من الواقع الدعوى إلى المستقبل «الضبابى» يرسم المفكر الكبير السيد ياسين المشهد السياسى الحالى بالورقة والقلم، إذ أدت حالة الاحتقان السياسى وتدهور الوضع الأمنى ووقوع عشرات القتلى بين صفوف القوى الشعبية إلى طرح أكبر علامات الاستفهام والتعجب، إلى أين سيؤدى بنا الصراع الدائر بين السلطة وبين القوى الثورية؟ وما الأسباب التى تداعت لها أركان الدولة؟ وكيف تدار الأزمة الحالية داخل مؤسسة الرئاسة؟ .. وإلى نص الحوار :
∎ بداية كيف ترى المشهد السياسى فى ظل حالة الاحتقان السياسى والأمنى الذى تشهده البلاد؟ - أعتقد أن المشكلة بدأت بعد 25 يناير.. ونجاح الثورة وانضمام ملايين المصريين لها، إذ لم تكن ثورة بالمعنى السياسى أو الاجتماعى فى البداية، ومن شاركوا فى أحداثها الأولى لم يتوقعوا كل هذا الدعم الشعبى.. فكان أن انضم إليهم جميع أطياف الشعب.. وتحولت الاحتجاجات إلى ثورة، والمشكلة أن الثوار بعد 18 يوما انفضوا عن ميدان التحرير وتركوا المشهد، فأصبح المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو السلطة الجديدة، والخطأ الاستراتيجى بدأ منذ تلك اللحظة، لأن الثوار تفرقوا إلى جماعات شتى، وتركوا الساحة حتى قفزت على قطار الثورة القوى السياسية التقليدية مثل جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين ثم الأحزاب التقليدية القديمة مثل حزب الوفد والتجمع.. فى حين لم يسع الثوار بشكل حقيقى نحو إقامة مجلس ثورى انتقالى يشاركون فيه مع باقى الكوادر السياسية والأحزاب السياسية التقليدية. وبالتالى دخلنا فى نفق مظلم تمثل أساسا فى الاستفتاء حول الدستور والانتخابات، ودفعت جماعة الإخوان المسلمين من خلال تزييف وعى الجماهير العريضة أن «نعم» تدخل الجنة، و«لا» تدخل النار، ووجدت المؤشرات الكمية التقليدية أن نسبة من قالوا نعم أكثر ممن قالوا لا، وبالتالى دخلنا فيما يسمى نفق الديمقراطية التمثيلية التقليدية. وجاءت الانتخابات التشريعية فى وضع لم تحقق فيه الأحزاب التقليدية علاقة قوية بالشارع المصرى، كما أن الثوار أيضا لم تكن لهم علاقة بالشارع. أما القوى الإسلامية فكانت بالطبع هى المرتبطة تماما به منذ زمن طويل عبر تقديم الخدمات الاجتماعية والتسلل إلى وعى الناس، مستغلة الفقر والأمية المنتشرين «40٪ أمية»، 20 مليون مصرى تحت خط الفقر. وهذا أدى إلى التشكيك فى نتائج المؤشرات الكمية للديمقراطية التقليدية، ولكى نفهم هذا الأمر أعطيكم المثال التالى: أنا أشكك فى دلالة المؤشر الكيفى للاستفتاء على الدستور.. فلو قمنا باستطلاع رأى عن عدد الذين قرأوا الدستور جيدا، سواء من قالوا نعم أو من قالوا لا، سنجدهم أقل من 1٪، لأنه حدث كلفتة للدستور وإسراع غريب وشديد.. ما أسميه أنا بالانحراف السياسى، الذى طال جميع الفصائل السياسى، ومعنى الانحراف السياسى فى رأيى أن فصيلا سياسيا معينا يخالف آراءه المعلنة مخالفة صارخة، فحزب الحرية والعدالة أعلن عن إدارة البلاد بأسلوب المشاركة لا المغالبة، ووافقت القوى السياسية، لكنه تراجع فورا ومارس المغالبة التى تعنى على أرض الواقع إقصاء جميع القوى السياسية والانفراد بالسلطة، والشروع فى أخونة الدولة وأسلمة المجتمع. ∎ وإلى أى مدى كانت تداعيات هذا الأمر؟ - مسلسل «الانحراف» أخذ فى التصاعد تدريجيا، وكان أوله: الإصرار العنيد فى الاستئثار بلجنة تشريع الدستور التى أبطلها القضاء الإدارى.. ثانيها تصميمهم فى التشكيل الثانى بوضع ممثلين لاتجاهاتهم مع بعض الأشخاص المستقلين، ثالثها عندما قدم الليبراليون اقتراحات بشأن بعض المواد تم رفضها جميعا، ثم انسحبوا من اللجنة، ومع ذلك أسرعت اللجنة التأسيسية وأخذت تلهث لتنهى الدستور فى ليلة واحدة ليتم تقديم مسودة الدستور إلى رئيس الجمهورية لإقرارها فى نفس اليوم حتى يتم الاستفتاء عليها. كل ذلك أشكال فجة من الانحراف السياسى.. هذه ليست ديمقراطية، هذه محاولة للسيطرة على السلطة باسم الديمقراطية، هذه ديمقراطية زائفة.. ولذلك يصرون على الاحتكام للصندوق.. وهذا غير مشروع.. لأن الديمقراطية تعتمد على شقين، هما الاحتكام للصندوق والحفاظ على قيمها، مثل مبدأ تداول السلطة والحوار السياسى الحلول الوسط، وللأسف السلطة الحاكمة أهدت قيم الديمقراطية وأصرت على الاستئثار بالسلطة بالكامل وعدم التفاهم والاعتماد على مؤشر زائف هو مؤشر الصندوق.. وبالتالى وصلنا لبدء الصدام.. ثم وصل مسلسل الانحراف السياسى إلى أبشع صوره فى الإعلان الدستورى الذى حصن فيه الرئيس قراراته فى الماضى والحاضر والمستقبل، وذلك غير مقبول ويضعنا أمام ديكتاتورية لا حدود لها. ثم حصّن اللجنة التأسيسية للدستور وحصّن مجلس الشورى وهو مجلس باطل وفقا للمعايير القانونية.. وأكثر من ذلك أعطى له صلاحيات تشريعية، أنا أعتقد أن هذا سبب غضب الشارع.. ولا أقول قوى ليبرالية أو يسارية، وإنما الشارع المصرى والرجل العادى، الذى شعر أن تلك الجماعة وصلت بمعايير ديمقراطية شكلية، وأدت فى النهاية إلى الاستئثار بالسلطة ومحاولة قمع الشعب. ∎ فى رأيك ما العناصر الفاعلة الآن.. خاصة بعد ظهور قوى مختلفة عن القوى الثورية المعروفة؟ - الصراع الآن بين جماعة الإخوان المسلمين وغالبية الشعب المصرى. ∎ لكن هناك بعض الفئات التى تروج إلى ضرورة ترك السلطة وشأنها حتى يتحقق الاستقرار؟ - أين هذا الاستقرار؟! المسيرة كلها مشوبة بالديكتاتورية وفرض الرأى ومنع الأغلبية من المشاركة فى العملية السياسية، هم أخذوا الأكثرية فى مجلس الشعب المنحل، وأخذوا الأكثرية فى مجلس الشورى، ورغم ذلك فى تحليلى أن هذه الجماعة تمثل أقلية بالنسبة للشعب المصرى، حتى لو فازوا بأكثر فهم أقلية بمواصفات قيم الديمقراطية، فمعظم المظاهرات الحالية تضم جميع أطياف الشعب.. وهى جميعا غير موافقة على هذا المشروع السياسى الذى يمثل الاستئثار بالسلطة على حساب باقى القوى السياسية.. وبالمناسبة فالشارع السياسى لا تقوده جبهة الإنقاذ.. الشارع الآن يقود نفسه. ∎ ماذا يعنى ذلك؟ - يعنى أن الناس كلها غاضبة. ∎ لكن دخلت نماذج تفرض نفسها على الشارع الآن.. ألا ترى أنها بهذا تزيد الموقف ضبابية؟ - هذا بسبب أخطاء الائتلافات الثورية منذ البداية، لأن استمرار المليونيات حتى تحت شعار «سلمية - سلمية» هذه الحشود التى لا يستطيع الأمن الاقتراب منها إلا عند مهاجمة المنشآت، هذه الائتلافات لم تستطع منع بعض النماذج التى تريدها دموية وليست سلمية، بدليل أن هناك فريقا يمارس العنف فى هذه المظاهرات، فمن ذهب للعباسية لاقتحام قيادة القوات المسلحة؟.. ومن ذهب إلى ماسبيرو؟ المفروض أن إرادة الثورة تتجلى فى ميدان التحرير.. وتلك الأحداث كانت البذرة فى محاولة اقتحام المبانى الحكومية وأقسام الشرطة. وأنا لا أدعى أن كل هؤلاء المهاجمين بلطجية، هناك عناصر ثورية تؤمن بالعنف ولا تؤمن بالمسيرة السلمية. ∎ ما مسئولية القوى الثورية فى دخول بعض العناصر التى تمارس العنف؟ - سبق أن أشرت إلى أنه لا يمكن التحكم فى الحشود الكبيرة.. ولابد أن يمارس البعض خلالها العنف.. المسألة تحولت إلى الألغاز المغلقة لتخرج مسميات الطرف الثالث أو اللهو الخفى.. هذا عبث، فهناك جبن أخلاقى من الائتلافات الثورية فى عدم إدانة العنف الواقع منذ بداية الأحداث العنيفة مثل أحداث محمد محمود أو العباسية أو ماسبيرو.. لأن حدوث محاولات اقتحام أى منشأة سيادية لابد أن يقابل بالمقاومة.. وأؤكد أن بعض النشطاء السياسيين كان لديهم جبن أخلاقى، لأنهم لم يدينوا هذا الاتجاه التخريبى والفوضوى منذ بداية استخدام العنف، فهم بذلك انتصروا لاتجاه العنف وفضوا شعار سلمية. ∎ هل هناك دور للمال السياسى أو القوى الخارجية؟ - لا أستطيع الإجابة عن ذلك فى غياب المعلومات، أنا رجل قانون ولابد من أدلة أو وقائع، فأنا ضد من قال إن التدخل الأجنبى وراء ثورة 25 يناير، لأنها ثورة وطنية خالصة والادعاء بوجود أياد خارجية وراءها عبث، أنا أراقب التاريخ الاجتماعى لمصر وما حدث من احتقان شديد بعد التزوير الفج فى انتخابات مجلس الشعب ,.2010 إذ كانت هذه هى بداية نهاية النظام. وقبلها حركة كفاية خرجت لتقول «يسقط يسقط حسنى مبارك»، المعارضة والانشقاق كان من الداخل وكانت ثورة مصرية خالصة، والتاريخ يدلل على ذلك.. لأن الفساد المعمم وصل إلى ذروته علاوة على مشروع التوريث.. كل ذلك فجر الغضب المكتوم لدى الشباب لينضم إليهم جموع الشعب المصرى. ∎ لكن من المعروف أن هناك تخطيطا خارجيا لتقسيم الدول العربية ومنها مصر؟ - لا أعرف أن هناك تخطيطا حديثا، لكن معروف أن إسرائيل منذ خمسين عاما وضعت مشاريع لتفكيك وتقسيم الدول العربية، ولا يعنى ذلك أن الولاياتالمتحدةالأمريكية موافقة على مشروع إسرائيل، لكن هناك محاولات للعب على مشكلات الأقليات مثل الأقباط وأهل النوبة منذ زمن، ولا أستطيع أن أجزم بطرح مسألة التقسيم، لكن الأخطر من أى محاولات أجنبية أنه بعد ثورة 25 يناير حدثت محاولات سياسية وسلوك سياسى منحرف من شأنه تفكيك الدولة. ∎ كيف؟ - أولا: العدوان على الشرطة ومهما يوجد فساد أو تجاوز لدى الشرطة، فلا يمكن تعميم ذلك على الأمن المصرى كله، ذلك أدى إلى فجوة خطيرة بين الشعب والشرطة، ومحاولة أخرى لهدم القوات المسلحة مثل شعار «يسقط حكم العسكر» أو «العسكر كاذبون»، وأيضا مهاجمة مؤسسة القضاء بحجة تطهيره. كل ذلك يؤدى إلى تفكيك الدولة، لأن الشرطة والجيش والقضاء هم السياج الحامى للوطن وانهياره يعنى انهيار الدولة. والأكثر من ذلك سلوك جماعة الإخوان التى تسعى لأخونة الدولة وأسلمة المجتمع.. إذ يريدون تصفية الداخلية ليضعوا رجالهم بها.. القضاء تدخلوا فيه بإقالة النائب العام وتقليص سلطات المحكمة الدستورية العليا وتقليص أعضائها، لكن القوات المسلحة قلعة