لقد اكتشفت منذ تلك الطفولة البعيدة دون أن أدري حكاية الموسيقي الداخلية الباطنة في العبارة القرآنية. وهذا سر من أعمق الأسرار في التركيب القرآني، إنه ليس بالشعر ولا بالنثر ولا بالكلام المسجوع، وإنما هو معمار خاص من الألفاظ صفت بطريقة تكشف عن الموسيقي الباطنة فيها. وفرق كبير بين الموسيقي الباطنة والموسيقي الظاهرة. حينما تتلو:(وَالضُّحَي (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَي (2)) «الضحي» فأنت أمام شطرة واحدة، وهي بالتالي تخلو من التقفية والوزن والتشطير، ومع ذلك فالموسيقي تقطر من كل حرف فيها، من أين ؟ وكيف ؟ هذه هي الموسيقي الداخلية. الموسيقي الباطنة. سر من أسرار المعمار القرآني لا يشاركه فيه أي تركيب أدبي. كل عبارة بنيان موسيقي قائم بذاته تنبع فيه الموسيقي من داخل الكلمات ومن ورائها ومن بينها بطريقة محيرة لا تدري كيف تتم.. يروي القرآن حكاية موسي بذلك الأسلوب (السيمفوني) المذهل:(وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَي مُوسَي أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَي (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَي (79)) « طه». كلمات في غاية الرقة مثل (يبساً) أو لا تخاف (دركاً) بمعني لا تخاف إدراكا . إن الكلمات تذوب في يد خالقها وتصطف وتتراص في معمار ورصف موسيقي فريد هو نسيج وحدة بين كل ما كتب بالعربية سابقا ولاحقا. ولكن الموسيقي الباطنية ليست هي كل ما انفردت به العبارة القرآنية، وإنما مع الموسيقي صفة أخري، هي الجلال.. وفي العبارة البسيطة المقتضبة التي روي بها الله نهاية قصة الطوفان تستطيع أن تلمس ذلك الشيء (الهائل) (الجليل) في الألفاظ: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ). تلك اللمسات الهائلة، كل لفظ له ثقل الجبال ووقع الرعود تنزل فإذا كل شيء، صمت،سكون، هدوء، وقد كفت الطبيعة عن الغضب ووصلت القصة إلي ختامها. لا يمكنك أن تغير حرفا، أو تستبدل كلمة بأخري، أو تؤلف جملة مكان جملة، تعطي نفس الإيقاع والنغم والحركة والثقل والدلالة. ولهذا وقعت العبارة القرآنية علي آذان عرب الجاهلية الذين عشقوا الفصاحة والبلاغة وقع الصاعقة. وإذا كانت العبارة القرآنية لا تقع علي آذاننا اليوم موقع السحر والعجب والذهول، فالسبب هو التعود والألفة والمعايشة منذ الطفولة والبلادة و الإغراق في عامية مبتذلة أبعدتنا عن أصول لغتنا، ثم أسلوب الأداء الرتيب الممل الذي نسمعه من مرتلين محترفين يكرون السورة من أولها إلي آخرها بنبرة واحدة لا يختلف فيها موقف الحزن عن موقف الفرح عن موقف الوعيد عن موقف البشري عن موقف العبرة، نبرة واحدة رتيبة تموت فيها المعاني وتتسطح العبارات، وبالمثل بعض المشايخ ممن يقرأ القرآن علي سبيل (اللعلعة) دون أن ينبض شئ في قلبه، ثم المناسبات الكثيرة التي يُقرأ القرآن فيها روتينيا، ثم الحياة العصرية التي تعددت فيها المشاغل وتوزع الانتباه وتحجر القلب وتعقدت النفوس وصدأت الأرواح. برغم هذا كله فإن لحظة صفاء ينزع الواحد فيها نفسه من هذه البيئة اللزجة ويرتد فيها طفلا بكرا وترتد له نفسه علي شفافيتها، كفيلة بأن تعيد إليه ذلك الطعم الفريد والنكهة المذهلة والإيقاع المطرب الجميل في القرآن الكريم. (من كتاب «القرآن - محاولة لفهم عصري» للدكتور مصطفي محمود).