك بإعلانه مؤخرا أنه سوف يقوم بفصل السكن الطلابى المختلط، احتراما للعادات والتقاليد، وهذا ربما يدفع إلى مواجهات جديدة مع أهالى تركيا المتمسكين بالعادات الأوروبية التى اعتادوا عليها.
أما أهم المجالات التى يحاربها «أردوجان» وحزبه وحكومته فهما الفن والثقافة واللذين يبدو أنهما العدو اللدود للمتطرفين، الذين يخافون من الإبداع أكثر من الحروب لأن المبدعين يظهرون دائما الوجوه الجاهلة والرجعية لهؤلاء المتطرفين.
فالفنانون والناشطون الذين مثلوا شريحة من متظاهرى تقسيم جعلوا «أردوجان» يرضخ لهم ولمطالبهم ويتراجع.. ويبدو أنه أدرك أنه لن يستطيع الصمود أمام الفنانين تحديدا، وإلا كان قد استطاع أن يغير من الشكل الذى تظهر عليه الأعمال وتبين الأسلوب العلمانى الذى يعيشه الأتراك، من طريقة ملابس السيدات أو انتشار زجاجات الخمر وقيام الأبطال بالشرب أحيانا فى بعض المشاهد بصورة تلقائية تعبر عن أسلوب الحياة الذى تحاكيه هذه الأعمال، بالإضافة إلى المشاهد العاطفية والعلاقات الجنسية التى يمارسها غير المتزوجين والتى تأتى بصورة طبيعية وتلقائية تحاكى شكل الحياة فى تركيا.
«خالد أرجنش» على سبيل المثال يعد واحدا من أهم الفنانين الذين انضموا لمتظاهرى تقسيم وقد تعرض هو وزوجته لأعمال العنف التى تعرض لها المتظاهرون.. «خالد» اشتهر بتقديم شخصية السلطان سليمان القانونى فى مسلسل «القرن العظيم أو حريم السلطان» والسلطان سليمان هو ابن السلطان «سليم الأول»، وقد حكم تركيا لمدة 46 عاما فى الفترة من 1520 وحتى ,1566 وقد شهدت سنوات حكمه أزهى عصور الدولة العثمانية.. ولكن المسلسل ترك التاريخ للمؤرخين واكتفى بالبحث فيما كان يحدث وراء أسوار القصور.. وما كانت تفعله حريم السلطان من مكائد ومؤامرات للفوز بقلب وعقل وعرش السلطان، وهى القصص الأكثر إثارة دراميا من الحكى عن المعارك والفتوحات والإنجازات السياسية.. المسلسل حقق نسبة مشاهدة مرتفعة فى أكثر من ستين دولة ونال العديد من الجوائز ويعد من أضخم الأعمال الدرامية تكلفة فقد تجاوزت ميزانيه الثلاثة ونصف مليون دولار، ولكن النجاح الذى حققه المسلسل جعله يحقق أرباحا أعلى من تكلفته بكثير، ومع ذلك فقد أثار هذا المسلسل غضب «أردوجان» الذى استند فى استيائه من هذا العمل إلى أنه لا يؤرخ ولا يقدم الأعمال العظيمة والتاريخ السياسى المشرف للسلطان سليمان، أو يوضح حتى تاريخ الدولة العثمانية، والتى يبدو أن «أردوجان» يحلم بعودتها مرة أخرى، واكتفى المسلسل بتقديم حكايات شخصية تبين فشل السلطان فى إدارة حياته الخاصة وكيف ملأت الدسائس قصره.
كان ظهور «خالد أرجنش» وسط المتظاهرين فى ميدان تقسيم، وهو فى مظهر السلطان سليمان ولكن بملابس عصرية، ومرة أخرى عندما ذهب «خالد» لمقابلة «أردوجان» فى مواجهة مباشرة معه ليجبره على التراجع عن قراراته، واحترام رغبة ومطالب المتظاهرين، اقترب اللقاء من التحدى بين من يجسد صورة لسلطان استطاع أن يسمو بدولته ويحقق لها مكانة عظيمة، وآخر يريد أن ينفذ متطلبات حزبه بإجبار شعبه بتغيير هويته وأسلوب حياته الذى التصق به واعتاد عليه منذ عقود.
