الجرام يسجل أقل من 3900 جنيها.. أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة بعد الانخفاض الجديد    «واشنطن».. البنتاجون يقيل رئيس وكالة استخبارات الدفاع    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    ملف يلا كورة.. خطة انتخابات الأهلي.. رسائل الزمالك.. واعتماد لجنة الحكام    طائرات الإحتلال تستهدف المنازل في حي الزيتون بقطاع غزة    الأمم المتحدة تعلن المجاعة رسميًا.. ماذا يحدث في غزة؟    محمد النمكي: الطرق والغاز جعلت العبور مدينة صناعية جاذبة للاستثمار| فيديو    أهداف إنشاء صندوق دعم العمالة غير المنتظمة بقانون العمل الجديد    مصرع طالب صعقًا بالكهرباء أثناء توصيله ميكروفون مسجد بقنا    «مياه الأقصر» تسيطر على بقعة زيت فى مياه النيل دون تأثر المواطنين أو إنقطاع الخدمة    عصابات الإتجار بالبشر| كشافون لاستدراج الضحايا واحتجازهم بشقق سكنية    رحيل الفنانة المعتزلة سهير مجدي.. فيفي عبده تنعي صديقتها وذكريات الفن تعود للواجهة    حنان سليمان: كفاية دموع.. نفسي في الكوميدي| حوار    نوال الزغبي: ضحيت بالفن من أجل حماية أولادي بعد الطلاق    أبطال فيلم "وتر واحد" يشاركون ويجز تألقه على مسرح العلمين    «الشمس هتغيب قبل المغرب».. كسوف الشمس الكلي يظهر في سماء 9 دول بهذا التوقيت    تنسيق دبلوم التجارة 2025.. قائمة الكليات والمعاهد المتاحة لطلاب 3 سنوات «رابط وموعد التسجيل»    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل.. وهذه أسباب تفضيل البعض للخاصة    سعر السمك البلطي والكابوريا والجمبري في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    «عايز أشكره».. آسر ياسين يصعد على المسرح خلال حفل ويجز بمهرجان العلمين.. ما القصة؟    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    فيفي عبده تعلن وفاة الراقصة المعتزلة سهير مجدي    «الأستانلس أم التيفال»: هل نوع حلة الطبخ يغير طعم أكلك؟    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    أطعمة تسبب الصداع النصفي لدى النساء ونصائح للسيطرة عليه    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    الإنتاج الحربي يستهل مشواره بالفوز على راية الرياضي في دوري المحترفين    في مباراته ال 185.. إصابة حكم باريس سان جيرمان وأنجيه    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    بوتين: واثق أن خبرة ترامب ستسهم في استعادة العلاقات الثنائية بين بلدينا    العملاق مدحت صالح يبدأ حفله بمهرجان القلعة بأغنية "زى ما هى حبها"    وزير الخارجية الأردني: على إسرائيل رفع حصارها عن قطاع غزة والسماح بإيصال المساعدات    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    أول تعليق من النني بعد فوز الجزيرة على الشارقة بالدوري الإماراتي    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    سليم غنيم يحافظ على الصدارة للعام الثاني في سباقات الحمام الزاجل الدولية    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    المنوفية تقدم أكثر من 2.6 مليون خدمة طبية ضمن حملة 100 يوم صحة    صحة المنوفية تواصل حملاتها بسرس الليان لضمان خدمات طبية آمنة وذات جودة    كتر ضحك وقلل قهوة.. طرق للتخلص من زيادة هرمون التوتر «الكورتيزول»    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 23 أغسطس 2025    ظهور مفاجئ ل «منخفض الهند».. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: القاهرة تُسجل 40 مئوية    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    ثورة جديدة بتطوير المناهج «2»    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اعتذار متأخر لرجل محترم
نشر في صباح الخير يوم 06 - 04 - 2010

أعتذر مقدما عن خيالي الغريب الذي يدهمني كثيرا هذه الأيام.. يبدأ هذا الخيال من رؤيتي لعدد محدود من أصحاب الملابس الشديدة الأناقة التي تحمل أسماء محلات عالمية تزدحم بها ثلاثة شوارع أولها في روما واسمه فيافينتو، وثانيها في باريس واسمه فوبور سان أونير، وثالثها في نيويورك واسمه الشارع الخامس، وعندما تدخل محلا من تلك المحلات ستجد الأسعار وهي ترتفع عن مستوي خيالك..
