«لا يُمكن تحرير الإعلام والفن والثقافة والعِلم والبحث العلمى، إلا بتحرير العشوائيات».. هكذا قال «خالد الصاوى» عبر موقع التواصل الاجتماعى Twitter وبصرف النظر عن مَدى روعة الجُملة إلا أنها تبدو غير مفهومة، خاصةً أن النتيجة «تحرر العشوائيات» تسبق السبب «تحرر أهل الفن وغيره»، وكأنه يقول إن الفن والأدب والعِلم والثقافة ينتظرون تحرر العشوائيات لا العكس لتفك أسرها!.. المعروف أنه حتى لو الفن كان مُكمماً أو مُقيداً فى عصر مِن العصور، فإن له ألف وألف طريقة لإيصال ما يُريده، بالتالى فمِن المُفترض والبديهى أن أعمال أهل الفن وغيرهم فى مُختلف المجالات هى التى تؤدى إلى تحرر العشوائيات وأهله لا العكس، بالتالى يبرز هُنا السؤال الأهم: أين دور أهل الفَن فى تحرير العشوائيات وليس دور العشوائيات فى تحرير أهل الفن؟.
الصورة الأولية للسينما التى صالت وجالت فى الحديث عن العشوائيات بشكل أكثر ومُبكر عن الدراما التليفزيونية فى مُجملها لا تقوم بتقديم أعمال حقيقية عن العشوائيات، بل إنها تتكسب مِن ورائها، خاصةً أن فئة المُشردين والمُهمشين وغيرهم أصبحوا الأكثر حضوراً على الساحة السياسية الآن بسبب «الانفلات الأمنى»، بالتالى يُصبح هنا المكسب مِن ورائهم مضموناً.
أفلام العشوائيات لا تخرج عادة عن أحد الإطارين.. إما أنها «أفلام هَلس»، وإما أنها «أفلام مُدعية»، تتظاهر دائما بأنها تحمل قضية، فى الوقت الذى تكتشف أن الفيلم فارغ لفراغ صُناعه، فرؤيتهم للأشياء تتم بمنظور محدود، لا يحتوى على مُشتملات الصورة أو دراسات حقيقية فى مُختلف المَجالات عن هذه الفئة، قبل الشروع فى عملية إخراج العمل الفنى للنور، بل فقط انطباعات شكلية.. إلا أن الإطارين السابقين يشتركان فى مسألة الخلط بين تقديم فيلم عن الحارة الشعبية أو عن المُهمشين أو عن العشوائيات، وباستثناء تجربة فيلم «حين ميسرة».
«أفلام الهَلس».. تأتى فى المُقدمة أفلام «السُبكية»، وقد كان التوقع بأن السائد مِن هذه الأفلام ستختفى بعد ثورة يناير، إلا أن هذه الأفلام استمرت وزاد الإقبال عليها!.. هى دائماً لا تخرج مِن عباءة «راقصة مِن بيئة عشوائية إفيهات مُطرب شعبى يتلذذ بأن يُضرب على خده أو قفاه كيفما يتراءى عادة ل«لطفى لبيب» فى الفترة الأخيرة»!.. لعل أكثر هذه الأمثلة استفزازاً فيلم «شارع الهرم»، والذى حقق إيرادات قياسية، رغم حملات المُقاطعة التى تم شنها على الفيلم وقت عرضه، رغم أنه لا يُمكن تصنيف الفيلم بحال كونه عن العشوائيات، خاصةً مع خلط المَفاهيم كما ذكرنا بين البيئة الشعبية والبيئة العشوائية، إلا أن الفيلم نفسه لا يعنى بهذه الإشكالية، طالما أنه يُقدم «المُتعة» لجمهوره.. المَثال الأكثر وضوحاً لدى «آل السُبكى» حول تقديمهم للشخصية العشوائية يُمكن أن تتلمسها فى شخصية «اللمبى» بأفلامه، فالشخصية العشوائية أو المُهمشة هى التى خلقت النجومية ل «محمد سعد»، ووقتها وصلت العديد مِن الانتقادات إلى هذا الفيلم حول كونه يُشوه الشخصية المصرية، لدرجة أن ناقداً بحجم «هاشم النحاس» يكتب مقالين عن الفيلم، مرة يمدحه، والمرة الأخرى العكس.
«الأفلام المُدعية».. يأتى أحد الأمثلة المؤخرة هو فيلم «صرخة نملة» لبطله «عمرو عبد الجليل» كمثال واضح، ورغم أن الفيلم يتميز إلى الآن بجمعه لصورة بانورامية لأبراج «النايل سيتى» ومنطقة «رملة بولاق»، بحيث تبدو اللقطة الصامتة خير دليل ليس فقط على الصراع الطبقى الواضح، بحيث الثراء الفاحش بجانب الفقر المُدقع، لكن أيضاً للتأكيد على عشوائية المُجتمع ككُل، وهو ما يؤدى إلى تآكله، إلا أن الفيلم يتوه فى تفرعات بطله «جودة» العائد مِن السفر، ومُشكلاته التى يُواجهها، ولقائه بأحد ضُباط جهاز أمن الدولة فى إشارة لاستغلال المُهمشين فى أعمال البلطجة وجُملة بطله الشهيرة: «عيش نملة.. تاكل سكر»، لكن يأتى فقر الفيلم الفنى، بجانب مُحاولته إبراز جانب الثورة بكُل الطرق بالحديث عن إضافة مَشاهد مُعبرة عن الثورة مِن عدمها، كُل هذا جعل الفيلم يدخل فى هذا الإطار، ولم يُرحم بسبب اختياره للمُشاركة فى مهرجان «كان».
