أحب الكتابة عن المهرجانات السينمائية بعد أن تنتهى بوقت قصير. المتابعة اليومية غالبا ما تمنعك من رؤية الصورة الشاملة والجرى من دار عرض إلى أخرى ومن مؤتمر إلى ندوة غالبا ما يمنعك من التوقف لالتقاط الأنفاس والنظر حولك لتعرف إلى أين وصلت وإلى أين وصل المهرجان.. الآن... بعد أن انتهت الدورة السابعة من مهرجان دبى السينمائى الدولى التى عقدت من 12 إلى 19 ديسمبر يمكننى أن ألخص تغطيتى للمهرجان فى عبارة واحدة: هى الدورة الأقل إبهارا وفخامة فى تاريخ المهرجان ولكنها الأكثر إنجازا على المستوى السينمائى. لقد حضرت معظم دورات المهرجان ورغم أنه حديث جدا مقارنة بمهرجان القاهرة الذى كنت أتابعه حتى قبل أن أعمل بالصحافة منذ ربع قرن تقريبا، إلا أنهما - مع مهرجان الاسماعيلية- الأقرب إلى قلبى وعقلى أكثر من مهرجانات كثيرة أخرى... ليس معنى ذلك أنهما أفضل أو أسوأ من باقى المهرجانات، ولكن معناه أننى أشعر بالألفة تجاههما ولدى ذكريات عزيزة عن أفلام كثيرة شاهدتها خلال دوراتهما المختلفة. بالنسبة للقاهرة فقد تعرفت على السينما الغربية من خلاله، وبالنسبة لدبى فهو الذى أدخلنى إلى الشرق... السينما الخليجية وما وراءها ...ربما لأن المهرجان بدأ مع بداية نهضة سينمائية غير مسبوقة فى هذه المنطقة وصعود تيارات سينمائية جديدة ومجددة فى بلاد مثل الصين وتايلاند ومنغوليا وكوريا الجنوبية بجانب التيارات الحديثة فى سينمات عريقة مثل الهند واليابان والصين. السؤال الدائم الذى يوجهه المرء إلى نفسه ورؤساء المهرجانات هو: ما الجديد هذا العام؟ بالنسبة إلى الدورة السابعة من مهرجان دبى فإن الجديد هو إنشاء مسابقة جديدة للأفلام الإماراتية فقط، وتوسع فى النشاطات المصاحبة المتعلقة بالإنتاج والتوزيع: السوق و«ملتقى دبى» وبرنامج «إنجاز» وحتى المشاركة فى توزيع بعض الأفلام فى دور العرض بالمشاركة مع الموزعين المحليين وطرح بعض الأفلام على اسطوانات دى فى دى! هناك أيضا برنامج «إيقاع وأفلام» الذى يربط بين فنى السينما والموسيقى من خلال عرض أفلام فى الهواء الطلق يعقبه عرض موسيقى غنائى له علاقة بالفيلم.. هذا على مستوى الفعاليات وعلى مستوى الإدارة هناك مثلا رابطة «أصدقاء المهرجان» التى تضم الرعاة ورجال الأعمال والشخصيات المهمة فى الدولة وكل من له يد فى نجاح المهرجان وذلك بمنحهم بعض المزايا والامتيازات. كل هذا «الجديد» فى تصورى يرتبط باستراتيجية محددة هى ضمان وتشجيع الدعم المالى الذى تأثر كثيرا بالأزمة الاقتصادية الأخيرة وهدد استقرار واستمرار الكثير من الكيانات خاصة التى تعتمد على دعم الدولة والرعاة. ولكن من الأفكار الجديدة البسيطة التى أعجبتنى وجود معرض كتب صغير يضم بعض الكتب السينمائية الحديثة. الفكرة سبق إليها مهرجان الإسماعيلية ولكن المختلف فى دبى هو أن معظم الكتب بالإنجليزية وأن معظمها تم بيعها، وقد يكون السبب هو فرق الثقافة بما أن المصريين لم يعدوا يجيدون أى لغة - حتى العربية - بينما الإماراتيون يجيدون الإنجليزية أفضل من العربية، أو ربما يكون الفرق الاقتصادى فقط! السؤال الذى لا ينتبه له أحد غالبا هو ما القديم الجيد الذى تحسن أو حافظ على حسنه وما هو القديم السيئ الذى تم التخلص منه؟ الطيب والسيئ والشرس سنتحدث عن الطيب والسيئ فقط أما الشرس فليس له مكان هنا. الطيب الذى يحتفظ بجودته هو البرمجة - اختيار وتنسيق الأفلام - التى يشرف عليها عدد من المبرمجين المحترفين، وإن كانت الأفلام العربية المختارة تخضع دائما لبعض الانحيازات القبلية والسياسية، فمثلا كل فيلم عراقى أو فلسطينى طيب النوايا سيكون له وجود حتى لو كان سيئا فنيا...