تخيل أن 33 إنسانا يعيشون تحت الأرض علي عمق 700 متر منذ أكثر من شهرين، يشربون ويأكلون ويحصلون علي الأدوية والعلاج النفسي ويغيرون ملابسهم ويتحدثون في الموبايل ويتصلون بأهلهم عن طريق الفيديو.. بل إنهم يدخنون السجائر! لا تتخيل، فهذه المعجزة تحدث في تشيلي منذ شهرين، لكننا لم نقرأ عنها ولم نسمع عنها لأننا مشغولون بمظاهرات كاميليا والهتاف لها: «بالروح والدم نفديك يا كاميليا»، معركة حامية بين المسلمين والمسيحيين حول كاميليا ومن قبلها وفاء، وادعاءات بدخولهما الإسلام من قبل المسلمين وتأكيدات من قبل المسيحيين باختطافهما منذ البداية. نحن نهتف ونتظاهر ونقف أمام المساجد والكنائس وهم يفكرون ويخططون ويحاولون وينجحون في إنقاذ 33 عاملا انهار عليهم نفق في أحد مناجم استخراج النحاس والذهب في مدينة فقيرة في تشيلي، وليس في العاصمة، ورغم ذلك اجتمع في الموقع الوزراء والرئيس والأطباء والعلماء إلي جوار وكالات الأنباء ومحطات التليفزيون التي تتابع الحدث يوما بيوم، فهل تابعتم الحدث؟ أشك في ذلك لأنني سألت الكثيرين وأجابوا بالنفي، بل علقوا في استخفاف: «أنت بتعرفي الحاجات دي منين»؟ فنحن حين نشاهد التليفزيون لا نري دهس الأطفال الفلسطينيين تحت عجل سيارة مستوطن إسرائيل، ولا مقتل المدنيين الصوماليين بالطائرات الأمريكية، ولا حتي هدم المستوطنين الإسرائيليين لمسجد وحرق المصاحف في نابلس.. ولكننا نركز جدا في تهديد الرسام صاحب الرسومات المسيئة للرسول، وفي مروة شهيدة الحجاب، وتبادل السباب بين النواب والوزراء وخناقات هيفا وأخواتها حول بطولة مسلسل والقضايا المرفوعة علي المسلسلات والقضايا المنظورة بين الرياضيين. وأنا لا أقلل من اهتمامات الناس بقضايا بعينها، لكن أتعجب من قدرتنا علي الانغلاق علي الذات التي تتزايد بشكل مخيف، والتي أوصلتنا إلي العيش في جزر معزولة بأفكار ثابتة لا نسمح لأحد بمناقشتها، وفي تغليب عواطفنا الجياشة علي إعمال العقل وتقبل الأمر الذي يعيش معنا علي نفس الأرض، لا الأب يتقبل ابنه، ولا المسلم يتقبل المسيحي، ولا الحكومة تتقبل المعارضة، والعكس دائما صحيح. سأحكي لكم عن الحادثة التي تحدث في تشيلي وتأملوا لو حدثت عندنا ماذا كان سيكون رد الفعل والقرار! حدث انهيار النفق في المنجم 5 أغسطس فأغلق المنفذ الرئيسي الذي يمكن أن يخرج منه العمال، وفي 7 أغسطس وبينما يبدأون عملية الإنقاذ حدث انهيار صخري فأغلق فتحة التهوية، إلي هنا كان يمكن إعلان التوقف واحتساب المحبوسين تحت 700 متر شهداء في سبيل الله، كما حدث عندنا أكثر من مرة في انهيار عمارة أو سقوط صخرة الدويقة أو حدوث سيول في سيناء وأسوان. ولكنهم استمروا في الإنقاذ ولم يفقدوا الأمل واستعانوا بوكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» ليحصلوا علي نصائح حول نظام التغذية وأنواع الأدوية، وأعلنوا أن عملية الإنقاذ ستستغرق 4 شهور وجاء أهل العمال وأقاموا في الموقع «معسكر الأمل» حتي يكونوا مع أحبائهم كل لحظة، وحفرت فتحات للتهوية واخترعوا أنابيب لإدخال الطعام والشراب في شكل أقراص كما يحدث مع رواد الفضاء، ثم استطاعوا أن يدخلوا الطعام والماء والملابس المناسبة لدرجة الحرارة تحت الأرض، وأنزلوا كاميرات تمكن الأهل والمسئولين والعالم كله من الاتصال بالعمال من خلالها، وهكذا شاهدناهم يرددون النشيد الوطني لبلادهم في نفس اللحظة التي تحتفل فيها تشيلي بالذكري المائتين لاستقلالها والأسر فوق الموقع يرفعون العلم معبرين عن الانتماء الحقيقي لبلدهم التي لم تتركهم تحت الصخور يموتون ثم تصرف عدة آلاف لأهلهم تعويضا لهم، ووصل الأمر إلي تزويدهم بتليفونات للاتصال بأهلهم، بل بعلب سجائر ليدخنوا، ووقف الأطباء النفسيون يعالجونهم من الاكتئاب حين اكتشفوا أن ثلاثة منهم امتنعوا عن الأكل وعن التواصل. حين تقرأ هذه الحكاية سيكون العمال قد خرجوا سالمين ليذهبوا إلي المستشفيات لعلاجهم بدنيا ونفسيا بعد أن قضوا أطول فترة يمكن لإنسان أن يقضيها تحت الأرض. لعلها فرصة للتأمل والعودة إلي العقل ونسيان حكاية كاميليا التي لن تزيد من عدد المسلمين ولن تقل من عدد المسيحيين لأنها في الحالتين مصرية.. وربما تريد في هذه اللحظة أن تكون تشيلية.