ليس فقط «خالد أرجنش» الذى جسد صمود الفنان التركى لتعسف «أردوجان» بل معظم الفنانين الأتراك الذين حققوا شهرة واسعة فى تركيا والعالم العربى من خلال الأعمال الدرامية الناجحة التى ظهروا بها، لم يتخلوا أو يبخلوا بالوقوف مع الشعب التركى عندما خرج ليتظاهر ضد قرارات حكومة أردوجان، وبعد قليل ضد انتهاكات الشرطة فى محاولة تفريق المتظاهرين بالعنف. لقد أنهك الغاز المسيل للدموع النجمة «سونجول أودين» الشهيرة فى العالم العربى ب«نور» وخرجت «هزال كايا» المعروفة ب«فريحة»، أما النجم «كيفانش تاتليتوج» الشهير ب«مهند»، فكانت له مواقف قوية وصادقة سواء بالوقوف مع المتظاهرين فى الميدان أو بإعلان اعتراضه من خلال تغريداته على حسابه على موقع «تويتر»، والتى انتقد فيها الشرطة، كذلك ظهرت النجمة «بيرين سات» أو «فاطمة» وكذلك «توبا بيوكستون» أو «لميس» ضمن المتظاهرين.
وقد قام حوالى ثمانون فنانا تركيا فى التاسع والعشرين من يونيو الماضى بإصدار بيان احتل صفحة كاملة فى عدد من الصحف وحمل عنوان «أنت ضدنا» ينتقدون فيه سياسة «أردوجان» التعسفية ورغبته فى تطبيق مرجعية حزبه الدينية على الدولة التركية، وأساليبه فى إحداث انقسام داخل الدولة، وخطاب الاستقطاب الذى يتبناه هو وحكومته وحزبه والتى أخذت فى التزايد بعد مرور عشر سنوات على توليه منصب رئيس الوزراء خاصة بعد أن وصف «أردوجان» شباب المتظاهرين بالسذاجة وبأنهم متلاعب بعقولهم من قبل إرهابيين، الفنانون الثمانون تصدرهم الكاتب التركى «أورهان باموك» الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 2006 وأيضا الممثل والمخرج المسرحى «محمد على الابورا» الذى اتهمه «أردوجان» بالتحريض على أحداث الاضطرابات، وقامت صحيفة «ينى شفق» الموالية للحكومة بوصفه بأنه القيادى البارز فى مؤامرة لإسقاط الحكم، وأنه قد حصل على تمويل من إحدى الجهات البريطانية غير المعلومة لتحقيق ذلك، ومن الفنانين الموقعين على هذا البيان أيضا عازف البيانو الشهير «فيزيل ساى» الذى كتب خطابا للمستشارة الألمانية «أنجيلا ميريكل» يطالبها بالتراجع عن موقفها من الوقوف ضد تركيا فى فرصة الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبى، وقال إن تركيا يجب أن تكون ضمن دول الاتحاد الأوروبى، بينما قام المخرج التركى الشهير «فاتح أكين» والمقيم فى ألمانيا بكتابة خطاب إلى الرئيس التركى «عبد الله جول» يطالبه بوقف العنف ضد المتظاهرين.
وفى واقعة أخرى أظهر «أردوجان» وحكومته وحزبه كراهيتهم وعداءهم للفنانين، وذلك من خلال محاولتهم لتحويل واحدة من أهم دور العرض السينمائى وهى «إيميك» إلى مركز تجارى.. قاعة العرض السينمائى «إيميك» تعد من أهم الأثار التاريخية فى أسطنبول وهى على بعد خطوات من ميدان تقسيم.. وقد كانت مركزا للخلافة فى زمن الدولة العثمانية.. ومنذ سنوات طويلة وهذه القاعة التى تستوعب 850 مقعدًا، يقام عليها جميع الاحتفاليات السينمائية وأهمها مهرجان أسطنبول السينمائى الدولى حتى أصبحت قاعة «إيميك» واحدة من أهم ملامح أسطنبول والتى لا يريد أهلها وفنانوها محوها.
«أردوجان» وحكومته وحزبه لا يحاولون فقط انتزاع اشجار تعود إلى عشرات السنين ليمحوا البقعة الخضراء المتبقية فى أسطنبول فقط، بل تحاول يده أن تمتد إلى شتى انواع الفنون سواء بالتقليل من شأنها كما فعل مع «حريم السلطان»، أو محاولة هدمها وإحلال مكانها مركز تجارى للمتاجر ومطاعم الوجبات السريعة كما هو الحال مع مسرح «ايميك»، بل وصل الأمر إلى محاولته منع تمويل الدولة للمسارح، وعدم منح أية مسرحية تمويلا إلا بعد مشاهدتها من قبل لجنة يمثلها بعض الضباط، من أجل فرض رقابة تتوافق مع أفكار «أردوجان» وحزبه على المسرح وهذا ما لا يقبله فنانو تركيا، ولن يخضعوا له، وفقا لتصريحاتهم المتوالية ضد سياسة «أردوجان» وحكومته وحزبه.