عندما تدخل فى مناقشة عبثية لا معنى لها مع زميل أو صديق أو قريب، وبعد أن تدوخ السبع دوخات من هذا العبث الكلامى لابد أن تنهى ذلك العبث باستعادة المثل الشعبى الرائع جداً والجميل جداً والمعبر جداً وهو: «نقول طور يقولوا احلبوه»!! أستعيد هذا المثل كثيراً عندما أشاهد الفضائيات أو أقرأ الصحف، لكن نجوم الصحافة والفضائيات من محترفى الكلام الجامد والزعيق والصراخ لا يعترفون بصحة هذا المثل بل يؤمنون ويؤكدون لك علمياً وطبياً بل وربما سياسياً أن «الطور يجوز حلبه»!! خذ أى مسألة أو قضية محسومة، حسمها العلماء والخبراء والفاهمون على مدار سنوات من التعب العقلى والجهد الفكرى والدراسة والتحليل، وبعد أن تظن أنها أصبحت من المسلمات أو البديهيات، فجأة تعود من جديد، ليدور حولها النواح والصياح والصخب والمزايدات الكلامية والعنتريات الكاذبة التى ما قتلت ذبابة!! خذ عندك قضية التعليم، وكل هذا الجدل الدائر حولها، ومناقشات عبثية بلا طائل، لقد كان التعليم قبل الثورة مسئولية وزارة اسمها «وزارة المعارف»- أى توصيل المعرفة والمعارف إلى عقول التلامذة بصدق وإخلاص دون دروس خصوصية أو مجاميع خاصة أو سناتر أو.. أو، وكانت الدنيا عال العال!! ثم تغيرت الدنيا والأحوال وتغير اسم الوزارة من وزارة المعارف إلى وزارة التربية والتعليم أى أن حكومة الثورة قررت أن تكون مهمة الوزارة التربية بالإضافة إلى التعليم، وهكذا استراح الآباء والأمهات من عبء تربية أطفالهم ومشاكلهم، فلماذا تتعب الأسرة نفسها فى تربية الأبناء مادامت الحكومة تتولى هذه المهمة العظيمة. وفجأة صحونا جميعاً على الحقيقة الصادمة والواضحة والفاضحة أيضاً، إنه لا تربية ولا تعليم، بل المهم تستيف الورق، المهم الشكل لا المضمون، المهم الكلام المزوق لا الفعل الحقيقى، المهم ندوات عن تطوير التعليم لا تطوير التعليم نفسه، المهم الكلام عن دراسة نظام الامتحانات لا الامتحانات نفسها، المهم الاحتفال بعيد المعلم لا الحفاوة بقيمة المعلم الذى كاد أن يكون رسولا!! كم سنة ضاعت من عمر وحياة وزراء التربية والتعليم فى مصر وهم يناقشون ويبحثون أحوال التعليم التى لا ترضى أحدا، وكم وزير أنفق الشهور والسنوات فى تكليف مستشاريه بإعداد دراسات عن المناهج التى يدرسها التلاميذ وبيان ما بها من عبط وسخافة وتخلف، وأين ذهبت آلاف الأوراق والدراسات والتوصيات التى احتشد لها ومن أجلها آلاف الخبراء والباحثين لإنقاذ التعليم بمناهجه ومضمونه. على أيامنا كانت الدروس الخصوصية عاراً وفضيحة للطالب، وكان الطالب الذى يأخذ دروساً خصوصية يتحاشى أن يعلم زملاؤه بهذا الأمر حتى لا يعايروه!! لم يحدث أبداً أن رأينا أساتذتنا- ولو بطريق الصدفة أو الخطأ- يدخنون داخل المدرسة ولا أقول داخل الفصول!! لم يحدث طوال الدراسة فى المرحلة الثانوية أن رأيت زميلا لى يدخن، كان ذلك من المستحيلات. لم يحدث أبداً أن اعترض طالب على معلمه أو أستاذه إذا وبخه أو نهره، لأنه لم يحل الواجب أو أخطأ فى شىء ما، كنا نتقبل العقاب لأننا نستحق العقاب، ولم يحدث أن ذهب ولى أمر أحدنا إلى قسم البوليس ليشكو الأستاذ لأنه وبخه أو نهره!! كنا نتعلم بجد، ونذاكر بجد، ونلعب بجد، وننجح بجد!! فما الذى جرى لنا بالضبط؟! لماذا لم يعد التعليم بجد، ولا المذاكرة بجد، ولا اللعب بجد ولا النجاح بجد، بل أصبح كل المطلوب هو الحصول على الشهادة. كيف تغيرنا جميعاً ووصلنا إلى هذا النحو الذى لا يرضى أحداً على الإطلاق؟ فلا وزير التربية والتعليم مبسوط، ولا المدرسين مبسوطين، ولا أولياء الأمور مبسوطين، ولا التلاميذ مبسوطين من التعليم كله أو جدواه أو فائدته؟! إن كل الأطراف راضية ومبسوطة- فى نفس الوقت- من وضع غريب جداً، فالوزارة تنفق ملايين الجنيهات على الكتب الدراسية ليتسلمها الطلاب ويستعيضوا عنها بالكتب الخارجية وقرب الامتحانات يستعينون بالملخصات المكثفة، كيف يتحول الكتاب المدرسى الذى عدد صفحاته حوالى مائة وستين صفحة بقدرة قادر إلى ملزمة من حوالى 16 صفحة تضم كل المنهج!! طافت كل هذه المعانى والذكريات برأسى عندما قمت بزيارة سريعة إلى بنى سويف حيث ولدت وتعلمت وكبرت، ومررت بالصدفة أمام مدرسة النيل الإعدادية والثانوية، حيث تعلمت، وجدتنى أستعيد أجمل وأغلى الذكريات من أساتذة عظام وزملاء أعتز بصداقتهم حتى اليوم، وفى نادى بنى سويف الرياضى تجددت الذكريات حيث أقيم حفل لتكريم أبناء المحافظة من الإعلاميين كان صاحب فكرته الصديق العزيز الأستاذ «جابر سليم» رئيس النادى، وكانت المفاجأة أن ألتقى الرائع الجميل الصديق العزيز «هادى فهمى» رئيس اتحاد كرة اليد، والصحفى والمذيع اللامع «سيد على» والإعلامى «عمرو الشناوى» وغيرهم من الأسماء اللامعة. لقد اندهش «هادى فهمى» من روعة وأناقة ونظافة نادى بنى سويف- الذى كان ذات يوم بعبع الأهلى والزمالك- وقال خسارة ألا يكون هذا النادى فى الدورى الممتاز؟! ووجدتنى أقول له: وخسارة أن يكون تعليم هذه الأيام على هذه الصورة!! أفقت من خواطرى على أغنية كوكب الشرق أم كلثوم وهى تشدو: وعايزنا نرجع زى زمان قول للزمان ارجع يا زمان!! معاك حق يا ست نقول طور يقولوا إحلبوه!!