لكن أصحاب هذه الملابس هم من يقومون في خيالي بمحاولة نزع الخريطة المصرية أو العربية من موقعها في قارتي آسيا وأفريقيا كي يكرمشوا تلك الخريطة في أيديهم ويريدون تحويلها إلي عملات قابلة للإيداع في بنوك سويسرا أو لندن أو باريس أو نيويورك.. ولكن الخريطة المصرية والعربية تقاوم الكرمشة، ويمكنك أن تلحظ تلك المقاومة في شكل البطاطين المتراصة أمام مجلسي الشعب والشوري والتي يتجمع فيها بشر لا يهتمون لا بالدكتور البرادعي ولا بالانتخابات القادمة ولا بنواب القمار أو نواب سميحة أو نواب المحظورة، ولكن يهمهم أن يقولوا لكل من آمن بسياسة الخصخصة «والله حرام عليكم اللي عملتوه فينا»، ولكن من آمنوا بسياسة الخصخصة وفتح أبواب الاقتصاد المصري نسوا أنهم فعلوا ذلك متجاهلين ما دفعه المصريون العاديون في عمر أفندي مثلا من أيام أن كان مجرد محلين اثنين، يملكهما خواجة اسمه أورزدي باك، إلي أن صار شركة متعددة الفروع في أنحاء مصر من أقصاها إلي أقصاها، ليأتي رجل سعودي يشتريها ويوقع عقودا يعلم أنه سينقضها عن طريق دهاليز القوانين، ثم يترك العاملين بعمر أفندي في مهب رياح المعاش المبكر، ثم يجد من يدافع عنه، علي الرغم من أن عمال عمر أفندي لو انتبهوا إلي إنسانية الملك عبدالله خادم الحرمين الشريفين، وكتبوا له شكوي جماعية، لجاء بمن اشتري عمر أفندي وأمره بأن يعيد الشركة كلها إلي الحكومة حتي لا يتحمل مواطن سعودي ذنب تشريد وتجويع_ ولا أقول نهب _ عرق وجهد عشرات السنين من عشرات المئات من العمال، ولسوف يفعل خادم الحرمين ذلك مادامت دهاليز حكومتنا المحروسة لا تؤمن بأن من حق «حمادة» وهو الطفل المصري الفقير في بيجامة تسترته وحذاء يمشي به من إنتاج القطاع العام، هذا القطاع الذي صان كرامة مصر فدخلت أكبر حرب صانت كرامة الأمة العربية من محيطها إلي خليجها، ولكن جاء أبناء مدرسة شيكاغو الإقتصادية المؤمنين بأن العولمة هي الكنز الذي لايفني، وأن استنزاف المصريين حق، وقد استطاع أبناء تلك المدرسة التغلغل في الاقتصاد المصري ليتم تفجير مصانعه من داخلها، لتتحول إلي خردة، ثم تتلطف السيدة عائشة عبدالهادي وزيرة العمل بعمال تلك المصانع، فتتعطف عليهم بمنحهم بعضا من مدخرات جمعوها هم عبر السنوات، فتبدو السيدة كمحسنة كريمة، بينما تفرح تلك القلة التي تتجمع في أياديها مفاتيح الثروة، ويتجهون إلي الثلاثة شوارع المذكورة في روما أو باريس أو نيويورك، ليشتروا ملابسهم، ويعودوا إلي الداخل كي يقيموا أفراحهم وليالي ملاحهم باستيراد الطعام من باريس ولندن وروما، ولا مانع عندهم بعد ذلك من مناغاة كلمتي «الديمقراطية» أو «الحرية» دون أن يلتفتوا إلي أن الكلمتين لعبتا في أواخر القرن العشرين دور أكبر عاهرتين علي مر التاريخ، ومن يرغب في معرفة القواد المستفيد من عرق هاتين العاهرتين فلينظر إلي قاعدة العديد الموجودة بجانب قناة الجزيرة، أو قاعدة بجرام العسكرية التي تحرس تجارة المخدرات التي يقوم بزراعتها من يدعون أنهم خصوم، وأعني بن لادن وجماعته وكرزاي وحكومته، فقد كانت هناك ديمقراطية وصناديق انتخابات، تماما كما كان في العراق ديمقراطية وصناديق انتخابات أطل منها شبح الخوميني وهو يقول للعراقيين: «قلت لكم وأنا أوقع السلام مع صدام حسين أني أبلع العلقم، وسأذيقكم إياه بعد سنوات».
