لم تتوقف الأوسكار عن مفاجأتنا دائماً في انحيازها أحياناً لأفلام لا تستحق وإبعاد ما هو أحق واللعب بأسلحة التوازنات المشبوهة، أو يتم إعطاء جوائز بشكل سياسي - مثلما حدث في الحفل الذي تلي أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث تم إعطاء الجوائز لممثلين كلهم من السود ك «هالي بيري» - للتأكيد علي وحدة المجتمع الأمريكي فتم منح الأسود «دينزل واشنطون» جائزة أحسن مممثل وتم منح الأسود «سيدنى بواتييه» جائزة شرفية، فالأوسكار تنحاز أحياناً، وتدفع الثمن بعد ذلك، من خلال ألسنة النقاد التي تري في انحيازها إنصافاً غير مفهوم لبعض الأفلام، أو ظلماً لأفلام أخري كانت الأجدر بالترشح والفوز. من فيلم حياه باى
أوسكار هذا العام لم يختلف كثيراً، فنجد ترشيح فيلم متوسط مثل «البلاي بوك ذو الإطار الفضي» لثماني جوائز رئيسية، وترشيح أفلام أخري لجائزة أو اثنتين علي الرغم من استحقاقه لأكثر مثل «السيد» و«المستحيل»، أو تجاهل الأوسكار التام لبعض الأفلام المهمة مثل «صعود فارس الظلام» و«العظام والصدأ»، وكذلك الفيلم التسجيلي الإيراني «هذا ليس فيلماً».
اللعب علي أوتار المزاج السياسي لدي البعض والمزاج الفني لدي البعض الآخر، يظهر بوضوح في ترشيح أفلام مثل: «لينكولن» و«حياة باي» للعديد من جوائز الأوسكار هذا العام، ففي حين الأول يتناول أحد الصراعات التي خاضها الرئيس ال 16 للولايات المتحدةالأمريكية «إبراهام لينكولن»، حيث يركز الفيلم علي الصراع السياسي علي مبدأ المساواة والعدالة، في رغبة «لينكولن» بإنهاء النزاع بين البيض والسود الأمريكيين وتوحيد الجبهات، ورغم أن الفيلم من إخراج «ستيفن سبيلبرج» المعروف بنزوحه لأفلام الخيال العلمي والكائنات الفضائية، إلا أنه في هذا الفيلم رغب في خلع هذا الرداء، والرجوع للماضي، والتركيز علي المطالبة بحقوق إنسانية - لاسيما الشعوب العربية حالياً - إلا أن الفيلم غرق في المصطلحات السياسية، وتحليل الأحداث التاريخية الأمريكية بنوع من التطويل
. ارجو فغلب علي الفيلم إيقاع بطيء نوعا، لا يخرجك منه سوي روعة أداء «دانيل دي لويس» وتتابعات نهاية الفيلم التي تحسم الصراع الدائر علي مدار ساعتين ونصف الساعة - زمن أحداث الفيلم - لكن أن يتصدر الفيلم ترشيحات الأوسكار ل 12 جائزة، مما يعني أن الترشيح هنا أتي سياسياً بشكل ما، لهذا كان لا يمكن تجاهل ترشيح فيلم «حياة باي» لنفس عدد من الجوائز تقريباً - 11 جائزة - خاصةً أن الفيلم يتناول المبادئ الإنسانية ذاتها في حق الإنسان تقرير مصيره، بل تقرير دينه، من خلال «باي»، الطفل الذي يؤمن بثلاث ديانات هي: الهندوسية والمسيحية والإسلام، في حين يمتلئ الفيلم بالرموز الدينية أيضاً، فرحلة «باي» علي ظهر قارب مع نمر - بعد غرق السفينة التي تقله وأهله معها - تمثل هنا رحلة بين أمواج الإيمان والشك، ليصل بك في نهاية المطاف لأن البشر كلهم واحد، حتي وإن اختلفوا فيما بينهم، أياً كان هذا الاختلاف، ورغم أنه لا تجوز المقارنة بين «لينكولن» و«حياة باي»، إلا أن الأول يمثل الرؤية الأمريكية لمبادئ دعت لها العالم كله - حتي وإن اختلفنا في كونها تكيل بمكيالين - أو بين الفيلم الثاني الذي يمثل نضجاً فنياً عاهدناه من مخرجه «آنج لي»، الذي يعود ليؤكد أن القيمة الفنية هي التي تكسب.
