ومازلنا نروى القصة، قصة قوم تذوقوا طعم الخداع والزيف فاستطعموه وعاشوا عليه، فتطوروا وانجذبوا للعنف وانجذب إليهم حتى أصبح يعبر عنهم ويعبرون به عن أنفسهم. قوم الإخوان الذين بدأوا طريق الاندثار وستقرأ عنهم الأجيال القادمة كما قرأنا نحنُ عن قوم عاد وثمود.. نغوص فى التاريخ الأسود للجماعة مرة أخرى، لعلها تكون الأخيرة لنطوى بها آخر صفحة فى تاريخ أشهر جماعة احترفت الإرهاب السياسى والاجتماعى فى تاريخ مصر وربما تكون هى الأطول عمرًا فى تاريخ الجماعات الإرهابية فى العالم.
لسنا فى حاجة إلى الكتابة عن تاريخ الإخوان مرة أخرى، لكننا أردنا أن نختتم الحديث بأقلام مجموعة من أبرز الكتاب الذين جاءوا فى تاريخ مصر الحديث أمثال طه حسين، محمد التابعى، على أمين، كامل الشناوى، جلال الدين الحمامصى، عباس العقاد.. وقد كتب هؤلاء عن عنف الجماعة بعد حادث إطلاق النار على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فى المنشية، وذلك فى محاولة لكشف حقيقة الإخوان آنذاك، وها نحن نعيد نشر مقالاتهم التى مازالت تحمل بريقها منذ عام .1954 حيث نقرأ لطه حسين مقالاً بعنوان «رُخص الحياة» وهو يعتبر تمهيدًا عميقًا للدخول إلى عمق القضية وهى «العنف الاجتماعى» الذى لم يكن المصريون يعرفونه فى تاريخهم الحديث، حسبما أكد عميد الأدب العربى فى مقالته حين قال «لم تهن حياة الناس على الناس كما تهون عليهم فى هذه الأيام.. فما هذه الأسلحة وما هذه الذخيرة التى تدخر فى بيوت الأحياء وفى قبور الموتى؟ ما هذا المكر الذى يمكن، وما هذه الخطط التى تدبر، وما هذا الكيد الذى يكاد؟ لِمَ كل هذا الشر، ولِمَ كل هذا النكر، ولِمَ رخصت حياة المصريين على المصريين؟ يقال إن حياة المصريين إنما رخصت على المصريين بأمر الإسلام الذى لم يحرّم شيئًا كما حرم القتل، ولم يأمر بشىء كما أمر بالتعاون على البر والتقوى، ولم ينهِ عن شىء كما نهى عن التعاون على الإثم والعدوان...». وفى مقال آخر لطه حسين بعنوان «فتنة»، يكتب وكأنه يحاول وصف أحداث اليوم خاصة عندما قال «كان أيسر هذه الأعقاب الحرب الداخلية بين المواطنين، كان أيسر هذه الأعقاب أن يثأر الكرام من المصريين لفتى مصر، وأن يصبح بأس المصريين شديدًا، وأن يسفك بعضهم دماء بعض، وأن ينتهك بعضهم حرمات بعض، وأن يعلق النظام والقانون والأمن فترة لم يكن أحد يدرى أكانت جديرة أن تقصر أم كانت جديرة أن تطول، وأن يضيع هذا الاستقلال الذى ذاقت مصر فى سبيله مرارة الجهاد الشاق الثقيل الطويل، وأن يفرض الأجنبى النظام على الوطن فرضًا، وأن ترجع مصر أدراجها وتعود كما كانت منذ حين وطنًا ذليلًا يدبر أمره غير أبنائه من الأجانب، لأنه لم يحتمل الاستقلال والحرية أيامًا معدودات، ولأن بعض أبنائه ساق الموت إلى من ساق الحياة.. أهذا هو الذى كان يريده أولئك المجرمون أم هم لم يريدوا شيئاً، ولم يفكروا فى شىء، وإنما أهمتهم أنفسهم وملكتهم شهواتهم ودفعتهم شياطينهم إلى الشر فى غير تدبير ولا تقدير...». أما محمد التابعى، فله مجموعة مقالات جميعها تندد بجرم الجماعة، ومن أبرز هذه الكتابات «الضحايا... والمساكين!» ويحكى فيها عن مشهد وقوف المتهم باغتيال جمال عبد الناصر محمود عبداللطيف داخل قاعة المحكمة، فى حضور زعماء جماعة الإخوان آنذاك، حيث يصف التابعى أخلاق هؤلاء الزعماء حين قال «توالت الصدمات الفاجعات فى جلسات محكمة الشعب ولكن أكبر صدمة كانت تلك التى أصابت محمود عبد اللطيف حينما رأى مثله العليا تتهاوى أمام عينيه.. زعماء قادة الإخوان الذين طاعتهم من طاعة الله كما علّموه ولقّنوه.. رآهم يتخاذلون ويجبنون ويكذبون.. وكل منهم يحاول أن ينجو بجلده ويرمى التهمة على صاحبه