كل تلك الأفكار تمر بي كل يوم، وواساني فيها كتاب وقع في يدي كتابا بعنوان «محمد سيد أحمد.. لمحات من حياة غنية» قامت بإعداده وتحريره الأستاذة مني عبد العظيم أنيس مديرة تحرير الأهرام ويكلي، وقدم له الأستاذ العلامة في التاريخ المصري والعربي محمد حسنين هيكل، هذا الذي يختلف معه من شاء ويؤيده من شاء، ولكني لن أنسي أبدا ملامح أستاذي فتحي غانم الروائي الشهير وأحد المؤسسين لهذه المطبوعة صباح الخير، وهو من زامل محمد حسنين هيكل لسنوات بمؤسسة أخبار اليوم، سألت فتحي غانم ذات يوم ونحن جلوس في حجرة الحاجة سعاد رضا العضو المنتدب السابق ل«روز اليوسف» «بما أنك عاصرت وزاملت محمد حسنين هيكل قل لي ما هو مفتاحه بالضبط، وكيف بني تلك المكانة المرتفعة عن كل أبناء جيله؟» أجابني فتحي غانم بمودة الأستاذ للتلميذ المحب: «مفتاحه كلمة واحدة هي العمل، فحياته كلها مرصودة لعمله الصحفي، وترفيهه مرصود حتي لعمله، وكان من المستحيل ألا يحقق ما وصل إليه»، فقلت لأستاذي فتحي غانم «وخسرنا نحن بإنغماسه في السياسة روائي نادر الوجود»، وأخذ أستاذي كلماتي بمحبة لمدي تقديري لاتساع قدرات هذا العملاق الذي مهما ترصده خصومه حتي يثبت من جديد جدارته بالرؤية، وعندما تتعدد الرؤي فالمستفيد أخيرا هو القارئ.
وكل ما فات هو مقدمة لاعتذار كان يجب أن يسمعه مني محمد سيد أحمد وهو حي، ولكنه للأسف مضي إلي النهاية، وكلمات الأستاذ هيكل في مقدمته للكتاب تصلح مقدمة لهذا الاعتذار المتأخر، حيث يقول: «إن دور كل كاتب أصيل وكل مفكر خلاق يظل شعاعا في المستقبل، وليس كفنا في الظلمات. ثم دعوني _ مشيرا إلي نجم يلمع بعيدا عند حافة الأفق_ أقول له معكم: تحرك في مدارك فنحن نراك.. وتكلم عبر كتابك فنحن نسمعك».
فماذا في كتاب محمد سيد أحمد؟
من البداية أعترف بصعوبة تلخيص الكتاب كاملا، فمن ذا الذي يستطيع تلخيص رحلة كائن صادق مع نفسه، قد ينتقل من موقف إلي ما تخيل أنه موقف مضاد ولكنه ليس كذلك، بل هي المراجعة وممارسة الصدق مع النفس ومع الفكرة والموقف. من السهل أن نقول أنه سليل عائلة ثرية، ومن السهل أيضا أن نروي كيف اعتنق أفكار الماركسية أثناء دراسته الثانوية في المدرسة الفرنسية ببورسعيد أثناء تولي والده منصب المحافظ لها في عام 1946، ومن السهل أن نراه مؤمنا مضحيا بكل ما يحرص عليه أي كائن من أهل الإيمان، منذ بداية تاريخ فكرة الإيمان علي الأرض، فالمؤمن حقا هو من يربط إيمانه بالعمل، وهو في نفس الوقت القادر علي نقد نفسه وظروفه ومراحل نموه ومسار اتجاهاته، فهذا المؤمن بالماركسية وابن الذوات يهب حياته كلها من أجل العدالة والحرية معا. وهو في نفس الوقت رفيق أيام لأساتذتي منهم من أحببتهم علي الرغم من أني لم أكن ماركسيا في يوم من الأيام، ومن الماركسيين من نظرت إليهم نظرتي إلي أهل الجمود من السلفيين أتباع جماعة الإخوان المسلمين، فالجمود أيضا واحد في كل المذاهب والإتجاهات حيث يفترض الجامد فكريا أنه وحده مالك الحقيقة المطلقة، وفي يديه موازين الخير والعدل وعليك أن تسلمه مخك ليجعله كعجينة الفلافل يلقيه في زيت جموده ليقدمه لك مخا غير صالح للاستخدام الآدمي.
