حالة من السعادة والوئام والرضا تحيط بمجموعة من السيدات اللاتي تقدم بهن العمر تعلو وجوههن ابتسامة تمحو آثار الزمن وتعطي الأمل والبهجة لكل من يشاركهن الحديث.. ومع أنهن أمهات لكن لم يكنَّ مكانهن وسط أولادهن أو أحفادهن للاحتفال بعيد الأم، وكانت «صباح الخير» تواقة لإلقاء الضوء علي هؤلاء الأمهات اللاتي يسكنَّ داراً للمسنين فنسمع حديثهن ونعرف آمالهن ونطمئن علي حالهن. - بوسي كات امرأة هادئة وجميلة يشع منها بريق أناقة لم تستطع سنوات العمر العديدة إخفاءها تتكلم ابتسام مصطفي أو كما تطلق عليها زميلاتها في الدار «بوسي كات»: عمري 74 عاماً: كنت مدرسة في مدرسة لغات وعندما خرجت إلي المعاش أصبت بهشاشة العظام وأصبحت لا أستطيع الحركة بحرية واحتجت عناية من نوع خاص. وعندما سألتها عن أسرتها أجابت: زوجي- رحمه الله- وابنتاي متزوجتان وهما أحسن من «الحنية نفسها».. وابني عمره 35 عاماً لم يتزوج إلي الآن وكان يقيم معي في شقتي ولكني أُرهقت من العناية بشئون المنزل، فأي شاب يحتاج من يعتني بطلباته وينظم له أغراضه وبسبب هشاشة العظام لم أكن أقوي علي ذلك، ولم أرتح مع أي من اللائي جئن يساعدنني في البيت، وعندما علمت عن هذه الدار وعن سمعتها الطيبة ومديرتها والمستويات الاجتماعية بها، قررت أن أذهب لهذه الدار ولم أبلغ أحدًا من أولادي لأنني، كما توقعت عندما علموا ثاروا وقامت الدنيا ولم تقعد وحزن ابني وقال لي: «هو أنا زعلتك في حاجة»؟! وكان علي أتم استعداد لخدمتي، ولكن أنا أقدر ظروف عمله كمهندس فهو لا يعود قبل ساعة متأخرة مساءً، وابنتاي أصرتا أن أقيم عند إحداهما ولكني رفضت فأنا لا أستريح إلا في بيتي وغرفتي هنا هي بيتي و««اللمة الحلوة» مع زميلاتي أحسن لمة وأحسن عشرة، فلي هنا سبع سنوات وأعيش في سعادة كاملة أذهب إلي النادي القريب من الدار صباحاً وأمارس رياضة المشي وأجلس هناك لأقرأ القرآن ثم أرجع فأتغدي مع المجموعة ونتسامر ونتحدث في كل أمورنا، ولي أحفاد في الجامعة يزورونني هم وأولادي كثيراً.. وعن أول مرة طرأت الفكرة إلي ذهنها تقول ماما ابتسام: الموقف الذي دفعني للتفكير في الذهاب لن يعتني بي هو لحظة وقوعي في الشارع عندما وجدت أني وحيدة وكل واحد من أولادي مشغول بحاله.. وهذا حقهم وخارج عن إرادتهم ولكن اكتشفت أني بحب أن أجد من يشاركني ويطمئن علي ويلازمني وهو ما تحقق في الدار، فيقدم لي الأكل النظيف وتغسل لي ملابسي ولي علاقات اجتماعية تشعرني بأني حية ورسالة توجهها للمجتمع وتقول: «هناك صورة مترسخة في عقول الناس حول دار المسنين كأنها ملجأ يدخله المسن لجحود أبنائه والحقيقة غير ذلك تماماً.. بالطبع هناك حالات لأمهات وجدن الجحود من أولادهن ولكن معظمنا جاء بإرادته لتكملة حياته بصورة مختلفة بعد انصراف الأولاد ليعيشوا حياتهم الاجتماعية دون إرهاق الأبناء». - أفضل اختيار أما الحاجة آمال الكردي فلا يسعك وأنت تتحدث معها إلا أن تبتسم فهي اجتماعية و«حبوبة» كما تؤكد زميلاتها في الدار وتقول «الحاجة» آمال: عندي 62 عاماً وأنا اجتماعية وأحب الناس ولا أستطيع المبيت بمفردي وبعد أن مات زوجي وكنت في شقة واسعة جداً وابني وابنتي متزوجان أصبحت أخاف كثيراً من المبيت بمفردي خاصة بعد حوادث القتل التي أسمع عنها في الجرائد، فعندي جارة قتلها