يقف فيلم «حين ميسرة» فى نفس المنطقة، فرغم أن الفيلم يُعتبر هو الذى قد فتح الطريق أمام «سينما العشوائيات» إن كان لنا أن نُسميها هكذا إلا أن الفيلم اعتمد أكثر ما اعتمد على إحداث صَدمة للمُشاهد أكثر مِن تفكيره فى حجم المُشكلة نفسها، بجانب إدخال الفيلم نفسه فى العديد مِن التفريعات والحروب الكلامية التى يُجيدها مُخرجه «خالد يوسف»، مِنها تلك المَشاهد التى أظهرت شخصية «غادة عبد الرازق» فى دور سُحاقية، بجانب أن خطوط الفيلم فى الكثير مِن الأحيان تتداخل لتصل بك إلى حالة مِن «الميلودراما الزاعقة» التى لا هدف مَنها سوى الصُراخ والبُكاء على هؤلاء، بدلاً مِن عملية التحليل والاستنتاج إلى الأسباب التى أدت بهؤلاء إلى السكن فى مِثل هذه المناطق، والمُدهش أيضاً أن مِثل هذا الفيلم كان سبب شُهرة «عمرو عبد الجليل» ليُصبح بعدها بطل شِباك!.. ورغم أن هناك أفلاما لامست نفس القضية مِثل فيلم «الشوق» و«ريكلام»، إلا أن الجنس فى الفيلمين أو حتى مفهومهما طغى بصورة كبيرة، لدرجة أنك قد تشعر بأن مُشكلة القاطنين بالعشوائيات هى الجنس فى الأساس!.
ورغم أن تجربة الدراما التليفزيونية جاءت مُتأخرة لمُناقشة نفس الموضوع، إلا أنها جاءت بشكل أكثر تعمقاً مُقارنةً بالسينما، فمُسلسل «البلطجى» الذى عرض فى شهر رمضان لبطله «آسر ياسين»، يُحاول الوقوف على الأسباب الحقيقية فى الدفع بالشخصيات القاطنة فى مِثل هذه المناطق إلى التوحش، رغم ما بها مِن فقر وجهل ومرض، خاصةً أن التناول هُنا يتم بحس فنى جيد، تستطيع أن تتلمسه وتشعر به.
أيضاً مُسلسل «طرف ثالث»، رغم أنه عن الحارة، إلا أنه فى بعض حلقاته يُركز بصورةٍ ما على سُكان هذه المناطق، بخاصةً فى مَشاهد شقيق «الرايق» الذى عاد مِن السفر هرباً مِن أحد الحيتان الكِبار، فيلجأ «الرايق» إلى أن يقوم بوضعه فى إحدى المناطق العشوائية، التى لا تطق صبراً فى إخراج شقيق «الرايق» مِن محل سكنه لمُجرد أن زارته صديقته زيارة بريئة!.. هُنا وكأن صُناع العمل وبطريقة غير مُباشرة يؤكدون على أن روح الحارة والعشوائيات واحدة، وليس كما يدعى الكثيرون، فهُم لا يقبلون ب «الحال المائل» أو بما لا يتفق مع طباعهم، إلا أن المنطقتين الحارة والعشوائيات تشتركان فى ذات السِمات مِن حيث ضياع شخصياتهم، ولا أدل مِن ضياع الأبطال الثلاثة «الرايق»، «ديبو»، «يوسف» ومُحاولاتهم للوصول إلى المكانة التى يحلمون بها، وحتى إن جاءت بطريق غير شريف.. لا تعدو مُحاولات الدراما التليفزيونية أن تصب فى الاتجاه الجيد فقط فى تقديمها أعمال عن العشوائيات، فهناك أمثلة أيضاً لعمل أعمال غير ذات صِلة أو ضعيفة فنياً عن نفس الموضوع الذى يتلامس مع العشوائيات مِن خلال مُسلسل «أولاد الشوارع» ل«حنان ترك» والذى ابتعد عن الصِدق الفنى فى تقديم قضيته ورؤيته عن المُهمشين.
مُسلسل «الحارة» يأتى فى مُقدمة هذه الأعمال مِن حيث الصِدق الفنى وحديثها عن عشوائية الحوارى الآن، فالحارة المصرية لا تختلف عن العشوائيات الآن، غير أنها فى مكان مُرخص فقط!.. وهُنا يُقدم مُخرج العمل «سامح عبد العزيز» واحداً مِن أهم الأعمال الدرامية التى تُناقش بمفهوم إنسانى الشخصيات التى يجمعها مكان واحد، تدهور به الحال، كما تدهور الحال بشخصياته، بل يتحول المكان لأن يكون مُستغلاً بشخصياته فى مُختلف المجالات، فيتحول الإمام الذى لعبه «صلاح عبد الله» إلى نجم إعلامى يُلقى فتاويه فى الدين، فى إشارة واضحة لعشوائية الدين وغيرها مِن المجالات والقضايا الأخرى التى حفل بها المُسلسل، ليُشير بإصبع الاتهام إلى عشوائية المُجتمع فى مجالاته التى خلقت بالتالى عشوائية فى التفكير، وبالتالى ظهور العشوائيات كمكان.