كرم جبر روزاليوسف الأسبوعية : 26 - 02 - 2011 - عدالة الأجور والمرتبات هي التي تولد لدي العاملين الشعور بالثقة والاطمئنان - الإفصاح عن الدخول يضع الحكومة علي الطريق الصحيح ويعيد الثقة المفقودة - الاعتصامات خرجت من إناء ظل يغلي حتي انفجر في وجه من صنعوه - «الشلة» مهدت الطريق لنهاية رجال الأعمال وخلقت ظاهرة «الحقد الوظيفي» - الفاسد يجب أن ينال عقابه الرادع وأن تسقط عنه أسباب القوة والحماية - الأجهزة الرقابية - رغم إضعافها - لديها الكثير من المفاجآت في الأدراج - «التطهير» يختلف عن «محاكم التفتيش»، حاسبوا المخطئ ولا إدانة لبريء - الإضرابات تضيف أعباءً علي أعباء والمخرج الوحيد هو العودة إلي العمل - سقف المطالب ليس له حدود، ويجب فصل الحابل عن النابل
المطالب المشروعة.. والإضرابات! لابديل عن تلبية المطالب المشروعة للعاملين في مختلف المجالات، إلا بتحقيق عدالة حقيقية في المرتبات والأجور، وأن يتم الإعلان عن ذلك فورا، وأن يتأكد الذين يبحثون عن «الهبش» والمخصصات الضخمة أن هذا العهد قد انتهي دون رجعة.. وعليهم أن يرضوا بدخول متقاربة مع صغار العاملين في السلم الوظيفي، ومن يمتنع فعليه بالاستقالة. من جيوب الكبار يمكن أن تتحقق بعض مطالب أصحاب الدخول الصغيرة، وهذا إذا لم تكن الزيادات كافية، فهي علي الأقل مقنعة، حين يشعر الجميع أننا في الهم سوا، وليس هناك من يلتهم الكعكة كلها، ولا يترك لغيره إلا الفتات. هذه الخطوات الملحة لا تنتظر قرارات أو إجراءات طويلة، ولكن بتفعيل قواعد الشفافية الحقيقية، التي ليست هي شفافية الوزراء رجال الأعمال الذين حولوها إلي تعتيم وتضليل ونهب. -- العدل أساس الملك، والمرتبات المطالب المشروعة للعاملين، يجب أن تحقق توازنا دقيقا، بين الأجور والأسعار وأيضا إنتاجية العامل، فلا يعقل أن يكون في مصر الآن من يتقاضي خمسمائة أو ألف جنيه، يعني 25 جنيها في اليوم الواحد.. أكل وشرب ولبس وعلاج ومواصلات ودروس خصوصية وأعياد وموالد ومدارس وزيارات للأهل والأصدقاء. مفيش حاجة اسمها موظف في شركة كهرباء أو بترول أو اتصالات يتقاضي عشرات الآلاف، وزميله الذي هو نفس مؤهله وتخرجه وخبراته لايتعدي عدة مئات.. ولا يجب أن تنقسم الوظائف في مصر إلي «كويت» يتقاضي أصحابها بالدولار، و«تشاد» يتقاضي موظفوها بالسحتوت. هنا ينفع الإيضاح، ومعناه ألا تكون المرتبات والمخصصات والبدلات أسراراً حربية، تصرف تحت بنود ومسميات ما أنزل الله بها من سلطان، وكانوا يقولون في الأفلام القديمة «اللي ملوش أهل الحكومة أهله» ولن تسترد «حكومة شفيق» الثقة المفقودة منذ مولد الحكومات إلا إذا وضعت هذه القضية في صدارة اهتماماتها. علي أصحاب الدخول الكبيرة أن يقتنعوا أن السفينة فيها ثقوب كثيرة تهددها بالغرق الذي لن يحدث بإذن الله، وأن الفقراء الذين يعيشون بجوارهم سوف يهجمون عليهم إذا تحولوا إلي جوعي.. لأن الجوع كافر، والكافر ليس لديه حدود في الانتقام. -- «همسات معاليك.. أوامر»! النقطة