وأنا طفل صغير كنت أدقق كثيرا فى ملامح عبدالله فرغلى الذى يقف خلف نظارة سميكة لا تستطيع مطلقا أن تحدد شكل عينيه، وكنت أخافه وأخشى الحديث إليه ظنا منى أنه جاد أكثر من اللازم لا يميل إلى الهزار ولا يحب الدعابة، لكننى بمرور الوقت أدركت كم كان ظنى إثما فأنا لم ألتق بمخلوق فى رحلة الحياة أحب الحياة وعاش الحياة وضحك لها وعليها كما فعل عبدالله فرغلى، وهو لم يكن كوميديانا يضحك الناس فقط، لكنه كان بالنسبة لزملاء المهنة مثل الفاكهة جميلة الطعم الزكية الرائحة، ووجود عبدالله فرغلى فى كواليس أى عمل فنى يضمن للإبداع أرفع منحنى بيانى له، ذلك لأن العملية الفنية أو بالأصح كواليس العمل الفنى تنضح عليه وتظهر، فإذا كانت العلاقات خلف الكواليس طيبة وعلى ما يرام كان الأداء على خشبة المسرح أو أمام الكاميرا كما ينبغى له أن يكون وكان عبدالله فرغلى عنوانا للبهجة وضامنا للجودة وعلامة على حسن الاختيار لأى عمل فنى، وأذكر أن وجود عبدالله فرغلى فى مسرحية «زقاق المدق» التى كتبها الراحل الرائع بهجت قمر ولعب بطولتها العم صلاح السعدنى ومعالى زايد، وكان ذلك فى بداية الثمانينيات كان عبدالله فرغلى فى غرفته داخل الكواليس هو الممر والمقر للجميع، فالكل يلتقى عنده والكل لا يغادر إلا من مقر إقامته، والجميع يستمع إلى عبدالله فرغلى إذا تكلم، فهو عندما يتكلم يتحول إلى صائغ يجيد رص جواهر الكلام وضمها إلى بعضها البعض ليخرج لنا فى النهاية تحفة فنية لا يضاهيها أحد، ولا يستطيع أن يأتى بمثلها غيره، فهو مضحك عام على وزن مدير عام وهو صديق يصدقك القول ويسدى النصح لمن يحب ويكرس جهده لحل مشكلات الآخرين، ويعطل مصالحه إذا اقتضى الأمر لصالح عمل فيه خير لزميل أو لصديق، وكان عبدالله ضيفا دائما على صالون بهجت قمر الفنى والثقافى فى شارع الدقى لم ينقطع عنه إلا عندما غيب الموت بهجت قمر وكان بهجت قمر أحد ظرفاء عصره وأوانه، لكنه كان إذا جاء عبدالله أراد أن يمتع نفسه ويبهج روحه بما يقول عبدالله فرغلى فيترك له ساحة الكلام ليصبح المبارز الأوحد والمتكلم الوحيد، وكان عبدالله يحيى ليالينا بما يمتعنا به من ذكرياته الأولى مع فرقة الفنانين المتحدين التى ارتبط بها فنيا وظهر من خلالها، ونجح معها واكتشفنا أن الفرقة قدمت لنا من جلائل الأعمال ما لم يسعدنا الحظ بتسجيله، ومع شديد الأسف كانت رواية «زقاق المدق» هى إحدى التحف المسرحية التى لم تسجلها الفرقة لظروف خارجة عن إرادة فرقة الفنانين المتحدين، واليوم هاهى ورقة أخرى من الشجرة المثمرة عظيمة الظلال تسقط منبئة بخريف كئيب ينتظرنا بفضل رحيل أناس زينوا الحياة وجملوها وأسعدوا من حولهم وأشاعوا بهجة غير مسبوقة فى النفوس، يا عم عبدالله رحيلك عزيز علينا جميعا، لكن العزاء الوحيد أن ما تركته من أعمال سيضمن لك البقاء معنا مادامت دولة الفنون بخير.. رحمك الله وأسكنك فسيح جناته!