لم يحظ فى الآونة الأخيرة موضوع باهتمام القاصى والدانى فى مصر مثلما حظت به «الجمعية التأسيسية للدستور»، وعلاقتها بوضع دستور جديد للبلاد، بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة، التى ضحى من أجلها الثوار الأحرار لأجل بناء دولة مصرية جديدة، يتبوأ فيها القانون مرتبته الطبيعية، وتحترم فيها الأسس الدستورية، التى ينصاع إليها الجميع، رئيس مرءوسون، وسلطات، وهيئات حكومية وغير حكومية فى مصرنا المحروسة. ودولة القانون التى يرنو إليها المصريون منذ عقود خلت، هى الدولة التى يشكل فيها الدستور القلب والعقل معاً، حيث ينظم فيها الدستور محور العلاقة بين الحاكم والمحكومين بشكل متوازن، وتتساوى فيها أيضاً ضرورات السلطة وضمانات الحقوق الأساسية والحريات العامة للأفراد، حتى لا تعم الفوضى ويتهدد النظام العام.
ولما كان الدستور هو أصل كل نشاط قانونى تمارسه الدولة، لذلك يعلو ويسمو على أوجه هذا النشاط جميعاً، إذ منه وحده تصبح هذه الأوجه صحيحة فهو القاعدة الأساسية التى يرتكز عليها النظام القانونى فى الدولة، وأن الطبيعة الخاصة التى يتميز بها الدستور تضفى عليه صفة السيادة لكونه كفيل الحقوق والحريات، وعماد الحياة الدستورية وأساس نظامها، وحقا لقواعده أن تستوى على القمة فى البناء القانونى للدولة وتتبوأ مكان الصدارة بين قواعد النظام العام.
ويتمثل السمو الموضوعى للدستور من ناحيتين: الأولى هى أن الدستور هو الذى يؤسس فكرة القانون السائد فى الدولة، ويحدد الفلسفة السياسية والاجتماعية للنظام، وهذا يعنى أن الدستور بما له من سمو يعد الإطار القانونى لأوجه النشاط القانونى جميعاً فى الدولة، وعليه يعد كل إجراء أو نشاط يخالف أهدافه وأحكامه باطلاً، والثانية: هى أن الدستور هو السند الشرعى لوجود الهيئات الحاكمة فى الدولة، وهو الذى يحدد اختصاصات كل منها، ومادام الدستور هو الذى ينشئ هذه الهيئات ويحدد اختصاصاتها وصور نشاطاتها فإن ذلك يؤدى إلى وجوب خضوع هذه الهيئات فيما تمارسه من اختصاصات لأحكام الدستور.
ولا تقتصر الأساليب التى تصاغ بها دساتير الدول على أسلوب واحد، إلا أن أكثر الأساليب ديمقراطية فى إعداد الدساتير هو قيام الشعب مباشرة بوضعها، إلا أن الاعتبارات العملية والواقعية أدت إلى تعذر أو استحالة ذلك، حيث إن أحكام الدستور تعتبر من المسائل الفنية الدقيقة التى يستعصى إدراكها تماما من كل أفراد الشعب، لما تحتاجه من دراسة ومناقشة عميقة، فضلاً عن استحالة اللجوء إلى الشعب كله فى ظروف الدولة العصرية التى تتميز بكثرة مواطنيها، لذا فقد أبدع الفكر البشرى فكرة اختيار الشعب لممثلين له يتولون مهمة إعداد الدستور باسم الشعب ونيابة عنه، وتسمى عادة بالجمعية التأسيسية أو المجلس التأسيسى أو الهيئة التأسيسية، وإذا تم تشكيل الجمعية التأسيسية المشار إليها من قبل أى سلطة فى الدولة، وبشكل خاص السلطة التنفيذية نكون بصدد لجنة فنية أكثر منها جمعية تأسيسية.
كما لا يجوز للسلطة التشريعية - حتى لو كانت منتخبة - أن تقوم بوضع الدستور لأن مهمة هذه السلطة تنحصر بشكل أساسى بوضع التشريع العادى وليس التشريع الدستورى الذى يسمو بالطبع على التشريع العادى كما أشرنا سالفاً.
