فى الوقت الذى تتفاقم فيه أزمة القمامة فى مختلف أنحاء مصر، تشهد أروقة الحكومة وأغلب المحافظات صراعا صامتا بين رجال أعمال مصريين، ووكلاء لعدد من الشركات الأجنبية على الفوز بعقود تدويرها واستثمارها.. ورغم مرور الوقت، لا القمامة تم جمعها ولا تم حسم الصراع.. وأخيرا انتقلت الأزمة بين الأطراف من دهاليز الحكومة إلى ساحات القضاء والنتيجة استمرار ارتفاع أكوام الزبالة فى الشوارع والأزقة حتى أصبحت تشكل خطرا حقيقيا على البيئة وعلى صحة الإنسان المصرى الذى لا يحتمل مزيداً من الأمراض.
وبما أن القمامة كانت أبرز القضايا الخمس الأساسية التى تعهد الرئيس محمد مرسى بحلها خلال المائة يوم الأولى من توليه المسئولية، إلا أنه فى خطابه باستاد القاهرة بمناسبة احتفالات «أكتوبر» اعترف بأن ما تم إنجازه فيها لم يزد على 40٪.. فى حين يشكك البعض فى هذه النسبة من حيث الأصل!
وقبل الدخول فى تفاصيل الصراع بين الشركات المحلية والخارجية للفوز ب «تورتة» عقود تجميع وتدوير وتصنيع القمامة، يجب الإشارة إلى أن هناك مدرستين فى التعامل مع ملف القمامة.
الأولى ترى أنها تمثل «كنز» يمكن أن يصبح موردا لتمويل عشرات المشروعات وبذلك تتحول الزبالة من نقمة إلى نعمة ومصدرا للثروة والثراء لو أحسن استغلالها واستثمارها بأحدث الطرق التكنولوجية المعمول بها عالميا.
أصحاب هذا الرأى يعتبرون الزبالة المصرية أغنى من مثيلاتها على مستوى العالم، خاصة فيما يتعلق بالمواد العضوية التى تنتج من إلقاء بقايا الأطعمة والمخلفات الغذائية، حيث يصل متوسط إنتاج مصر من الزبالة إلى 60 ألف طن زبالة يوميا، تشارك القاهرة وحدها بحوالى 15 ألف طن ثم تأتى الجيزة فى المرتبة الثانية ب7 آلاف، والدقهلية 6 آلاف طن، الإسكندرية 5 آلاف طن والشرقية 3 آلاف طن، إلى جانب باقى المحافظات وفى حالة التعامل العلمى والتكنولوجى مع هذه المخلفات يمكن أن نوفر 15٪ من الطاقة الحيوية، بالإضافة إلى المواد الخام الطبية والتى تدخل فى إنتاج وتصنيع كثير من الأدوية.
أما الاتجاه الثانى فيرى أنها كابوس، يجب تشجيع ودعم كل من يسعى إلى تخليصنا منه سواء كان أجنبيا أو محليا إخوانيا أو ليبراليا، المهم أن يمتلك آلية لتنظيف شوارعنا من هذا الخطر الداهم الذى يهدد صحتنا ويشوه شوارعنا على أن يتم التخلص منها بطريقة آمنة لا تضر بالبيئة من قريب أو من بعيد.