وأخيه...» وفى مقال آخر بعنوان «نعم... حدث انقلاب» يفضح التابعى الجماعة التى حاولت أن تنقلب على الحكم وتسرق السلطة بمحاول اغتيال الرئيس، وافتتح مقاله قائلاً: «أرادت عصابة الإخوان أن تقوم بعمل انقلاب فى هذا البلد... وقد وقع فعلا انقلاب... ولكنه ليس الانقلاب الذى كانت تريده عصابة الإرهاب... انقلاب فى الرأى العام، هذا هو الانقلاب الذى حدث والذى كان أبعد ما يكون عن خاطر الإخوان وتدبيرهم».. ويقصد التابعى هنا أن الانقلاب حدث ضد الجماعة نفسها، والتى كشفت نفسها بنفسها وعرف المصريون نواياها، وذلك حين قال التابعى: «وعرف الشعب أن جماعة الإخوان التى قامت دعوتها ودعايتها على أنها تريد حماية دين الإسلام من أعدائهì قد تحالفت مع الشيوعية.. بل تحالفت مع الصهيونية وزودت حكومة إسرائيل بالمعلومات الكاذبة والمعلومات الظالمة تضارب بها حكومة مصر... وعرف الشعب فوق هذا وذاك إن زعماء الجماعة قوم جبناء منافقون كاذبون...» وفى مقال آخر للتابعى وصف الإخوان بجماعة «الحشاشين»، ويحكى فى مقال عن أحد المقالات التى كان قد قرأها لأحد الأدباء المعروفين آنذاك، وعُرفت جماعة الحشاشين بأنها جماعة دينية كانت تتوسّل الاغتيال طريقة لتحقيق أهدافها، حيث كانت تستعين بالحشيش لتخدير أعضائها المكلفين بالقتل لجعلهم آلات صمّاء لا إرادة لها، ومن هنا أطلق التاريخ على الجماعة اسم «الحشاشين».. ويستكمل التابعى سرده للمقال قائلاً: «ومن عجب إن الذين توالوا على رئاسة أو زعامة هذه الجماعة كان كل منهم اسمه حسن!.. وجماعة الإخوان تستعين بالاغتيال على تحقيق مآربها السياسية، وكانت الجماعة الأولى- جماعة الحشاشين- تخدر أعصاب أعضائها بالحشيش.. أما الجماعة الأخرى- الإخوان- فكانت تخدرهم بالدين وتبشرهم بدخول الجنة من غير حساب!...». ماذا كان يحدث لو تولى الإخوان الحكم؟ سؤال للكاتب الراحل على أمين فى بداية مقاله «لو لم تهتز يد محمود عبد اللطيف» وهو مقال ملىء بالتساؤلات التى تصلح للطرح فى أى زمان، حيث توقع على أمين أن يسيطر الإخوان على جميع مؤسسات الدولة إذا نجحوا فى الوصول للحكم، ويكتب أمين السيناريو المتوقع عن وصول الجماعة للحكم بقيادة مرشدها آنذاك: «سيملأ الهضيبى 12 وزارة خالية باثنى عشر عضوا من مكتب الإرشاد... وسيغضب مائة عضو لم يجد لهم وزارات!...». ويستطرد أمين واصفا حال مصر فى عهد الإخوان، حيث إغلاق البنوك وكل الشركات الأجنبية لأنها لايمكن أن تتعامل من قوانين عمرها أكثر من ألف عام، وستمتلئ الشوارع بالعاطلين والبطالة ولن توجد سياحة ولا نساء بعد إلزامهن البيوت، وسوف تلغى تعليم اللغات الأجنبية، ويضيف: سوف تغلق محلات الحلاقين وسوف تغلق عيادات أطباء العيون وعيادات الأنف والأذن والحنجرة، لأن السعداء فى عهد الإخوان المسلمين هم الذين لايبصرون ولايسمعون! وفى مقال للشاعر والكاتب الصحفى كامل الشناوى عن إرهاب وأسلحة الجماعة، يسأل فيه: «لمن هذه الاستعدادات؟ إن كانت للعدو فلماذا هى سرية؟ أنها لنا نحن... لحريتنا لأفكارنا لآرائنا، لعقائدنا... إنها تهديد للحاكم والمحكوم معا» ويقول أيضا: «إن هذا الإرهاب هو حكم على مصر بالشلل والتأخر والفزع... إن الإسلام الذى يدعو إلى المحبة والسلام برىء من أسلحة المقت والاغتيال». وبقلم حزين على مصر كتب جلال الدين الحمامصى مقالا بعنوان «الشعب الذى يقول لا» متأثرا بقراءته لاعترافات أعضاء الجهاز السرى للإخوان بعد حادثة المنشية، ويعبر عن قلقه على مستقبل مصر وخشيته من تحول الاستقرار إلى فوضى وخراب على أيدى هؤلاء الإرهابيين الذين يسعون فقط للحكم، حيث اعترف المجرمون بأنهم كانوا ضحية لعملية خداع وتخدير سياسى.. وقال أيضًا إنه من