الثانية المتعلقة بتحسين المستويات المعيشية للناس، وهي ضرورة تهيئة كل الظروف لزيادة الإنتاجية، فلا نمو ولا وفرة ولا تحسين للدخول إلا بزيادة الإنتاج، وأن نحطم بقرة مقدسة اسمها «كله عند العرب صابون».. فالعامل الماهر والمجتهد يجب أن ينال نصيبه بضوابط موضوعية ومحايدة ومحددة، بعيدا عن المجاملات والشلل والمحسوبية. وحتي ينتج العامل ويبدع، لابد أن نوفر له ما يعمل فيه، وأن نستنهض في ضميره قيمة العمل والإنتاج، لأن منظومة العمل في مصر مليئة بالتشوهات والعيوب، بجانب موروث اشتراكي رأسمالي مختلط يحتقر قيمة العمل ويعظم شعار «الفهلوة» فليس مهما أن تكون متفانيا ولا كفؤا، الأهم أن تكون متسلقا ومتسللا ومنافقا، وأن ترفع لمديرك المقولة الخالدة «همسات معاليك أوامر». الأحداث الأخيرة في مصر أسقطت الهمسات والمعالي والأوامر، وجعلت أصحاب الحقوق ينفجرون في إضرابات واعتصامات تخرج من إناء مغلق، وظل يغلي حتي انفجر في وجه الجميع، ولا يجب أن يغضب البعض لأن بعض المطالب المشروعة اتخذت أساليب ووسائل غير مشروعة لأن لدي الناس إحساسا قويا بأنهم إذا لم يحصلوا علي حقوقهم في هذه الظروف المرتبكة فلن يحصلوا عليها أبدا. -- «شلة المنتفعين» سبب المأساة! النقطة الثالثة المهمة هي ضرورة التخلص من «نظرية الشلة» التي ابتدعها بعض الوزراء رجال الأعمال، عندما جاء كل واحد إلي وزارته أو هيئته، محمولا فوق أعناق شلة من المنتفعين الذين سدوا منافذ الترقي والصعود في وجه غيرهم، وأصابوهم باليأس المادي والوظيفي، ووضعوا فوق أكتافهم «تقالات» ضخمة من مسئولين في عمر أولادهم. في بعض الوزارات والمصالح والهيئات جاءت طوابير من صنف الشلة، جثموا علي صدور غيرهم، وكانوا سببا رئيسيا في انفجار الغضب، تم ذلك تحت شعار التطوير والإصلاح والتحديث، وهي أشياء مهمة وضرورية، ولكنها تحولت بأساليب التطبيق إلي نهب وشفط واستعلاء وانقلب هرم الوظائف والدخول واقفا علي رأسه، ولذلك لم يكن ممكنا أبدا أن يصمد وألا ينهار. خلق هذا الوضع الشاذ ظاهرة «الحقد الوظيفي» وجعل العاملين في نفس المكان إما محبطين أو متحفزين أو ينتظرون ساعة الخلاص، التي انطلقت من ميدان التحرير إلي كل مصلحة وهيئة ووزارة، واختلطت الحقوق المشروعة بالباطلة، في «كوكتيل» غريب المذاق اسمه سقف المطالب التي لا تنتهي. «فض اشتباك».. ضروري النقطة الرابعة هي أن سقف المطالب لم تعد له حدود، ويرتفع يوما بعد يوم، وما كان مقبولا أمس لم يعد كذلك اليوم أو غدا، وتعددت المطالب والمظالم والشكاوي لتصل إلي عدد العاملين جميعا، وأصبحت مستحيلا «فض الاشتباك» بين الواقع وما يمكن تحقيقه. المؤكد أن هناك عجزا هائلا في الإمكانات وأن تلبية المطالب كلها مرة واحدة أمر صعب المنال، ويزداد الأمر صعوبة بسريان شعور عدم الثقة وأن مالايؤخذ بالقوة اليوم، لن يسترد بالتفاوض غدا، وهي قضية ملغومة تحتاج إلي مزيد من الوعي والتفاهم والحوار. تزداد الصعوبة نتيجة الأحداث الأخيرة، وتعطل أدوات