شركة «إيتا تك» البريطانية ووكلاؤها فى مصر كانوا أكثر الشركات التى قدمت عروضها على حكومات ما بعد ثورة يناير بدءاً من حكومة الدكتور عصام شرف والجنزورى وأخيرا الحكومة الحالية برئاسة هشام قنديل، لكن كل محاولاتهم باءت بالفشل.. السبب كان البيروقراطية وتعدد الجهات التى يجب أن يتعاملوا معها، فإذا نجحوا فى إقناع جهة بجدوى التعاقد معهم، فشلوا فى إقناع باقى الأطراف، فيتعطل المشروع وهكذا كانت تسير الأمور وفقا لما قاله لنا عبدالله الزغبى وكيل شركة «إيتا تك» البريطانية فى مصر، ويضيف: ملخص ما عرضناه على الحكومة وبعض المحافظين كان عبارة عن استئجار مصانع التدوير المتهالكة القائمة بالفعل أو المعطلة فى مختلف المحافظات بعد تجديدها وتطويرها وتزويدها بكل الإمكانيات التكنولوجية الحديثة، على أن يتم توريد 600 طن يوميا للمصنع الواحد قابلة للمضاعفة فى المستقبل على أن تدفع الشركة 3 ملايين جنيه كإيجار سنوى لكل مصنع تدوير بالإضافة إلى المساهمة فى تطوير معدات جمع ونقل المخلفات للمصانع كما تتولى الشركة عملية دفن جميع المخلفات الصلبة والخطيرة بطريقة آمنة، مقابل أن تتعهد الشركة بتشغيل وتدريب العمالة المحلية، وتسليم جميع المعدات والمصانع للمحافظة بعد نهاية التعاقد الذى يصل إلى 25سنة.
الزغبى قال: لم نترك محافظا ولا مسئولاً إلا وطرقنا بابه لطرح مشروعنا ومناقشته معهم، وجبنا المحافظات من البحر الأحمر إلى القاهرةوالجيزة وحتى الغربيةوالإسكندرية وكفر الشيخ، خلاصة تجربتنا أن أغلب المسئولين لديهم رغبة كبيرة فى التخلص من القمامة بأى وسيلة لكن كل ما حصلنا عليه مجرد وعود فقط مع أن الشركة البريطانية أبدت مرونة ورغبة فى التعاون إلى أقصى درجة فى المقابل واجهنا جموداً من جانب كل مسئول قابلناه وعرضنا عليه مقترحنا.. النتيجة أنهم لم يقبلوا التفاوض معنا ولا مع غيرنا فى حين تستمر أزمة القمامة بلا حل.
نبقى فى بريطانيا أيضا لكن هذه المرة مع شركة «gree» التى دفعت بعدد من خبرائها إلى مصر للفوز بالتعاقد مع أى محافظة لتدوير قمامتها، مسئولو الشركة وصلوا إلى محافظة المنيا أثناء تولى محافظها السابق اللواء سراج الدين الروبى، الذى رحب بالتعاقد مع الشركة مباشرة فى مايو الماضى، لأن أزمة القمامة كانت قد وصلت فى المحافظة إلى طريق مسدود بعد أن تعطلت معدات الفرز، حيث كانت تتم عملية دفن الزبالة بدون معالجة مما يمثل خطرا بيئيا على سكان المحافظة والمحافظات المجاورة، مما دفع الروبى للتحمس للعرض الذى يتضمن حصول الشركة على قطعة أرض مساحتها 5 أفدنة ملك المحافظة تصلح لإقامة المشروع بنظام حق الانتفاع لمدة 25 عامًا على أن تسلم المحافظة 600 طن يوميًا قابلة للزيادة فى المستقبل، فى المقابل تتعهد الشركة بتسديد 200 ألف جنيه شهريًا للمحافظة وشراء 10 قلابات ودفع 10٪ من قيمة جميع المنتجات المستخرجة سواء كهرباء أو مواد أخرى متنوعة بما قيمته 10 ملايين جنيه شهريًا أيضا.
لكن بعد أن تم وضع لوحة رخامية استعداداً لبدء المشروع باعتباره الأول من نوعه فى عهد الرئيس محمد مرسى، جاء تشكيل الدكتور قنديل للحكومة الحالية وتم تعيين الدكتور مصطفى عيسى محافظًا للمنيا بدلاً من اللواء الروبى فتوقف كل شىء!
