عندما تقابل «محمد براين» و«زينب ويسمان» و«محمد ڤالكونى» فلا تندهش فأنت فى «جزيرة البعيرات»! فى جزيرة البعيرات بالبر الغربى الأقصرى، سحر غريب وكأنها رمال متحركة تغوص فيها أقدام من تضربهم الآثار الفرعونية بسحرها من المستشرقين وخبراء التنقيب وحتى السياح الذين لا يستطيعون تركها مرة أخرى فيغيرون وجهة حياتهم من أجلها، هذه الظاهرة من الضرورى الوقوف أمامها خاصة أنها تاريخية وتعود للأضواء فى وقت لا يحب الكثير من المصريين وطنهم ويجاهرون بذلك!
براين و لوحاته
«روزاليوسف» التقت بهؤلاء المهووسين بجزيرة البعيرات التى حولتهم إلى «سمك» لا يستطيعون الخروج منها حتى ولو لزيارة مكان آخر فى مصر!
فيروى لنا الفنان براين فلاين إنجليزى الجنسية فى العقد الخامس من عمره قصة عشقه لجزيرة البعيرات بالبر الغربى بالأقصر وتفضيله الإقامة بها فيقول: قررت الإقامة فى مصر بشكل دائم منذ نحو 7 سنوات ولم أكن أعلم أنى سأرتبط بها إلى نهاية عمرى.. حضرت للقاهرة فى رحلة مع أحد الأفواج السياحية، وذهبت لزيارة الأهرامات والمتحف المصرى وخان الخليلى وزرت العديد من المساجد الإسلامية، وذهبت إلى جميع الأماكن الأثرية والسياحية فى مصر، وزرت جبل موسى فى سيناء وهو من الأماكن الرائعة ومصر أرض الأنبياء مر بها موسى ويوسف وعيسى وحضارة شديدة الخصوصية حتى حضرت إلى الأقصر، وفضلت البقاء فيها وجذبنى البر الغربى وتحديدا منطقة جزيرة البعيرات بعيدا عن القاهرة المزدحمة، ووجدت المكان أكثر هدوءا والطبيعة رائعة، فمعظم لوحاتى مستمدة من الطبيعة والبيئة، وأيقنت أن الحضارة المصرية لكى تفهمها لابد أن تأخذ سنوات وقرأت العديد من الكتب خاصة فى الصوفية والفلسفة الصوفية، وأعجبنى مسجد السلطان حسن فى القاهرة واقتنعت بدين الإسلام وسماحته وحبه للآخر ودعوته للخير، فأعلنت إسلامى وأشهرته ووثقته بالأزهر الشريف، واشتريت قطعة أرض وصممتها على طراز المعمارى الشهير حسن فتحى، منزلى كما ترى من طابقين الطابق السفلى لاستقبال ضيوفى والعلوى به المرسم الخاص بى، وغرفة نومى وأقضى يومى بين الرسم وحضور حلقات الذكر يوميا، ففى المساء أذهب إلى مجلس «الشيخ الطيب» حيث تقام حلقات الذكر ومدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعروف أن مجلس الشيخ الطيب يعود لعائلة د. أحمد الطيب شيخ الأزهر بمنطقة القرنة، وأواظب على الصلوات الخمس وخاصة صلاة الفجر التى أذهب فيها إلى المسجد، وهنا أشعر بالأمان فى إقامتى بين أهل جزيرة البحيرات وأستمتع بما لديهم من حب وتقاليد عميقة وهدوء يساعدنى على إنتاج الكثير من اللوحات.
لوحة حصاد اهل الجزيرة للسمسم
وكان لى منذ فترة قليلة معرض للوحاتى فى مركز سعد زغلول الثقافى ولدى معرض آخر فى يناير القادم بمركز الجزيرة فى الزمالك، الناس هنا طيبون للغاية فمعظم أهل الجزيرة يعرفوننى جيدا ويطلقون على الشيخ «محمد» وسألته عن رأيه فى الفيلم المسىء للرسول الكريم فقال: الخبر علمته من الجرائد ووسائل الإعلام عبر شبكة الإنترنت، ففى كل مكان تجد الذين يفهمون ويقدرون قدر «محمد» - عليه الصلاة والسلام - أعظم الأنبياء وآخرون جهلاء، وأكمل: أكتسب رزقى من بيع لوحاتى فلدى محل خاص بى فى البر الشرقى وأشعر بالحب والهدوء والأمان بين أهل الجزيرة، فقد أصبحت واحدا منهم.