صديق ابنها لعلمه بوجودها بمفردها لسرقة مصوغاتها ومنذ ذلك الوقت وأنا لا أستطيع أن أعيش بمفردي خاصة أن أولادي يسكنون في مناطق بعيدة عني ولم يستطع الجيران أو الأصدقاء ملء الفراغ والوحدة في حياتي، لذا قررت أن أسكن بدار للمسنين «فالونس» أهم شيء في عمرنا هذا والوحدة قاتلة لنا وكلنا سيدات ورجال متماثلون في ظروفنا وحالتنا ولأنني قمت بعمليتين في الغضروف ولا أقوي علي الذهاب هنا أو هناك لذا كان من الضروري وجود من يؤنسني ويشاركني التفاصيل الدقيقة في حياتي وبالفعل زميلاتي في الدار أقرب إلي من أخواتي ونصيحة لكل امرأة أو رجل يشعر بالوحدة ألا يترك نفسه للاكتئاب أو يوبخ أولاده فهم معذورون لأن الحياة تأخذ كل الناس، فأولادي في منتهي «الحنية» ودائمو الزيارة لي ولكن يجب أن يعرف الإنسان ما يحبه ويحاول القيام به دون تحميل علي الآخرين فأنا لست نادمة علي بيع بيتي لمساعدة ابني في حياته لأنه يستحق أكثر من ذلك وغير نادمة علي مجيئي لدار المسنين، فهي أحسن اختيار قمت به في حياتي». - حب الحياة أما سوسن محمد سعيد أو نانا كما يدعوها زميلاتها فهي سيدة هادئة تتحرك بمشاية ولكنها لم تترك المشاية تعوق حبها للحياة والتواصل مع كل من حولها وهي تبلغ الخامسة والسبعين من العمر، وتحكي عن بداية مجيئها للدار منذ 7 سنوات قائلة: «عندما أوشك ابني الوحيد علي الزواج اقتنعت بأني يجب أن أذهب لدار مسنين، صحيح أن زوجة ابني حنونة ورقيقة ولو كان عندي ابنة ما كنت أحببتها مثلها، ولكني لا أستطيع أن أُحمَّل ابني وزوجته أعبائي، فأنا سعيدة هنا بكل هذا الحب والعشرة التي وصلت بيننا. إننا أخوات بل أكثر من أخوات وتجدن هنا من يشاركك آلامك وهمومك وفرحك وسعادتك وتنظم لنا الدار رحلات شهرية تناسب حالتنا الصحية، وفي عيد الأم ستقام لنا حفلة وسيحضرها مطربة من دار الأوبرا المصرية ونقضي هنا حياتنا لنكتشف أنفسنا من جديد ونضفي السعادة علي بعضنا البعض، فلن يستطيع إعطاءها لنا سوي أنفسنا». أما السيدة م. ل- 68 عاماً- فلم يرزقها الله بأولاد وتقول: «بعد وفاة زوجي قامت المشاكل بيني وبين عائلته علي الشقة ولأني لا أحب المشاكل آثرت أن أقيم عند أختي الوحيدة، ولكني لم أرتح هناك لذا وجدت الحل السليم في الدار، وأشكر الله أن هداني لهذا الاختيار فأنا سعيدة هنا كثيرًا ولا ينقصني شيء والحمد لله وهن من يعتني بأكلي وصحتي ويأتي لزيارتنا متطوعون في جمعية خيرية يقومون لنا بكل ما نحب فيجلسون معنا ويقيمون لنا حفلات لأعياد ميلادنا بل ويذهبون معنا في رحلات وأشعر أن الله عوضني عن عدم الإنجاب بهؤلاء الشباب». - نظرة للمسنين محاسن عبدالحميد المديرة المسئولة عن الدار ولها ست عشرة سنة في هذا الموقع تحكي بسعادة: «أنا أقيم هنا في الداروسعيدة جداً بحياتنا معاً، فهناك من اخترن المجيء بإرادتهن، وهناك من قابلن جحود الأهل أو الأبناء، المهم أننا جميعاً اجتمعنا علي حب الحياة، وتكملة ما تبقي لنا فيها في سعادة وونس مع بعضنا البعض، وتؤكد أن الحالة النفسية أهم شيء لاستمرار حياته مما يلقي بعبء كبير علي رجال الأعمال والجمعيات الأهلية والشباب للاهتمام بهذه الشريحة بإقامة حفلات ورحلات ويكفي زيارتهم فهي تمثل فارقاً كبيرًا يعود بالفائدة علي حالتهم النفسية «والله لا يضيع أجر من أحسن عملا».