فالمحافظ الجديد رأى أن سابقه أخطأ فى منح الشركة البريطانية هذا الحق، واعتبر أن العقد مجحف ويستفيد منه الطرف الأجنبى أكثر من الطرف المحلى وطالب بإعادة النظر فى التعاقد السابق والتقدم من جديد وفقًا للقواعد المنصوص عليها فى قانون المناقصات العامة، ومنع الشركة من الوصول إلى الموقع، وأعاد إليه العاملين الذين تم تسريحهم، ولم تتمكن الشركة من العمل وفقًا للتعاقدات المبرمة مع المحافظ السابق. بينما قال محمد توفيق الممثل القانونى لشركة «جرى» البريطانية: مشروعنا فريد من نوعه لأنه الوحيد الذى يستخرج الكهرباء بتكلفة مناسبة من الزبالة إلى جانب عناصر ومنتجات أخرى عديدة، فضلا عن أن نسبة المرفوضات تقدر ب2٪، كما أننا الوحيدون الذين نمتلك القدرة على التخلص من المخلفات الطبية الخطيرة وتحويلها أيضا إلى مواد عضوية غير ضارة، لأننا نحرق فى أفران داخلية على درجة حرارة تصل إلى 200 درجة ولذلك كان لدينا اتفاق مع وزارة الصحة لتسليم جميع المخلفات الطبية لمستشفيات الوجه القبلى ثم بعد ذلك سوف نتوسع لتلقى مخلفات جميع المستشفيات فى عموم مصر.
وحول سبب اختيار المنيا بالذات دون غيرها من المحافظات قال توفيق: أعمل فى مصر مع فريق من الخبراء البريطانيين حيث أعيش فى بريطانيا منذ أكثر من 30 عامًا.. عرضت المشروع على مختلف المحافظات، ولم يستوعب المشروع سوى اللواء الروبى الذى كانت محافظته تواجه أزمة طاحنة فى التخلص من الزبالة، لذلك عندما استعرضنا معه فكرة المشروع وجدها مبتكرة ومفيدة للمحافظة فتحمس لها ووقع معنا خطاب حسن النوايا ودخلنا فى التعاقد مباشرة وفقا للقواعد المتبعة فى مثل هذه المشروعات، خاصة أن مصانعنا تعمل بنجاح فى كل من اليابان وبعض الولاياتالأمريكية وإيطاليا.
سألناه ولماذا اعترض المحافظ الجديد على المشروع؟ فأجاب: لا أعرف بالضبط، ربما يكون هناك محاولات لشركة أخرى لإخراجنا من المشروع والعمل بدلاً منا، لكنى حاولت مقابلته فرفض وأبلغنى عبر مستشاره القانونى أن المشروع لن يستمر مهما كانت الظروف وعرض علينا بعض البدائل التى رفضناها جميعًا، ومتمسكون بتنفيذ تعاقدنا مع المحافظ السابق لأننا مشينا فى المسار القانونى الذى ليس أمامنا سواه ونحن نثق فى إنصافه لنا.
«ريتش لاند» أو الأرض الغنية هو اسم أشهر شركة إخوانية ظهرت بعد الثورة للعمل ولاستثمار المخلفات بجميع أنواعها، بدأت من الدقهلية، بتوصية من المجلس العسكرى ودعم من حكومة الدكتور كمال الجنزورى السابقة، ونجحت فى الفوز بعقد احتكارى لجمع وتدوير قمامة الدقهلية لمدة 25 عامًا، على أن تتولى مهمة جمع القمامة من منازل سكان 10 مدن بالمحافظة، إلى جانب سكان مدينة المنصورة، على أن تدفع للمحافظ 40 مليون جنيه كل عام، حيث ينص العقد على أن تحصل الشركة على جميع المعدات والأوناش والجرارات التابعة للمحافظة إلى جانب مدفنين تابعين لها أيضا الأول فى مدخل المنصورة على مساحة 18 فدان والثانى فى منطقة كلابشو على مساحة حوالى 30فداناً.