نفس الشىء بدرجة أقل مع لبنان وسوريا. أفلام مصر وبلاد المغرب العربى تعامل بدرجة أكثر موضوعية، أما الأفلام الخليجية فليست هناك موضوعية حيالها وهذا حقها وحق المهرجان لأنها لا تزال وليدا صغيرا يحتاج إلى الرعاية والاحتضان.. الطيب أيضا هو وفرة الأفلام الجيدة وجدولتها بشكل سهل يتيح حجزها ومشاهدتها بسهولة خاصة مع تقليل عددها وإلغاء حفلات الصباح المبكر التى لا يحضرها أحد.. هذه الوفرة فى الأفلام الجيدة والبرمجة والجدولة السهلة تكتمل بوفرة الحضور والإقبال الجماهيرى على كل أنواع الأفلام: الروائية والوثائقية والقصيرة من مختلف البلاد... فيما مضى كان مهرجان دبى يتسم بوجود عدد كبير من كبار النجوم العالميين، خاصة من أمريكا والهند أكبر بلدين منتجتان للسينما واللذان تربطهما بدبى علاقات اقتصادية وسياسية مهمة.. ولكن الحضورين الأمريكى والهندى تراجعا بعض الشىء هذا العام. ربما يرى البعض أن خفوت بريق النجوم أثر سلبا على المهرجان ولكن ذلك فى اعتقادى أمر طيب لأننى لست من هواة الاعتماد على وجود النجوم كما لو كان هذا هو الهدف الأول والوحيد من أى مهرجان.. السيئ الذى لم يتم التخلص منه هو كثرة المسابقات والجوائز واختلاطها ببعضها البعض بل وزيادة عددها كل عام كما حدث هذه الدورة بإضافة ثلاث مسابقات جديدة هى جائزة اتحاد النقاد للفيلم الوثائقى وجائزة لجنة حقوق الإنسان وجائزة المهر الإماراتى التى انضمت للمسابقتين الرسميتين مسابقة الأفلام الآسيوية والأفريقية ومسابقة الأفلام العربية. الإمارات تقع فى العالم العربى والعالم العربى يقع فى آسيا وأفريقيا وبالتالى يمكن أن تضمهم مسابقة واحدة قوية على أن تنضم المسابقتان الأخريتان إلى المسابقات الهامشية ويتم الإعلان عن جوائزها وتوزيعها قبل حفل ليلة الختام كما حدث هذا العام مع جوائز اتحاد النقاد.. المطبوعات المصاحبة هى الأفضل فى كل المهرجانات العربية: متنوعة وراقية التصميم والطباعة ومتوفرة بسخاء. هل أقول أننى لم أجد نسخة من الكتالوج فى مهرجان القاهرة الأخير رغم أننى كنت مكلفا بإدارة ندوات فيه وأحتاج إلى الكتالوج بينما كل المطبوعات يتم توزيعها مجانا وعرضها فى كل مكان للجمهور حتى فى دور العرض التجارية. أعرف أنهم سيتحججون بالتكلفة ولكن تكلفة زيادة نسخ المطبوعات لا توازى ما ينفق على نجم واحد كما أن المطبوعات هى الوسيلة الأكبر لجذب الرعاة وإقناعهم بوصول دعايتهم لأيدى وعيون الناس. السوق هى الميزة التى لا تتوافر فى كل المهرجانات العربية الأخرى، وكذلك الفعاليات المصاحبة الخاصة بدعم السينمائيين العرب الشبان الذين أصبحوا يتطلعون إلى المهرجان والفرص الكبيرة التى يوفرها... والسوق هى عنصر الجذب الأساسى لأى شركة إنتاج أو مخرج لإقناعهم بعرض أفلامهم والمجىء إلى المهرجان والمشاركة بأموالهم فى شراء وتوزيع وإنتاج أفلام أخرى. مصر الجديدة لن أتحدث عن سوق مهرجان القاهرة أو غيره من المهرجانات المصرية، ولكنى سأتحدث عن التواجد المصرى الكبير فى المهرجان من خلال مشاركة ثلاثة أفلام روائية طويلة هى 678 لمحمد دياب و«ميكروفون» لأحمد عبدالله و«الخروج» لهشام عيساوى والفيلمان الوثائقيان «ظلال» لماريان خورى ومصطفى الحسناوى و«بيت شعر» لإيمان كامل والفيلمان الروائيان القصيران«حواس» لمحمد رمضان و«ما يدوم» لعمر روبرت هاميلتون.. حصلت مصر على أربع جوائز وشهادتى تقدير. حصل «678» على جائزتى أفضل ممثل لماجد الكدوانى وممثلة لبشرى، وحصل «ميكروفون» على جائزة أفضل مونتاج وحصل «ظلال» على جائزة اتحاد النقاد كما حصل «بيت شعر» على شهادة تقدير وحصل فيلم «تذكرة من عزرائيل» للمخرج الفلسطينى عبدالله الغول على شهادة تقدير أخرى، وهذا الفيلم من إنتاج معهد السينما فى مصر ومشروع تخرج عبدالله من المعهد وبالتالى يعتبر مصريا.. كذلك حصل فيلم «إبراهيم والمعزة» لإبراهيم البطوط على إحدى منح ملتقى دبى.. سوف تلاحظ أن بعض الأسماء المذكورة أعلاه أو كلها غير معروفة بالنسبة لك، ولذلك تفسيران: الأول هو أن بعض هؤلاء المخرجين مقيمون فى الخارج ولديهم جنسية أخرى، والثانى أن هناك موجة جديدة من السينمائيين الشبان يبحثون عن مكان بعيدا عن السينما التجارية السائدة.. معظم هؤلاء حصلوا على جوائز متنوعة من مهرجانات دولية سابقة، ولكنهم لا يزالون مرفوضين فى مصر، وقد شاركت فى لجنة تحكيم المهرجان القومى الماضى ولجنة تحكيم مشاريع التخرج من معهد السينما وشهدت المقاومة الشرسة التى تلقاها هذه الأفلام من الأجيال القديمة. مع ذلك فالفن الجيد ينتصر فى النهاية حتى لو جاء عبر المهرجانات الأجنبية!