تجري في هذه الأيام محاولة لإعادة اكتشاف أديبنا نجيب محفوظ.. باعتباره كاتبا للقصة القصيرة.. ليعيش أدبه عصر الرسائل القصيرة، علي الموبايل وشبكة الإنترنت.. في المرحلة التي خلع فيها نجيب محفوظ ثوب المؤرخ الاجتماعي.. وارتدي ثوب المفكر الصوفي.. وهو يكتب مجموعة قصص «دنيا الله»، ثم اللص والكلاب والطريق والشحاذ.. التي لم تكن روايات تصور حياة أبطالها.. بقدر ما كانت تعبر عن أزمة يتطلع فيها الإنسان للحقيقة.. في دنيا حافلة بالأضرحة والتكايا والخوانق الصوفية.. وفي هذه المرحلة كان نجيب محفوظ يبحث عن نفسه.. حتي وجدها بعد هزيمة يونيه «تحت المظلة».. فيما قل ودل من إشارات علوية وأناشيد صوفية.. وانتقل من مرحلة «ألف ليلة» ذات الثوب الفضفاض.. إلي مرحلة «كليلة ودمنة» التي تعبر عن الحقيقة في حكايات قصيرة. وعندما نشر الملحق الأدبي لجريدة «الأهرام».. قصة من أدب أمريكا اللاتينية.. قام بترجمتها الأديب الموهوب «محمد إبراهيم مبروك».. إلي جانب قيامه بالترجمة عن الإسبانية.. لمجموعتين من عيون القصص في أدب أمريكا اللاتينية.. كان ذلك احتفالا مبكرا بالذكري المئوية لميلاد نجيب محفوظ.. يصل ما انقطع بين «مظلة» نجيب محفوظ.. والواقعية السحرية في قصص «جارسيا ماركيز» وجرأة نجيب محفوظ وهو يقتحم أخطر القضايا.. وطارق بن زياد وهو يحرق السفن.. ومصارع الثيران وهو يغمد سيفه في الثور الهائج.. و«كولومبس» وهو يحمل دماء طارق ودموع آخر سلاطين العرب.. في السفينة التي اكتشف بها القارة الجديدة.. لتتحول إلي مداد في أقلام أدباء أمريكا اللاتينية. استطاع الأديب الموهوب «محمد إبراهيم مبروك» أن يعيدنا إلي المرحلة التي انفتحنا فيها علي ثقافات العالم.. التي كان فيها البرنامج الثاني في الإذاعة.. ومجلة «المجلة».. يقدمان لنا الثقافة الرفيعة.. وفي هذه المرحلة كان الأديب يؤثر ويتأثر بمن حوله.. ويعيد اكتشاف نفسه.. ويتطور من مرحلة إلي مرحلة أكثر نضجا.. حتي أصبح شوقي أميرا للشعراء وطه حسين عميدا للأدب.. وتوفيق الحكيم يمسك بالصولجان.. وبلادنا يحكمها حزبان.. حزب للعقاد وحزب لطه حسين.. والمعارك الأدبية لها جمهور يفوق جمهور المباريات الكروية. تذكرنا كيف كنا نلتهم رواية «دون كيخوتة» لسرفانتس، ونتزاحم لنشاهد مسرحيات لوركا.. ونحفظ عن ظهر قلب أندلسية شوقي.. ونعلق علي الجدران صورة جيفارا.. ولوحة «الجيوكاندة» لبيكاسو.. ونردد أشعار «بابلو نيرودا» شاعر شيلي.. ونحن ندق الأرض بكعوب أحذيتنا في رقصة «فلامنكو».. ونخوض معركة الأدب الجديد في مواجهة الأدب القديم.. بجرأة «الميتادور» في حلبة مصارعة الثيران. إن من يتأمل قصة «زعبلاوي» في «دنيا الله» لنجيب محفوظ.. يدرك أنها تمت بصلة القربي للواقعية السحرية في الأدب الأندلسي.. وثمانية قرون عاشها العرب في الأندلس.. قامت خلالها منافسة حضارية بين بغداد في المشرق.. وقرطبة في المغرب. وعندما يفتح أمامنا «محمد إبراهيم مبروك» نافذة قرطبة.. فهو يدعونا إلي إعادة اكتشاف تراثنا.. ونحن نعيد اكتشاف أديبنا نجيب محفوظ.. لنعيش من جديد عصر النوافذ المفتوحة علي الثقافات.. وعصر حوار الثقافات.. بدلا من ثقافة الإعلانات التي تبثها الفضائيات.. ونخرج من عزلتنا كما فعل «ابن بطوطة» عندما قام برحلاته من أقصي المغرب إلي أقصي المشرق. في الذكري المئوية لنجيب محفوظ.. لابد أن نقوم برحلة أندلسية.. نستمع فيها للموشحات ونسكن في قصر الحمراء.. ونلتقي فيها بابن طفيل.. ونقرأ قصته حي بن يقظان.. ونجدد ذكري ابن رشد فيلسوف العقل في المغرب.. كما احتفل طه حسين بأبي العلاء المعري فيلسوف العقل في المشرق.. حتي نزداد فهما لأنفسنا.. ومعرفة بحاضرنا.. ورؤية لمستقبلنا.. ونحن نخوض مع الغرب معترك حوار الثقافات.