«نحن نفهم في السياسة ولكن لا نمارسها.. وعدنا للثكنات ونركز في العمل الاحترافي» شعارات يصمم عليها الجيش وقادته في الفترة الأخيرة.. خاصة بعد المظاهرات العارمة التي شهدها معظم المحافظات، بعدما حاول بعض الدعاوي الداخلية وكذلك محاولات خارجية توريطه في العمل السياسي مرة أخري.. بعد أن تركه بنهاية الحكم العسكري وجلوس مرسي علي كرسي الحكم، إلا أن الجيش أدار ويدير اللعبة بذكاء كبير، حيث تؤكد قياداته دوما أن ولاءها سيظل للشعب وتعمل وفقا لإرادته، وهو ما أرادت به المؤسسة العسكرية أن تصل برسالة إلي الجالسين في القصر الرئاسي أو المنتمين للحرية والعدالة والإخوان مفادها أنه لن يقف مع رغباتهم ضد رغبة الشعب.
طوال الأيام الأخيرة بدأت تتكشف حقيقة الخلاف السري بين الإخوان والجيش.. خاصة بعدما انتشرت التقارير الأمريكية حول رفض الجيش أوامر مرسي بإطلاق الرصاص الحي علي أهل القناة، وظهر النفي الضروري في هذه الأجواء من الجيش الذي يؤكد مدي وطنيته وكياسته السياسية، إلا أن هذا يؤكد أكثر مما ينفي هذا الخلاف! مسألة توريط الجيش في صدام مع الشعب لها أكثر من بُعد.. بدأت منذ الأيام الأولي لتولي مرسي الرئاسة، حيث خرج الإخوان في وسائل الإعلام المختلفة ليلقوا باللوم علي استمرار وجود قيادات المجلس العسكري وعلي رأسهم المشير حسين طنطاوي في مناصبهم.. وأنهم هم السبب في تأخر خطة الرئيس عن تنفيذ «مشروع النهضة» وأنهم يجب أن يرحلوا نهائيا. ولم ينتظر مرسي كثيرا علي تحقيق مطالب «إخوانه» حتي جاءته الفرصة «علي طبق من ذهب».. وهي الفرصة التي أراد أن يستغلها ليضرب الحكم العسكري في فترة ما بعد الثورة في مقتل، وذلك بعد قراره بالإطاحة بالمشير والفريق وإحالتهما للتقاعد عقب حادث رفح الذي راح ضحيته 16 جنديا في رمضان الماضي.. في محاولة من «مرسي» أن يظهر أمام شعبه أنه أحال للتقاعد من تسبب بشكل مباشر أو غير مباشر في هذه الحادثة. وبعد إحالة طنطاوي وعنان للتقاعد وتعيين الفريق أول عبدالفتاح السيسي وزيرا للدفاع.. ظن الإخوان ومؤسسة الرئاسة أن «الجيش أصبح في يدهم» وخرست ألسنة الإخوان عن الكلام عن المؤسسة العسكرية.. ولكن وبعد أيام قليلة من تولي القيادات الجديدة للجيش (في أغسطس الماضي) خرج السيسي ليؤكد أكثر من مرة أن تقاليد وعقائد القوات المسلحة ثابتة وأنها جزء من نسيج الشعب عملت وستعمل دوما لصالحه.. بل زاد في ذلك وأسكت المرشد العام للجماعة ودفعه للتراجع عن كلامه عندما خرج في إحدي رسائله الأسبوعية يتهم قيادات السابقة للجيش بالفساد ليكون رد السيسي السريع أنه وقيادات وأفراد المؤسسة العسكرية يحترمون القادة القدامي.. وأكد رئيس الأركان الفريق صدقي صبحي في مناسبة أخري أن المشير طنطاوي تحمل ما لا تتحمله الجبال أثناء إدارته للفترة الانتقالية. وبعد تأكيدات المؤسسة العسكرية أكثر من مرة أنها مع الشعب وإرادته ترسخ عند الإخوان أن مسألة «أخونة الجيش» أو تسييسه لصالح رئيسهم شيء مستحيل، بل هو ضرب من ضروب الخيال، ومع انخفاض شعبية مرسي بشكل ملحوظ وفشله في إدارة حوار وطني مع القوي المعارضة علي خلفية الإعلانات الدستورية التي خرج بها وإصراره علي إصدار دستور غير متوافق عليه من القوي السياسية.. خرجت القوات المسلحة بأكثر من بيان وتصريح (يتخذ الصبغة السياسية) ومنها ما جاء في بيانات للمتحدث العسكري.. لتؤكد أن الأوضاع التي تمر بها مصر ستؤدي بها إلي نتائج كارثية وأن الجيش لن يسمح بذلك وأعقبت