منيعة لأى محاولات لأخونتها، إذن كان فيه محاولات من جماعة الإخوان المسلمين لأخونة الدولة، مما يؤدى إلى هدمها بالمعنى الديمقراطى للكلمة.. لأن مؤسسات الدولة لا ينبغى أن تكون منحازة لأي سلطة حاكمة أو حزبية، وهذا موجود فى كل الدول الديمقراطية. وهناك أيضا خطأ مزدوج، لأن الائتلافات الثورية لم تلتفت إلى أن الهجوم على الشرطة والعسكر والقضاء فيه هدم للدولة. إذن هناك خطأ متعمد من الإخوان المسلمين وخطأ ربما غير مقصود من القوى الثورية. ∎ هناك تخوف شديد من نزول القوى الإسلامية من الإخوان والسلفيين لمواجهة المعارضة الموجودة من الشارع.. ما تأثير ذلك على المشهد؟ - ستكون معركة دموية ونتائجها خطيرة علي الدولة. ∎ هل يمكن أن تكون مبادرة الأزهر محاولة حقيقية لحل الأزمة ثم ماذا؟ - إذا تخلص كل طرف من انحرافه السياسى وأظن أن هذا هو سياق مبادرة الأزهر.. لكن آن الأوان لجماعة الإخوان أن تعلن جيدا أنه لا يمكن أن تحكم منفردة رغم أنف الشعب.. لأن الشعب المصرى لن يُحكم بالعافية مرة أخرى، ولن يقبل أى نظام ديكتاتورى.. فهو يريد تطبيق أهداف الثورة وممارسة الحكم الديمقراطى الحقيقى، ووجود نوع من ائتلاف القوى السياسية.. لذلك فإن الدعوة لتكوين حكومة إنقاذ وطنى ائتلافية هى دعوة شرعية، لا ينبغى لأحد حتى لو أخذ الأكثرية فى الصندوق «المزعوم» أن ينفرد بحكم مصر.. هذا لن يحدث. وأنا أتعجب من السلطة الحاكمة لأنها تعيش حاليا فى غيبوبة سياسية، فقد قرأت اليوم فى إحدى الجرائد القومية أن حزب الحرية والعدالة سوف يدعو لمؤتمر صحفى يتحدث خلاله الدكتور عمر دراج عن إنجازاتهم منذ قيام الثورة، هذه غيبوبة سياسية، أى احتفالات وأى إنجازات فعلها حزب الحرية والعدالة؟! هؤلاء ساعدوا على تغريب المشهد السياسى بإصرارهم على الانفراد باتخاذ القرار وفرض الدستور بالقوة والانتخابات بالقوة. ∎ ما المطلوب الآن من السلطة أمام المشهد الحالى؟ - لابد للحزب الحاكم إذا أراد الاستمرار أن يقبل التوافق السياسى مع جميع القوى السياسية وإلا سيسقط بالمعنى التاريخى للكلمة حتى لو أكمل مدته القانونية «الثلاث سنوات المقبلة» لأن ما حدث هو إعلان جهير بفشل الإخوان المسلمين على المستوى السياسى والإدارى والحكومى. ∎ لو حدث هذا السقوط لجماعة الإخوان المسلمين هل سيستمر الصراع بين القوى الإسلامية وبقية القوى الأخرى؟ - سيشتد الصراع.. وسيظل فى مصر لسنوات طويلة، لكن لا ينبغى أن نخشى الصراع إذا أدير بطريقة ديمقراطية، لأن كل الدول بها صراعات سياسية.. والضابط هنا هو عدم اللجوء للعنف والقبول بمبدأ الحلول الوسط والاستجابة لمطالب الشعب.. الحكم الآن لن يفرض نفسه قسرا.. من يحكم الآن لابد أن يلتفت إلى مسألة قيم الديمقراطية والحلول الوسط والاعتراف بالآخر وعدم الإقصاء.. يعنى نروح نجيب كل محافظ من الإخوان.. هذا لن يجدى.. لابد من وجود الحكمة السياسية.. ده حزب النور أكثر عقلانية من الإخوان المسلمين أو حزب الحرية والعدالة فى مبادرته مع جبهة الإنقاذ.. وذلك يعنى أن لديه مرونة سياسية وتفهما بصرف النظر عن توجهاته الدينية وهذا موضوع آخر، وأنا أقيمهم كطرف سياسى.. هذا يعنى ضرورة الحوار السياسى وهى قيمة أساسية من قيم الديمقراطية.