وبعيدا عن الشيخ «محمد» هناك أيضا الأرملة الوفية الهولندية جوهانا وسيمان الشهيرة ب «زينب»، جوهانا أو كما تفضل ويعرفها أهالى البعيرات باسم «زينب» التى أقامت منزلا فى الأقصر وأشهرت إسلامها فى الأزهر الشريف منذ ما يقرب من 20 عاما وتزوجت رجلا من أهل البعيرات وأقامت منزلا وعاشت مع زوجها إلى أن توفى منذ نحو 5 سنوات إلا أنها رفضت أن تنتزع الملابس السوداء حدادا عليه حتى الآن، وفضلت البقاء إلى جوار قبره لتزوره باستمرار.
لوحة لاحدى حلقات الذكر
وتقول لنا: تعرفت على زوجى أحمد صديق وهو كان يعمل بالسياحة من خلال أحد الأفواج السياحية وارتبطنا بقصة حب مازلت أعيش بها إلى الآن، وبنينا منزلنا الذى أقمنا فيه سنوات يجمعنا الحب إلى أن توفى فى هولندا وفضلت العودة والبقاء فى الأقصر، وتربطنى علاقة حميمة بأهل زوجى خاصة أبوه الذى يعاملنى كابنته وإخوته وأحب المصريين فالناس هنا طيبون وأقضى وقتا جيداً مع عائلة زوجى وأصدقائى.
تحكى لنا: فى بداية حياتى فى هولندا كنت أعمل ممرضة فى أحد المستشفيات الخاصة بعلاج مرضى الصرع ثم انتقلت للعمل فى مجال الإغاثة التابع للحكومة الهولندية من خلال تقديم المساعدات للفارين من الحروب فى الصومال والعراق وغيرهما من الأماكن الملتهبة.. وحياتى هنا فى الأقصر ممتعة لم أجد مشكلة واحدة طيلة السنوات التى عشتها هنا، ولا أحب أحدا أن يعاملنى كسائحة فأنا لست سائحة بل من أهل الأقصر، لذا أرفض أن تصورنى فأنا لست سائحة عليك احترام رغبتى هذه فأكثر ما يضايقنى أن يعاملنى الناس كسائحة بعد كل هذه السنوات، فحين أعبر إلى البر الشرقى بالأقصر أجد الكثير من يعرضون على نزهة من خلال قارب فى النيل أو شراء بعض الهدايا أو نزهة حنطور، ورغم أن هذا يضايقنى إلا أننى أتفهم قلة عدد السائحين وكساد البائعين والقائمين على العمل فى مجال السياحة إلا أننى لست سائحة ومسلمة، لكنى لست متعصبة فلا يروق لى المسلمون المتعصبون هنا ولا المتعصبون الكاثوليك فى هولندا، وأبو أحمد بابا صديق رجل ودود ويعاملنى كابنته وأحرص باستمرار على زيارة قبر أحمد زوجى وسعيدة بالإقامة فى البعيرات.
وهنا أيضا بين مهاويس الأقصر طبيب القلب مارت فاكلونى أو «محمد» الشهير بالحرامى وهو هولندى الجنسية أيضا ويفضل أن يناديه أهالى الجزيرة بهذا اللقب وهو اسم أطلقه على نفسه فهو رجل خفيف الظل لا يترك أحدا من أهالى الجزيرة إلا وداعبه ببعض الكلمات الصعيدية مثل كلمة «يا واكل أبوك».
