إذا كان للفقر خط فعزبة الهجانة تحته بكيلومترات.. والطبلية الخشب مازالت موجودة ولمبات ووابور الجاز للتدفئة أيضاًعند مشاهدتنا لفيلم «جاءنا البيان التالي» شعرنا بالمبالغة عند رؤيتنا للممثل فؤاد خليل وهو يسبح في مياه المجاري وبررناها بطبيعة الفيلم الكوميدية، ولكن لن تصدقوا أن هذه المبالغة الفنية أقل بكثير من الواقع في عزبة الهجانة التي تبعد بضعة كيلومترات عن أرقي مولات وفنادق وأحياء مدينة نصر . عند آخر خط مترو مصطفي النحاس، ينتظرك التوك توك المواصلة الوحيدة لطلوع تبة الهجانة وفي الطريق لطلوع العزبة، كانت الدردشة مع محمد السائق عن مراسم الأحتفال بليلة رأس السنة في عزبة الهجانة والكيلو أربعة ونص . يقول السائق محمد «سأقضي ليلة رأس السنة أعمل علي التوك توك» ولكن ماذا يفعل أهل الهجانة في هذه الليلة؟ قال هناك من يحتفل بها نائما ومن يحتفل بها علي القهوة وهناك من يدخن سيجارة حشيش مع أقرانه سواء في الشارع أو علي القهوة أو في بيته وأثناء طلوعنا التبة لاحظت صوت زن متواصل وعند سؤالي علمت أن معظم البيوت مبنية تحت كهرباء الضغط العالي الآتية من السويس وصولا للقطامية !! وعند الوصول لقلب العزبة ، كان الناس مازالوا يعملون سواء في ورشهم أو محالهم والسوق مستمرة وكأن شيئا لم يكن وأكثر ما يلفت النظر منظر البيوت بعضها مبني والبعض الأخر من الصفيح والبعض من الخشب يشبه إلي حد كبير الصناديق الخشبية. وعلي باب سنترال صغير وقفت مجموعة من الشباب حاولت التحدث معهم بعضهم رفض ذكر أسمه ورفض الكلام من الأصل وتشكك في هويتي وقال بالنص "أحنا مافيش حد بيسأل فينا "لا صحافة ولا تلفزيون وعند إنصرافي إستوقفني أحدهم وقال لي أنا مش ححتفل برأس السنة النهاردة لأن عندي شغل بكرة حخرج أحتفل بيها وعندما سألته عن أمنياته قال إن نفسه كل حاجة تتغير وتبقي كويسة وإنه ليست لديه أمال خاصة به فلديه الشقة والعروسة . الهجانة تحتها مجاري وفوقها ضغط عالي انتقلنا إلي أعماق الهجانة حيث العشش القائمة فوق التبة والتي يطلقون عليها «بيوت» فوقها كابلات الضغط العالي وتحتها برك من مياه المجاري ذات الروائح التي تزكم الأنوف ومقالب الزبالة التي تتراكم فيها القمامة بأرتفاع متر وداخل هذه البيوت نوع من الحياة يستحيل علي أي عقل بشري أن يصدق وجودها ففي داخل هذه البيوت يسكن الأنسان بجوار الدواب سواء الحمير أو الكلاب الضالة وعلي أفضل تقدير تبعد عنه بمسافة لا تزيد علي متر ويستخدمون أدوات عفا عليها الزمن منذ أكثر من قرن فهناك مازالوا يغسلون ملابسهم في الطشت علي طريقة نانسي عجرم ولكن شتان بين الوجوه ! ويطبخون علي الوابورات ويستخدمون الجاز وأبر تسليك «فونية» الوابور هل تتذكرونها!! ويتغطون ببطاطين مهترئة كالحة اللون ومعظم البيوت ليس بها كهرباء ويستخدمون لمبة الجاز مقاس عشرة والسهاري مقاس خمسة وكذلك لا يوجد مياه في كثير من المنازل ويقومون بملء المياه من حنفية عمومية أو من بعض جيرانهم الذين لديهم ماء ومعظم الكهرباء مسروقة من كهرباء الضغط العالي بأعترافهم .. هل تتخيلون الكارثة؟! وفي أحد المنازل الصغيرة جدا والمكونة من غرفة واحدة يعيش عبد العزيزصدقي أب لثلاثة أطفال بياع أدوات حفر "البسيطة مثل الأجنة وغيرها " يقول: رأس السنة يوم زي كل يوم لن أعمل فيه شئ، وعن أمنياته أحلم أن الحكومة تشيل" الضغط العالي "من فوق المنازل لأن الكابلات أحيانا تسقط علي المنازل وتسبب حرائق وعندما واجهته أنهم قاموا بالبناء تحتها وأنها كانت موجودة من الأول ...اجابني أنه ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه .. وفي أحد المحال، كانت مجموعة شبان تقوم بعمل تندة لمحل جديد وعندما سألتهم عن أحتفال رأس السنة ردوا علي سؤالي بسؤال ساخر يعني نعمل إيه ؟ وأجاب رجب "اللي زينا يوم ما يحتفل يشتري لتر بيبسي وشوية لب علي سوداني ويتفرج علي التلفزيون لكن "الشغل اهم هو اللي بيجيب المم "الأكل ". وبعد جولة صغيرة في العزبة كانت رحلة العودة مع محمد سائق التوك توك وسألته فين الستات يا محمد أجابني نايمين يا أبلة الستات هنا بيناموا من العشا ويصحوا بدري معظمهم يعمل في الاسواق ونسبة العمالة فيهم مرتفعة جدا ..وسرحت دون أن أشعر في حفلات راس السنة في الفنادق الكبري والمنتجعات السبع نجوم والتي تتراوح ثمن التذكرة فيها من ألف جنيه إلي ألف دولار وسيدات المجتمع الراقي وفساتين السهرة الذي يبلغ ثمن الواحد منها عدة آلاف جنيه من الممكن أن يبدأ بها شاب من شباب العزبة مشروعا وشتان مابين رائحة المجاري الممزوجة بدخان عادم الجاز وبين أفخر انواع العطور الباريسية والسيجار الكوبي .. وفعلا مصر تحولت إلي مجتمعين.. مجتمع يتمتع بكل شيء.. ومجتمع محروم من كل شيء.