صعد درجات سلم منزله.. لاهثا متهالكا.. بل مهدودا تماما من فرط سخافات العمل وخنقة زحام المرور.. وضع المفتاح في باب الشقة.. ممنيا نفسه بطبق طعام ساخن ، ونوم قصير هادئ.. ولكن ما أن وضع قدمه داخل ردهة منزله حتي ظن أنه عاد إلي ميدان رمسيس.. زحام وصراخ ونداءات وبكاء أطفال.. كانت زوجته تصرخ في كل اتجاه.. وما أن رأته حتي حولت القذائف إليه « هذا مستحيل.. لابد أن تتصرف بحسم مع أولادك.. أنا زهقت.. تعبت.. الولد ضرب أخته وأصابها في ذراعها.. والآخر جاء من المدرسة وشهادة درجاته زفت، والطبيخ شاط علي البوتاجاز.. مش معقول أطبخ لكم كل يوم.. كرهت المطبخ ولا أطيق دخوله.. يجب أن تفكر في حل.. أنا أعمل زيك تماما ومرهقة أكثر منك.. وإنت ولا إنت هنا و.. و...» استقبل القذائف المتلاحقة في صمت.. علمته التجارب السابقة أن الصمت أحسن رد في مثل هذه الحالات.. اتجه إلي الثلاجة وأخرج علبة الجبن وصنع ساندويتشا لنفسه.. وحاول النوم.. ولكن لم يستطع ! عاودته ذكريات أمه عندما كان يعود من العمل.. فتستقبله روائح الطعام الشهي.. والسرير المرتب والهدوء اللازم للراحة.. كانت أيام !! تنهد بحسرة.. لم تكن أمه تشتكي من المطبخ.. بل كانت تعتبره مملكتها.. ترتبه وتنظفه وتبدل كل يوم في قائمة الطعام بزهو وفرح حقيقي.. وتفاخر جيرانها برائحة الطبيخ المسبك وتنافسهم في صنع الحلوي.. والمربات.. ودولاب المطبخ كان ممتلئا ببرطمانات المربي من كل نوع.. و« فشر» أكبر سوبر ماركت ! قرصه الجوع.. واشتهي شكل الطعام قبل مذاقه.. وقرر ألا يستسلم للذكريات والأمنيات.. فالجوع كافر.. ثم ما هي المعضلة في الطبيخ كل نساء هذه الأيام يشتكين من المطبخ ويتهربن من دخوله.. بينما الطبخ فن.. وهو فنان.. فلماذا لا يقتحم هذا المطبخ ويصنع ما يريد ! نزل إلي البقال.. اشتري كل أكياس الخضار المحفوظ.. وبالتحديد الأنواع التي يشتهيها والمحروم منها.. دخل المطبخ في لهفة وشوق ، كأي رسام عبقري أمام لوحة جديدة.. سيرسم أشهي طبق ويأكله.. لا.. بل سيدعو جميع من في البيت لأكله. تسلل باحثاً عن كتب الطهي التي اشتراها لزوجته.. بالتأكيد لم تفتحها.. ولم تقرأ منها شيئا.. ولكن أين هي ؟ الخبيثة ترقبه في تحد ، ولكن لن ينهزم.. صاحت في وجهه محذرة : « إياك أن تحول المطبخ إلي مزبلة» ! قال لها مهدئا : اذهبي أنت إلي التليفزيون واستريحي وعندما أنتهي سأدعوك لهذا العشاء الفاخر ».. نظرت إليه في استخفاف وهزت كتفيها وهي تلقي بآخر أوامرها « بعد أن تنتهي من هذه اللعبة السخيفة.. أريد كل شيء نظيف مرتب كما كان... سامع !» ازداد إصراراً.. وارتاح لهدوء المطبخ.. وبدأ يرسم.. لم تكن النتيجة سيئة تماما.. وأيضا لم تكن ناجحة تماما.. كانت نص نص.. والبداية دائماً تحتمل الأخطاء.. ولم يلحظ أبناؤه تلك الأخطاء.. ما عدا هذه الابنة الصغيرة التي تقلد أمها في كل شيء.. رفضت مثلها أن تمد يدها إلي طبيخه ، وقلدت حتي مصمصة الشفاه.. لا يهم! واصل تجاربه.. وعرف طريقه إلي محلات العطارة ينتقي أجود أنواع البهارات.. أحب المطبخ.. وبدأت زوجته تعترف بمهارته في الطبيخ.. واتسعت اعترافاتها مع الأهل والأصدقاء وإن كان يلاحظ بعض تعبيرات الدهشة والسخرية علي وجوههم.. لا يهم.. فلماذا الخجل إذا كان أعظم وأشهر فناني المطبخ من الرجال ! هل رأيتم سيدة واحدة تطبخ في مطعم أو فندق شهير.. ثم إن الرجال لا يشتكون كثيرا!! ولكن في ذلك المساء الذي كان يستعد فيه لصنع طبق جديد من الطعام.. فوجئ بزوجته ترتدي ملابسها الأنيقة وماكياجها الكامل.. وهي تودعه « سأسهر الليلة مع بعض صديقاتي.. هل تريد شيئا؟.. آه.. تذكرت.. لا تنسي أن ترتب غرفة الأولاد.. وتراجع واجباتهم المدرسية.. علي فكرة.. المكنسة الكهربائية في دولاب المطبخ.. خد بالك من سلكها المقطوع.. باي باي»!! فتحت باب الشقة وخرجت.. وهو مازال واقفا مكانه كتمثال شمع.. وحبات الأرز تتساقط علي الأرض من بين يديه!