ولأني لم أعرف محمد سيد أحمد في ردهات روز اليوسف وقت ازدحام أروقتها بالماركسيين من أهل الجمود أو أهل الإيمان بأن الإنسان حر حقا وصدقا مثل الفنان حسن فؤاد مؤسس شكل هذه المطبوعة، لذلك لم تتح لي فرصة ملاقاة الرجل أو التعرف عليه عن قرب. وعندما كنت أراه في لقاءات السيد رئيس الجمهورية مع الأدباء والمثقفين بمعرض الكتاب، كنت أتوقف عند الإعجاب الشخصي الذي يكنه الرئيس مبارك لهذا المفكر؛ وهو من كان يسمع له لآخر كلمة يقولها، ويسأل عنه إن تخلف عن اللقاء.
وتدور الأيام لأجد اسمه مرة في قائمة من يؤيدون اتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين وبين الإسرائيليين، ثم أقرأ له نقدا لتلك الإتفاقية؛ فأري في كلماته عميق احترام للدم الفلسطيني الذي ما زال يراق. ولكني لا أفهم لماذا وافق أولا ثم اعترض ثانيا؟! ولأني واحد ممن تستبد بهم حيرة هائلة من تجمد فكرة القومية العربية تلك التي بزغت كضوء ساطع يملك إرادة لا قبل لأحد علي مقاومتها في عام 1956 أثناء مواجهة مصر للعدوان الثلاثي عليها، ثم انتقالها إلي مرحلة الحلم بالوحدة العربية التي تحققت علي الورق بين مصر وسوريا في عام 1958 ثم تكسرت علي ضوء توهج شخصية عبد الناصر التي لا تقبل معارضة لها، ثم اتجهت مصر من بعد ذلك إلي تصنيع نفسها وبناء سدها العالي، ولم تكن إسرائيل أو الولايات المتحدة التي تري مصر حجر عثرة في سيادتها علي الشرق الأوسط، لم تكن كل من الدولتين تخشيان شيئا إلا ما كان يحلم به المصريون مع جمال عبد الناصر وهو بناء خطة تنمية توفر انتاجا وتزرع أرضا وتعلم الأبناء.. ومازالت خطة التنمية الأولي في عهد عبد الناصر هي العلامة البازغة علي أن عائدها كان يزيد علي ستة بالمائة تم توزيع العائد منها علي مجموع المصريين، ومهما قيل عن المعتقلات أو السجون أو التعذيب، فكل تلك حكايات تمس فئة تقل عن نصف بالمائة من المصريين، ومن هذا النصف في المائة من تزاوج مع بعض ممن عملوا مع جمال عبد الناصر وصاروا قططا سمانا ثم حيتانا، ثم ديناصورات يتم تحريك أهوائهم عبر قنوات إعلامية في عصر شديد الإرباك، بينما يتم عصر مجموع المصريين في الخريطة التي تحاول تلك الديناصورات كرمشتها وتحويل سكانها إلي مجرد عجين، بينما تمشي الديناصورات في الثلاثة شوارع التي حكيت عنها «فيا فينتو» بروما، وفوبور سان أونير بباريس، والشارع الخامس في نيويورك، لشراء ما يحتاجون من ملابس، ويضاربون في بورصات العالم، بينما يترنح عدد لا بأس به من المصريين أمام مجلسي الشعب والشوري مطالبين بالحد الأدني من الكفاف.. ثم يسمعون عن نائب القمار وتهريب المحمول وأكياس الدم الملوثة، وتجارة الأراضي غير المشروعة، وتحزيم العاصمة لا بالعشوائيات فقط، ولكن بشركات عالمية لجمع القمامة تحزم بدورها محافظتي القاهرة والجيزة في أكوام من القمامة، ليقال أن تلك الشركات عالمية ويمكنها أن ترفع علينا قضايا تحكيم أمام محكمة البنك الدولي، كما فعل سياج الإيطالي الذي أراد أن يبيع جزءًا من طابا للإسرائيليين، متناسيا أن طابا قد تم تحريرها بشق الأنفس بعد مسلسل حرب منتصرة في أكتوبر ثم حرب قانونية عبر اتفاقات دولية، فكأن شركات الزبالة قد تحصنت بإرادة البنك الدولي لتكيل لنا وبالمبالغ المدفوعة شهريا علي فاتورة الكهرباء إحساسا بالمهانة وسط أكوام من الصاج المتحرك الذي تنتجه الديناصورات التي لم تصلح النقل العام، ثم تعايرنا الحكومة بأنها تدعم البنزين وتبيعه لنا بأرخص من سعره العالمي، متناسية أنها كان يجب أن تخطط لمواصلات أدمية لا عشوائية مثل الميكروباصات التي تغتال كل يوم فوق ما نتخيل.