العمل والإنتاج بشكل كامل، يهدد الموارد ويبدد الطاقات ولا ينبئ بالوصول إلي قاعدة اتفاق مشتركة تحل هذه المعادلة الصعبة: المطالب والثقة، ولا سبيل إلا العودة فورا إلي العمل والإنتاج، بعد توفير أجواء الهدوء والاستقرار. من الطبيعي أن يكون تحقيق المطالب صعبا في ظل ندرة الموارد، ولكن هذه الظروف السلبية يمكن أن تنقلب إلي طاقات إيجابية إذا شعر العاملون بأن مطالبهم الإصلاحية في الطريق إلي التحقيق دون مراوغة أو تسويف أو تلاعب، وأن تتخذ الإجراءات المزمع تنفيذها طريقها إلي التنفيذ بجدول زمني محدد التوقيتات، ليكون الجميع علي بينة من حقائق الأمور. -- الإضرابات تضيف أعباء علي أعباء النقطة الخامسة هي أن الإضرابات والتظاهرات والانقطاع عن العمل لم تعد لها جدوي، لأن السير علي طريق الإصلاح يمضي بلا عودة، ومن يتصور غير ذلك مخطئ ولم يفهم حقيقة ما يجري في مصر، فثورة 25 يناير لم تكن حركة محدودة علي فئة أو جماعة، ولكنها بمشاركة المصريين جميعا، وأصبحت تسري في عروقهم دماء متدفقة، لن يستطيع أحد الوقوف في وجهها. الإضرابات والاعتصامات تضيف أعباءً علي أعباء، وتختصم من قدرة الحكومة علي تهيئة الأجواء المناسبة لتحسين المستويات المعيشية، والتشكيل الأخير للحكومة يثبت ذلك ويؤكده، فهو ليس تحايلا ولا تلاعبا ولا محاولة للالتفاف علي الثورة أو الانقضاض علي نتائجها، وكان تغيير الأشخاص هو المقدمة الطبيعية لنسف السياسات القديمة واستبدالها بما يتماشي مع روح الثورة. واهم من يتصور أن الماضي سوف يعود بأي صورة من الصور، ومخطئ من يبني حساباته علي أن في الإمكان عودة ما كان، ولذلك يجب أن تتسلح القيادات الحالية بأقصي درجات الوعي والفهم، وأن تكون عاملا مساهما في الاستقرار والهدوء، وأن تفسح الطريق لغيرها، لتتهيأ لعودة العمل والإنتاج، وتولد إحساسا لدي العاملين بأنهم سوف يأخذون حقوقهم. ليس خافيا أن المطالب مختلطة، فيها كثير من المشروعية، وقليل من الضغوط والوسائل الاحتجاجية، وهي أمور طبيعية حدثت وتحدث في كل الثورات المماثلة، وما تلبث أن تهدأ الأمور، ويتم فصل الحابل عن النابل، ليحصل كل ذي حق علي حقه، وتسود بين الجميع روح العدالة والمساواة. -- ترشيد اتهامات الفساد في هذا السياق أصبحت الاتهامات الهائلة بالفساد هي وقود التغيير، ولكنها في بعض الأحيان تخرج عن السياق وتفتقد السند والدليل، وتمس أبرياء وتلوث سمعتهم، في وقت تتزايد فيه الرغبة الجارفة لدمغ كل شيء بالفساد، ووصف كل من يشغل موقعاً بأنه فاسد. اتهامات الصحافة والإعلام تسبق تحقيقات النائب العام، وأصبحت كلمة الفساد علي المشاع، وتتم في أحيان كثيرة تصفية الحسابات ونصب المحاكمات الإعلامية في الصباح والمساء، ولإدخالها البيوت وإيقاد غريزة الانتقام والرغبة في التصفية، مع أن القاعدة القانونية تقول إن المتهم بريء حتي تثبت إدانته. الفاسد يجب أن ينال عقابه الرادع، وأن تسقط عنه كل أسباب الحماية والقوة، وأن يقف أمام القانون في محاكمة عادلة، تسترد أموال الدولة وتعيدها إلي أصحابها الحقيقيين، ولكن ذلك لن يحدث بالريموت كنترول ولكن بالتمسك بالعدالة، حتي لا تكون ثورة الرأي العام سببا في اتهام أبرياء. -- أين الأجهزة الرقابية؟ في مصر كثير من الأجهزة الرقابية المشهود لها بالنزاهة والدقة، وهي لم تترك صغيرة أو كبيرة خلال السنوات الأخيرة إلا ووضعتها تحت المراقبة والرصد، وذلك بما لديها من إمكانات وأجهزة تحرٍ تعمل بأساليب قانونية سليمة، وتستطيع أن تكون ذراعاً طويلة لملاحقة الفاسدين. صحيح أن هذه الأجهزة تم تقييد عملها في السنوات الأخيرة، ولم تجد تقاريرها الرقابية طريقها إلي المحاكم والنيابات، بسبب تدخلات أصحاب الهيمنة والنفوذ ومحاولاتهم طمس الحقائق، ولكن زالت كل هذه القيود الآن، وأصبحت الفرصة مهيأة لفتح الخزائن والأدراج، وأن تخرج ما في جعبتها وأن تعيده إلي المساءلة والحساب. الجهاز المركزي للمحاسبات - مثلا - له مراقبون علي مستوي عالٍ في كل الهيئات والأجهزة الحكومية، يرصدون «دبة النملة» وتتضمن تقاريرهم ملفات كثيرة، كانت تذهب إلي الأدراج دون أن تأخذ طريقها إلي المحاكم، لم تكن تقارير سرية بل علنية، ولكن لم يتم تفعيلها، وإذا حدث ذلك الآن، فسوف تأتي العدالة القانونية التي تقطع الأيدي التي امتدت إلي المال العام بالعبث والإهدار. -- «التطهير» يختلف تماما عن «محاكم التفتيش»! الأول معناه أن يتم إفساح المجال لجيل جديد يتبني فكر الثورة ويهيئ لها المناخ والأجواء، فلا يصلح من كان يدافع عن النظام السابق أن يكون محاميا للنظام الجديد، ويجب الحفاظ علي «ثقافة الاحترام» التي تمنع التحول والتغيير المفاجئ في الأفكار والآراء لمجرد ركوب الموجة والبحث عن مكان جديد. أما محاكم التفتيش فهي تفتح أبواب جهنم ونصب المشانق للأفكار والآراء، وعودة اسطوانات التخوين المشروخة التي هي مرفوضة في ظل أي نظام ولا يجب أن تنقلب مصر إلي ساحة لتصفية الحسابات بين أنظمة سياسية انتهي عمرها الافتراضي، أما من أفسد وتربح وسرق ونهب وأثري وتضخم فهذا إفساد للجيوب وتدمير للذمم وانتهاك للثروات القومية وإضاعتها علي أصحابها الحقيقيين. التطهير هو الذي يهيئ الأجواء للإصلاح والمستقبل، ومحاكم التفتيش تعيد البلاد إلي الوراء، ومستقبل هذا البلد أمامه وليس وراءه، والحساب علي الماضي واجب وضرورة، ولكنه ليس انتقاما وتشويهاً وضرباً فوق الحزام وتحته. الملك كان فاسداً في نظر الثورة، ولكن التاريخ لم يكن رأيه كذلك علي طول الخط، وكذلك زعماء مصر جميعا، يصيبون ويخطئون، ينتصرون وينهزمون، وتدخل كل الأحداث ذمة التاريخ، إلا ما يتعلق بالذمة المالية، التي لا تدخل إلا إلي قفص الاتهام. -- لم يكن ولو في الخيال أن يحدث ما حدث في مصر، وأعتقد أن من الخيال من يصل أبدا لرسم صورة مصر في السنوات القادمة، وهي الآن مشدودة بين تيارين: الماضي والمستقبل. الماضي لن يعود، والمستقبل يفرش ذراعيه في وجه الوطن، والمهم أن تظل الروح هي الطاقة الكامنة في الجسد. كرم جبر