ذلك دعوة الجيش لاستضافة حوار وطني تحت رعايته يحضره مرسي نفسه.. وهنا شعرت «الإخوان» ومؤسسة الرئاسة بخطر هذه الدعوة واكتساب الجيش لشعبية في حالة نجاح هذا الحوار.. فعملت علي إفشال هذا الحوار ومعها مؤسسة الرئاسة حتي ولو علي حساب تهدئة التوترات علي الساحة الداخلية، وهو ما تم بالفعل حيث خرجت القوات المسلحة فجأة لتعلن تأجيل الحوار لأجل غير مسمي وهو «الأجل» الذي لم يأت حتي الآن. وبسبب زيادة شعبية القوات المسلحة وارتفاع النبرات التي تطالب بعودة الجيش للشارع، بل الحكم مرة أخري في ظل قرارات مرسي التي زادت الأوضاع اشتعالا في الشارع، وفي مقدمتهم «البرادعي» نفسه.. لم يجد مرسي أي طوق نجاة له ولجماعته للمرور بالدستور إلي بر الأمان سوي بمشاركة القوات المسلحة في الإشراف علي تأمين عملية الاستفتاء علي الدستور وهي المرة الأولي التي تنزل فيها قوات الجيش للشارع بعد عودتها للثكنات.. وهنا أراد مرسي أن «يضع» الجيش في وجه المعارضين للدستور، حيث كان يتوقع مرسي والجماعة أن تشهد عملية الاستفتاء اشتباكات دموية.. ولكن وبدهاء كبير من القوات المسلحة أدارت عملية الاستفتاء علي الدستور بشكل حيادي وبدون انحياز لأي طرف من الأطرف.. ولولا ذلك لما كانت نسبة الموافقة أو رفض الدستور الجديد بهذا التقارب.. خاصة أن الإخوان أعلنوا أن عملية الموافقة علي الدستور سوف تتعدي ال90٪. وعاد الجيش مرة أخري للثكنات بعد الانتهاء من الاستفتاء علي الدستور.. إلي أن استدعته الظروف الطاحنة التي شهدتها محافظات القناة وبنفس المنطق أرادت الجماعة ومؤسسة الرئاسة التهرب من الأزمة من جهة وتوريط الجيش فيها من جهة أخري.. فقرر الرئيس أن تنزل القوات للشارع مرة أخري لفرض الأمن.. وهو الأمر الذي نفذه الجيش وبدلا من توريطه في أحداث دموية كما كان يعتقد أو يتمني الإخوان.. تمكن الجيش من السيطرة بالتنسيق مع أهل القناة دون نقطة دم واحدة منذ انتشاره في شوارع القناة، بل اكتسب شعبية فوق شعبيته خاصة في هذه المدن.. وهو ما جعل جماعة الإخوان «تعض علي أصابعها» من الغيظ.. فكل يوم تكسب القوات المسلحة شعبية أكثر وفي المقابل تخسر الجماعة تعاطف وتأييد الشارع. المشكلة أيضا أن عملية توريط الجيش في السياسة لم تعد مقصورة فقط علي الجبهة الداخلية، ولكن ظهرت خلال الأيام السابقة أن هناك محاولات خارجية لهذا التوريط ممن لهم المصلحة في هدم المؤسسة العسكرية خاصة أنها حافظت علي قوتها رغم ما مرت به مصر من أزمات منذ اندلاع ثورة 25 يناير. وظهر ذلك التوريط عندما حاولت وسائل إعلام أجنبية إظهار وجود خلاف بين الرئيس والمؤسسة العسكرية كنوع من الاستفزاز للمؤسسة العسكرية من جهة ومؤسسة الرئاسة من جهة أخري.. ظنا أن ذلك قد يخلق انشقاقا واضحا بينهما.. إلا أن المؤسسة العسكرية سارعت بنفي هذا الأمر والغريب أن مؤسسة الرئاسة لم تبادر بهذا الأمر، حيث قال العقيد أركان حرب أحمد محمد علي، المتحدث العسكري الرسمي للقوات المسلحة: إن ما ذكرته صحيفة «وورلد تريبيون» الأمريكية حول رفض قادة القوات المسلحة أوامر رئيس الجمهورية باستخدام الرصاص الحي ضد المتظاهرين، وكذلك طلبه انضمام وحدات من القوات المسلحة إلي قوات الأمن المركزي لقمع تظاهرات اندلعت في عدة محافظات،عارٍ تماما عن الصحة. المتوقع خلال الأيام المقبلة أن يستمر هذا الخلاف «السري» و«العلني» بين الجيش والإخوان، لكن من غير المتوقع أن يصل إلي الحسم في الفترة القليلة المقبلة!