وبالرغم من أن الهدف من انتخاب الجمعية التأسيسية هو وضع وإنشاء الدستور فقط، وينتهى عملها هذا بانتهاء المهمة التى انتخبت من أجلها وهى صياغة الدستور وإقراره، وذلك لكونها لجنة خاصة مؤقتة، إلا أن تلك الحقيقة الدستورية لا تنتقص من قدرها.
وبشأن الحالة المثارة الآن فى مصرنا الحبيبة حول مدى جواز تشكيل الهيئة التأسيسية من أعضاء أو بعض أعضاء البرلمان، فلا نعتقد أن الحالة الثورية المفترضة فى البلاد، تستلزم مثل هذا التشكيل، حيث كانت الجمهورية الفرنسية الأولى قد جربت هذه الممارسة عام 1946، ورفض الشعب مشروع الدستور الذى تمخض عن أعمال الجمعية التأسيسية المشكلة من قبل البرلمان. وقد اتبعت العديد من الدول هذا الشكل الذى يعد من أكبر مساوئه أن القائمين عليه من الموجودين فى السلطة سيصوغون بشكل أو بآخر ما يدعم مراكزهم الإدارية والسلطوية فى الحكم مما يجعلهم أكثر ليونة وتجاوباً مع شروط الحاكم رغم اختلافهم معه.
لقد سبقت العديد من الدساتير الثورية، دستور مصر المرتقب، حيث تكون الدساتير نهاية الثورات الناجحة، يشهد على ذلك دستور «صولون» الذى كان استجابة للعصيان الذى أبدته شعوب «أثينا»، ثم «الدساتير الرومانية» التى توجت ثورات البطارقة والرعاع، ثم العهد الأعظم الإنجليزى عام 1215 ثم دستور الثورة الأمريكية الذى حرر الولاياتالمتحدة من الإمبراطورية الإنجليزية، ثم دستور الثورة الفرنسية عام 1789 ثم دستور الثورة العمالية الروسية عام .1917
لقد ضمنت وعكست كل هذه الدساتير الثورية، العديد من المبادئ والتوجهات الثورية، حيث دونت مبادئ وطنية خالدة، وهدفت إلى طمأنة نفوس العباد وتهدئة الأوضاع، وإطلاق طموحات الشعوب، وإجلال تضحياتهم، واحترام حقوقهم وحرياتهم، ويعد الدستور الأمريكى المثل الذى يجسد معنى تقوية الحرية وتمتين الحقوق لدى الشعب، وتغليب المصلحة العامة للوطن، وهى المعانى التى نعوزها فى الوقت الحالى بعد الثورة المجيدة، حيث خلقت الثورة الأمريكية مفهوماً جديداً للدستور، إذ أصبح نصاً مكتوباً ومعداً بطريقة ديمقراطية وبواسطة مجلس منتخب خصيصاً لذلك وخاضعاً للتصديق من طرف الشعب، وأفضت تلك العملية إلى نتيجة دستورية، وهى قيام سلطتين واحدة مؤسسة، والأخرى مؤسسة.
لقد امتد الأثر الكبير للمبادئ الثورية المتضمنة فى الدستور الأمريكى فاعتنقت العديد من الدول الأوروبية هذه المبادئ الثورية مثل النرويج وبلجيكا، فضلاً عن معظم الدول اللاتينية.
وختاماً، فإننا حين نتحدث عن الدستور الأمريكى باعتباره أقدم الدساتير المكتوبة قاطبة فإننا لا نعنى استنساخه أو استلابه، فالدولة الأمريكية الحالية منبتة الصلة عن أرض الواقع بالقيم الديمقراطية، والفلسفات الثورية التحررية التى تضمنها الدستور المكتوب منذ ما يقرب من قرنين ونصف من الزمان، لكننا نريد الاستفادة بكل ما هو مفيد لمصر الثورة ومنها ذلك الدستور الذى بنى على أسس توافقية وتوازنية جديرة بالتعلم والمعرفة. أستاذ القانون الدولى العام عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية [email protected]