أهالى الجزيرة يعرفونه جيداً ويقول لنا: جئت هنا إلى الأقصر منذ 17 عاما بعد خروجى على المعاش فكنت أعمل طبيبا للقلب فى إحدى الشركات الأمريكية فى هولندا، وحين أتيت لزيارة القاهرةوالأقصر ارتبطت بها وأهلها الطيبين وأعيش بينهم وتزوجت سيدة مصرية من بنها، كانت تقيم فى الإسكندرية وذهبنا معا لقضاء ثلاثة شهور فى الإسكندرية ولكنى لم أطق الإقامة هناك لأسبوع واحد، وسرعان ما عدت إلى الأقصر والجزيرة التى اعتبرها بلدتى فهنا أشعر بالأمان، وحب أهل الجزيرة الطيبين وأشهرت إسلامى فى القاهرة فى الجامع الأزهر واسمى الآن محمد وقمت بزيارة العالم كله، لكن مصر والأقصر تحديداً لها طعم خاص حيث الطبيعة والحياة القديمة والناس البسطاء والحضارة العظيمة، فأعشق معبد حتشبسوت المعروف بالدير البحرى والمدينة الجنائزية القديمة مدينة هابو وحين كنت أعمل فى هولندا كنت ضمن فريق طبى يقوده اثنان من الأطباء المصريين اللذين ارتبط معهما بعلاقة صداقة وشاركت فى إجراء 10 عمليات قلب فى مستشفى قصر العينى بالقاهرة، ولكن الآن أفضل الإقامة فى الأقصر والاستمتاع بحياتى الخاصة وأنا من اخترت لنفسى اسم الحرامى الذى أشتهر به بين أهل الجزيرة وأستأجر شقة أقيم فيها وأقضى نهارى فى حمام السباحة، وليلا مع أصدقائى من أهل الأقصر فالناس هنا صدوقة وودودة، ولكن فى هولندا الحياة عملية لا يسأل جار عن جاره كما هو الحال فى مصر، ولدى منزل فى هولندا أقوم بتأجيره لشركة يابانية ولى شقيق يعمل مصفف شعر يأتينى من آن لآخر فى العام مرتين يقضى الإجازة معى ويعود لهولندا، لكن الآن لا أستطيع أن أخرج من الأقصر فهى عشقى الوحيد وزوجتى تذهب لزيارة عائلتها وتعود وهى الآن فى زيارة لهم.
ويروى لنا المعلم محمد حسن صاحب أشهر ورشة نجارة بالأقصر قصة البلجيكية «لوسى» التى لم تستطع ترك الأقصر ودفنت فيها : إن أهالى الأقصر لا ينسون هذه المرأة، فكانت متزوجة من أحد شباب الجزيرة الذى كان يعمل فى مجال السياحة وبنيا منزلا فى مدينة القرنة وقمت بإعداد أعمال التجارة بالمنزل كاملا فعادة الأجانب حين تذهب لزيارتهم فى مقر إقامتهم يقدمون الشاى أو العصائر، لكن لوسى كانت تتصرف كأهل القرية، حيث تصر على تناول الطعام الذى تعده بنفسها وتشارك نساء الجزيرة والقرنة فى أفراحهن وأحزانهن وتودهن بالزيارات، وهى لم تشهر إسلامها لكنها كانت تتمتع بأخلاق وعادات أهل البلد وتحب الأقصر وأهلها حتى أنها أصيبت بمرض السرطان وخوفا من أن تموت فى بلجيكا رفضت السفر للعلاج وكانت تداوم على العلاج وأخذ جلسات الكيماوى فى أسوان التى ظلت تتردد عليها حتى وافتها المنية ودفنت فى مقابر القرنة بناء على وصيتها، فهى أحبت أهل الأقصر وعاشت بينهم ومارست عاداتهم وتقاليدهم ورفضت ألا تدفن إلا بينهم رحمها الله، لا أحد يستطيع أن ينساها فكانت تتمتع بحسن الخلق والكرم وحب الناس، وأطفال الجزيرة يتذكرونها ببشاشتها فهى الخواجاية التى تعيش فى قلوب أهل الجزيرة بمواقفها وحبها لأهالى الأقصر والجزيرة فكانت تحب الناس فأحبوها وستظل فى ذاكرة الجميع.
حكايات الأجانب وعشقهم للبر الغربى لا تنتهى، هذه مجرد نماذج كثيرة استوطنت وعاشت بين أهالى الجزيرة، فهناك أيضا سيدات من المغرب وتونس أحببن وانصهرن وتزوجن من أهل جزيرة البعيرات فستبقى مصر دائما الملاذ الذى أذاب كل الجنسيات فيه فانصهرت وعاشت فيه آمنة.