أسأل نفسي وما علاقة كل ما أكتبه في تلك السطور بما جاء في الكتاب التذكاري الذي أصدرته دار الشروق عن محمد سيد أحمد؟
فأجيب : أين لنا برجل يمكن أن يجد علي لسان زوجته بعد رحيله مثلما قالت السيدة مايسة طلعت: «كان بالتأكيد عظيما من حيث اتساقه مع مبادئه الشخصية وتواضعه وروحه الكريمة.. وعلي الرغم من تمتعه بذكاء هائل فإنه مع ذلك متحررا من المكر والخداع، بل محتفظا ببراءة شديدة تشبه براءة الطفل».
وأين لنا برجل يمكن أن يكتب عنه أنور عبد الملك هذا الفيلسوف العاشق لمصر، سواء أيام منفاه في باريس أو في أيام حياته بالقاهرة بعد أن عاد إليها كاتبا بالأهرام، وهو من زامل محمد سيد أحمد في الإيمان بالاشتراكية، ثم اتسعت رؤية كل منهما لتري العالم من منظور أكثر اتساعا، فيقول عن «وظل محمد سيد أحمد مخلصا لما كنا نحلم به في شبابنا، وهو أن يرث ثروة البلاد شعب مصر لا الانتهازيون الذين لم يملوا أبدا من تكرار شعار «أنا روما.. ورما أنا».. ظل محمد سيد أحمد ولأكثر من نصف قرن يكافح بالسلاح الوحيد المتاح لديه: «القلم» وفي مواجهة الصعاب كافة كان يرفع شعارات الأخلاق والوطنية والإخلاص والاستقامة والتحضر».
ومن أين لنا برجل يكتب عنه اثنان من زملائه يكتبان بلسان واحد تلك الكلمات «كان من السباقين إلي الإحساس بمشاكل المستقبل، والتفكير فيها وبلورتها ولفت النظر إليها والبحث عن حل لها إن أمكن ذلك.. وكان أول من لفت نظرنا إلي مشكلة المياه وما سينتج عنها من نقص وغلو المواد الغذائية.. ونعترف أننا استمعنا له وقتها ونحن نري أنه يبالغ في تقديره للمشكلة.. وسألناه أثناء لقاء معه عما إذا كان يبالغ كتلك التيارات المزعجة التي لا تكف عن دق ناقوس الخطر في كل المجالات وتهدد البشرية بأسوأ مصير، حتي أصبحت تكاد تبدو مضحكة. فابتسم ابتسامة طيبة وأكد لنا أن الوضع أخطر مما نتصور».
أين لنا برجل يكتب عنه أيرك رولو الدارس الفرنسي لجذور المشكلات العربية واليهودي ذو الجذور المصرية، ومن قاد صحيفة الموند بكل ثرائها التاريخي، فيقول عن محمد سيد أحمد: «ما من صديق أو خصم يشك في إخلاص محمد سيد أحمد لما يؤمن به، فكل كتاباته شاهد علي مناهضته للصهيونية وكراهيته للسياسة العنصرية التي تمارسها إسرائيل، وتضامنه غير المشروط مع الفلسطينيين سواء أكانوا يعيشون في ظل الاحتلال أو كانوا من مواطني الدولة اليهودية وقد ظلمه من أتهموه بأنه من أنصار التطبيع».