الخطأ القول إن الثورة قد قضت تمامًا على العقلية القديمة التى كانت تركع بآرائها للزعامات والقيادات، فما زال الانصياع الأعمى قائما ومازالت هناك زعامات تسعى إلى إذلال الناس وجبرهم على الإذعان لآرائهم الخاطئة المضللة .. أننا نريد شعبا يقول «لا» يقولها فى كل وقت. أما أكثر المقالات إثارة فهو لصاحب العبقريات عباس العقاد، والذى كتب عن أصول ونشأة مُنشىء جماعة الإخوان، حيث أسرد معلومات خطيرة وعجيبة تطرح تساؤلات عديدة.. المقال طويل وملىء بالمعلومات: «الفتنة التى ابتليت بها مصر على يد العصابة التى كانت تسمى نفسها بالإخوان المسلمين هى أقرب الفتن فى نظامها إلى دعوات الإسرائيليين والمجوس، وهذه المشابهة فى التنظيم هى التى توحى إلى الذهن أن يسئل لمصلحة من تثار الفتن فى مصر وهى تحارب الصهيونيين؟!، السؤال والجواب كلاهما موضع نظر صحيح، ويزداد تأملنا فى موضع النظر هذا عندما نرجع إلى الرجل الذى أنشأ تلك الجماعة فنسأل من هو جده؟، إن أحدا فى مصر لا يعرف من هو جده؟ على التحديد، وكل ما يقال عنه إنه من المغرب وأن والده كان «ساعاتى» والمعروف أن اليهود فى المغرب كثيرون، وأن صناعة الساعات من صناعاتهم المألوفة، وأننا هنا فى مصر لا نكاد نعرف «ساعاتى» كان يعمل بهذه الصناعة قبل جيل واحد من غير اليهود، ويضيف العقاد: ونظرة إلى ملامح الرجل تعيد النظر طويلا فى هذا الموضوع، ونظرة إلى أعماله وأعمال جماعته تغنى عن النظر إلى ملامحه وتدعو إلى العجب من الاتفاق فى هذه الخطة بين الحركات الإسرائيلية الهدامة وأعمال هذه الجماعة، ويكفى من ذلك كله أن نسجل حقائق لاشك فيها وهى أننا أمام رجل مجهول الأصل مهيب النشأة، يثير الفتنة فى بلد إسلامى والبلد مشغول بحرب الصهيونيين ويجد الرجل فى حركته على النهج الذى اتبعه دخلاء اليهود والمجوس لهدم الدولة الإسلامية من داخلها بظاهرة من ظواهر الدين، وليس مما يحجب الشبهة قليلا أو كثيرًا أن هناك من أعضاء جماعته يحاربون فى ميدان فلسطين، فليس من المفروض أن الاتباع جميعا يطلعون على حقائق النيات، ويكفى لمقابلة تلك الشبهة أن نذكر أن مشاركة أولئك فى الطلائع الفلسطينية يفيد فى كسب الثقة، وفى الحصول على السلاح والتدرب على استخدامه وفى أمور أخرى قد تؤجل إلى يوم الوقت المعلوم هنا أو هناك، فأغلب الظن أننا أمام فتنة إسرائيلية فى نهجها وأسلوبها، إن لم تكن فتنة إسرائيلية أصيلة فى صميم بنيتها، ويضيف العقاد قائلا: أمة مصرية مشغولة بفتنة هنا وجريمة هناك وحريق يشعل فى هذه المدرسة ومؤامرات فى الخفاء وتقوم هذه العناصر المفسدة بالتحريض والتهييج وتزودها بالذخيرة والسلاح، أهذه هى محاربة الصهيونية والغيرة على الإسلام، إن يهود الأرض لو جمعوا جموعهم ورصدوا أموالهم وأحكموا تدبيرهم لينصروا قضيتهم، فى تدبير أنفع لهم من هذا التدبير لما استطاعوا، وإلا فكيف يكون التدبير الذى ينفع الصهيونية فى مصر فى هذا الموقف الحرج؟، إن العقول إذا ران عليها الغباء كانت كتلك العقول التى وصفها القرآن لأصحاب الهاوية الذين لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لايسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون هؤلاء الغافلون يمكن أن يقال لهم إنها هى الفرصة السانحة للانقلاب أولئك هم الغافلون، فرصة لمن؟، فرصة للصهيونية نعم، أما فرصة لمصر، فمتى وقع فى التاريخ انقلاب ودفاع فى وقت واحد، ما استطاع أناس أن يوطدوا انقلابا ويهيئوا أسباب الدفاع فى أسبوع واحد أو شهر واحد أو سنة واحدة، أبت الرءوس الآدمية أن تنفتح لمثل هذه الضلالة لو كان الأمر أمر عبث ومجون وإنما هى مطالع خبيثة تتطلع وغرور صبيانى يهاجم وشر كمين فى الخفاء يستثار».