البؤساء لعبة الأوسكار لم تكُن مختلفة في باقي الأفلام، فإن تناولنا فيلمي «أرجو» و«البؤساء»، فنجد الفيلم الأول صورة مجسدة من صور التحدي الأمريكي لإيران، ورغم ضعف الفيلم، إلا أنه مرشح لسبع جوائز أوسكار، ربما لرسالته السياسية التي ترغب الحكومة الأمريكية إيصالها لإيران، أو لأن مخرجه أحد النجوم المحبوبين هناك «بن أفليك»، والفيلم الذي يستحضر قصة من الماضي القريب - الثمانينيات - قامت فيها المخابرات الأمريكية بعمل خطة ساذجة لإنقاذ ستة دبلوماسيين، هربوا عند اقتحام الإيرانيين للسفارة الأمريكية، مع ملاحظة أنه تم استبعاد الفيلم الإيراني «هذا ليس فيلما» للمخرجين الإيرانيين «جعفر بناهي» و«مجتبي مرتاهامس» من ترشيحات الأوسكار، رغم أن الفيلم مناهض للحكومة الإيرانية، بدليل أنه في عرضه الأول، تناولت وسائل الإعلام رفض طلب الاستئناف من «بناهي» بالحكم الصادر ضده بالسجن 6 سنوات والحظر 20 عاماً، وهو ما يعني أن الأمريكيين أرادوا إيصال الرسالة بشكل شخصي للإيرانيين، بعيداً عن المناهضين داخل الدولة ذاتها! .. أما الفيلم الثاني «البؤساء»، فيعيد مخرجه «توم هوبر» القيمة الفنية لرواية كلاسيكية تم تقديمها العديد من المرات علي الشاشة، فيعيد تقديمها في شكل موسيقي، وهو أسلوب جديد علي الرواية، التي بالرغم من قسوتها، وكثرة ما تحمله من مواعظ وحكم وميلودراما، تدفعك النسخة الجديدة للانبهار، فجميع العناصر الفنية للفيلم، بدايةً من أداء الممثلين الرئيسيين والثانويين، إلي التصوير - خاصةً حركة الكاميرا - إلي الإيقاع السريع في المونتاج، بالإضافة الي الملابس والمكياج وأماكن التصوير، كل هذا اجتمع معاً لخلق «تحفة فنية جديدة» من «البؤساء»، تستحق الترشيحات الثمانية التي نالتها، خاصةً أنها أعادت رواية كادت أن تقتلها السينما إلي الحياة مرةً أخري.
30 دقيقه بعد منتصف الليل استبعاد الأوسكار لبعض الأفلام قد يكون بسبب حوادث مؤسفة تعرض لها المجتمع الأمريكي، فمثلاً تزامن عرض فيلم «صعود فارس الظلام» مع حادث القتل الذي تعرض له عدد كبير الجمهور داخل قاعة العرض، وبالتالي لا ترغب الحكومة في تعكير صفو الجوائز، لهذا تم استبعاد الفيلم من جوائز تعتبر محسومة بالنسبة له كجائزة أحسن مؤثرات بصرية، وهو ما حدث مع فيلم «المستحيل»، الذي رغم أن قصته - التي تتناول أسرة تنجو من إعصار «تسونامي» - بها مبالغة وصعبة التصديق، وحدوثها أقرب للمستحيل، لكنها حدثت بالفعل، فالفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية، وقد كانت التوقعات للفيلم أكبر بكثير، خاصةً في العناصر الفنية من تصوير ومونتاج، لكن تم الاكتفاء بترشيح «ناعومي واتس» لأفضل ممثلة .. كما تم استبعاد فيلم «الهوبيت»، رغم حصول أجزائه الثلاثة السابقة علي عدد كبير من الجوائز، لكن الاستبعاد جاء هذه المرة دون سبب مفهوم!.. المزاج السياسي قد يتدخل في استبعاد بعض الأفلام أو تقليص ترشيحات الجوائز للبعض الآخر، إلا أنها تتدخل في ترشيح فيلم مثل «30 دقيقة بعد منتصف الليل.. لخمس جوائز