حول خلفية شركة ريتش لاند يقول على هلال رئيس مجلس إدارتها: الشركة تضم 16 رجل أعمال مصرياً ومعنا شركاء من ألمانياوالولاياتالمتحدة بنسبة 30٪.. وقمنا بتأسيس الشركة للعمل فى جمع وتدوير القمامة فى مختلف أرجاء مصر برأس مال 100 مليون جنيه قابلة للزيادة، وبما أننى من المنصورة فقد بدأنا من الدقهلية وتقدمنا فى أكتوبر من العام الماضى ضمن أربع شركات فى مناقصة عامة ورسى علينا العطاء حيث قمنا بالتعاقد مع المحافظة على أن نبدأ مباشرة بعد ستة أشهر من الآن، وسوف نقوم بعملية التدوير بأحدث تكنولوجيا عالمية والاستفادة من محتوياتها المتعددة، فوفقا للدراسات الموجودة لدينا سوف نساهم فى حل أزمة الطاقة التى تواجه مصر من خلال إنتاج طاقة نظيفة ونعيد تصنيع هذه المخلفات بطريقة علمية، بحيث نعيد مدن مصر نظيفة وجميلة كما كانت قبل عقود طويلة.
سألت المهندس على هلال عن حقيقة انتمائه السياسى وخلفيته المهنية ونيته فى التوسع لمحافظات أخرى فرد قائلاً: بالفعل أنا لا أخفى انتمائى لجماعة الإخوان لكن معنا شركاء من جميع التيارات، نشاطى السابق كان فى مجال العقارات، والآن كرئيس لمجلس الإدارة لدينا طموحات كبيرة لتطبيق نموذج المنصورة فى محافظات أخرى فى المستقبل.
الدكتور ياسر عبدالمطلب الخبير فى مجال الكيمياء والتكنولوجيا الحيوية يرى أن الحكومات المصرية المتعاقبة تأخرت كثيرًا فى البحث عن حلول جذرية للتعامل مع قضية المخلفات وليس الزبالة فقط لأن الأولى أعم وأشمل، حيث تضم المخلفات الزراعية والصناعية وأيضا المخلفات المنزلية التى تتميز عن مثيلاتها العالمية بالثراء بالمواد العضوية التى تعد مصدرًا للعديد من المواد والمنتجات التى تدخل فى صناعات متنوعة لا تخطر على بال أحد حيث ينتج منها المضادات الحيوية، وأيضا بعض الخامات الخاصة بصناعة الأدوية التى يتم استيرادها من الخارج.
وحول الطريقة المثالية للتعامل مع ملف القمامة ينصح الدكتور عبدالمطلب بأن يتم تغيير مفهوم المواطن العادى والمسئولين عن القمامة من كونها أزمة إلى أنها مصدر للثروة، حيث كانت النظرة التقليدية للقمامة هى التجارة من خلال بيعها خاماً بعد فرزها بطريقة يدوية بدائية، وبالتالى فإن الفائدة من ورائها تذهب إلى عدد محدود من التجار وبشكل مباشر، وهذا عكس التوجه العالمى الذى يقوم على أساس استثمارها وتحويلها إلى صناعة قائمة بذاتها من خلال تطبيق أحدث تكنولوجيا وصل إليها العالم والعمل على تطويرها بما يتلاءم مع احتياجاتنا المحلية.
ويقترح عبدالمطلب أن يتم الاعتماد على الخبرات الأجنبية فى هذا الشأن، للاستفادة من كافءتها وقدراتها المالية بشرط أن يتم تدريب كوادر محلية لتحل محلها فى المستقبل وتضعنا على بداية الطريق الصحيح لاستثمار المخلفات بكل أنواعها بالشكل الأمثل.. لأن كميات القمامة تزيد كل عام بنسبة 20٪، وأن التكنولوجيا التى تتعامل معها متجددة وتتطور بسرعة، لذلك لو الحكومة جادة فى وضع حلول عاجلة ودائمة لقضية القمامة بشكل خاص والمخلفات بشكل عام أمامها فرصة لعقد مؤتمر قومى تدعو إليه الباحثين والمستثمرين والجهات المسئولة فى الحكومة بهدف الوصول إلى حلول حاسمة وجذرية للتعامل مع القمامة على أنها صناعة وثروة يمكن الاستفادة منها على المدى البعيد.