ومن هو القادر علي أن ينال عمق بصيرة محمد سيد أحمد حين رأي عبر سكوت المدافع بعد حرب أكتوبر بشائر اتفاقية السلام بما حملته علي الخريطة العربية من عواصف، ثم يري من بعد ذلك كيف تحول السلام إلي سراب، كما جاء في كتاب له يحمل هذا الاسم؟
لا أظن أن كتابا استهواني لنقد كل أوجه الحياة والرغبة في إعادة ترتيبها مثل هذا الكتاب الذي أرجو أن ينال حظه من الانتشار، فهو كتاب يشرح لنا فن كراهية الجمود، وكيف يمكن للإنسان أن ينقد نفسه ولا يفقد قيمة الجوهر الذي يدافع عنه مثلما فعل محمد سيد أحمد.
أعترف أني رأيت في جراءته حين قال: إن الماركسية بتنظيماتها المختلفة في مصر بدأت يهودية، ثم تحولت إلي عربية بعد العدوان الواضح من إسرائيل علي مصر عام ,1956. وأعترف أني ضحكت حين قرأت اسم واحد من كبار أُجلهم إلي حد القداسة هو الشاعر فؤاد حداد الذي كان ضمن من اعتقلهم جمال عبد الناصر في أول يناير 1959 وهو من زاملنا هنا في صباح الخير، وهو من أحب جمال عبد الناصر بغير حد.. وأغلب الظن أن جمال عبد الناصر قد عض أصابع الندم علي اعتقال من هم علي إيمان محمد سيد أحمد أو فؤاد حداد بفكرة العدالة، ولابد أن هذا الندم قد غمر جمال عبد الناصر بعد هزيمة يونيو، فقد كانوا هم القادرون علي أن يشاركوه معاركه كأوائل من يملكون التضحية وآخر من يبحثون عن الاستفادة.
ولا توجد كلمات أشكر بها محررة الكتاب ومن أعدته وهي السيدة مني عبد العظيم أنيس ابنة أستاذ الرياضيات الذي ترك لندن وهو الأستاذ بأرقي جامعاتها حين هاجمت بريطانيا مصر في عدوان 1956- وجاء ليتم اعتقاله في عام 1959- وهو من لم يقبل علي منصب، وصاحب الرفض الشهير لمطلب الرئيس السادات كي يعطي درسا خصوصيا لابنه جمال، وكان سبب الرفض هو أن عبد العظيم أنيس كان موكولا له كأستاذ جامعي أن يضع امتحان الثانوية العامة التي طلبت فيها عائلة السادات درسا لنجله جمال فيها.
وكثيرا ما كنت أعاتب د. عبدالعظيم في أي لقاء أراه فيه طالبا إليه وضع كتاب يبسط الرياضيات أمام عموم المصريين الذين يجهلون أن الموسيقي عبارة عن رياضة وأن الشعر رياضة، وأن كلمات الأغاني رياضة، وأن مقاييس الملابس رياضة.
ولكن بما أن عبد العظيم أنيس قد رحل، وبما أن مني ابنته قامت بتصميم كتاب راق ومحترم يوجز حياة محمد سيد أحمد الكاتب والمناضل المحترم، وكان هو واحدا من أبرز العقول الرياضية المستوعبة لأعقد ما في الرياضيات فضلا عن دراسته للحقوق، وبما أن أبناءه طارق وعمرو سيد أحمد من أساتذة الجامعة وهما البارعان في الرياضة، بما أن الأمر كذلك فلماذا لا يؤلف الإثنان كتابا أو سلسلة كتب يبسطان فيها الرياضيات للناس العاديين ؟
هذا مجرد رجاء.
وطبعا لا يمكن أن أنهي المقال دون أن أقول لإبراهيم المعلم ناشر الكتاب: «أعلم أنك تختلف في أفكارك عن محمد سيد أحمد، ولكن الأمر المؤكد أنك تؤمن معي بأنه جدير بكل احترام.. وعن نفسي كنت أتمني أن أجلس إليه في حياته لأعرفه أكثر.. وما أكثر الكبار الذين يغادرون ولا نملك فرصة للتعرف عليهم إلا بعد الرحيل فشكرا لك أيها الصديق الذي أعدت تعريفي برجل أعطي كل الإخلاص دون أن يسأل عن ثمن».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.