أوسكار، خاصةً أنه يتناول أحداث مقتل «بن لادن»، فمخرجة هذا الفيلم «كاثرين بيجلو» تبحث دائماً وراء الغموض في الأحداث السياسية الكبري، وتبحث هذه المرة عن الغموض وراء اغتيال «أسامة بن لادن»، وتحديداً في كيفية العثور عليه، يتتبع الفيلم سعي المخابرات الأمريكية، ومحاولاتها لنيل اعترافات من بعض المتهمين بالإرهاب، من خلال تعذيبهم، لمعرفة مكان «بن لادن»، وقد كانت المفاجأة بمنح المخابرات الأمريكية للمخرجة بعضا من المعلومات السرية، التي رفضت منحها للإعلاميين، علي الرغم من أن أفلام «بيجلو» تتناول موضوعات سياسية جافة وقاتمة، إلا أنها في هذا الفيلم تعني بالمشاعر، خاصةً مشاعر الارتياح، التي صاحبت الأمريكيين، بعد مقتل «بن لادن»، وبالتالي الأوسكار هنا توثق وتحتفل بالانتصار الأمريكي علي الإرهاب كما تري! حب إلا أن المزاج السياسي أو حتي القواعد المتبعة في الأوسكار قد تفلت قبضتها قليلاً أمام تحفة فنية مثل الفيلم النمساوي «حب» فترشيحه لخمس جوائز، منها ثلاث جوائز رئيسية، تثبت أن جنسية الفيلم مهما كانت ليس لها دخل في المعايير الفنية للحكم، فالفيلم الجيد هو الذي يفرض نفسه، وهو نفس ما حدث مع الفيلم الإنجليزي «البؤساء»، إلا أنه قد لا يكون كافياً لبعض الأفلام، فالفيلم الفرنسي «العظام والصدأ» لمخرجه «جاكوس أوديارد» - صاحب فيلم «رسول» - يعطي درساً جديداً في المشاعر الإنسانية من خلال هذا الفيلم وقصة امرأة تفقد ساقيها، وتعيش قصة حب مع ملاكم سابق، وعلي الرغم من ميلودرامية القصة، فإن الفيلم لا ينساق وراء العبارات الثقيلة أو الانفعالات المبالغ فيها، بل يسير بسلاسة، ليعبر عن المعني الحقيقي للحب جسداً وروحاً، فرغم أن الفيلم نال توقعات كثيرة بأن ينافس علي الأوسكار - وخاصةً بطلة الفيلم «ماريون كوتيلارد» - بل وصف الفيلم بأنه أقرب للرواية الممتعة التي لا تتركها إلا بعد الانتهاء من قراءتها، شاعراً أنها قامت بغسل روح متلقيها، إلا أنه تم استبعاده دون سبب، لتخسر الأوسكار استبعاد أحد أفضل الأفلام هذا العام.
التدخل في تكريم انتصار أو رئيس - مثلما حدث مع «لينكولن» - لا يعني بالضرورة أن ينجح في كل مرة، فقد تم استبعاد فيلم «حديقة هدسون»، الذي يتناول واقعة في حياة الرئيس الراحل «فرانكلين روزفلت»، خاصةً أن السينما الأمريكية لم تقدم أفلاماً كثيرة عنه، فقد ظهر تقريباً في 11 فيلما، ولم يدُر فيلم منها عن سيرته بشكل محدد، ويعد هذا الفيلم هو الأول عن واحد من أهم ثلاثة رؤساء حكموا أمريكا، وأعيد انتخابه أربع مرات، بل أنهي الحرب العالمية بالنصر للحلفاء، والفيلم يعني بعلاقة غرامية أقامها «روزفلت» مع إحدي قريباته في نهاية الثلاثينيات، إلا أن الفيلم نال تقديراً نقدياً، ورُشِحَ لعدد من الجوائز، واعتبر أداء «بيل موراي» من أفضل ما يكون، في تقمصه لشكل وصوت وحركة «روزفلت»، وكان من المتوقع علي الأقل أن ينال الفيلم ترشيحاً كأفضل ممثل، ولكن يبدو أن الأكاديمية المانحة للأوسكار اكتفت هذا العام برئيس واحد فقط هو «لينكولن» لتكريمه!