تجسيدا لعمق العلاقات بين مصر وروسيا.. السيسي وبوتين يشاركان بفعالية تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى غدا    البنك الأهلي و"مصر الخير" يفتتحان مدرسة أولاد مازن للتعليم الأساسي بمطروح    الثلاثاء 18 نوفمبر 2025.. أسعار الذهب تتراجع 45 جنيها وعيار 21 يسجل 5395 جينها    محافظ المنوفية يتفقد مجزر بى العرب لمتابعة انتظام سير العمل والخدمات المقدمة    باستثمارات مليار جنيه.. وزير الصناعة يفتتح 5 خطوط إنتاج جديدة ويتفقد 4 مصانع    مشروع عملاق يربط مصر بتشاد عبر ليبيا.. طريق يعيد رسم التجارة الأفريقية    وزير التموين يشارك في افتتاح مؤتمر "بيروت وان" لتعزيز التعاون الاقتصادي بين مصر ولبنان    مصدران لبنانيان: إلغاء زيارة قائد الجيش إلى واشنطن    لماذا تخشى إسرائيل من بيع مقاتلات F-35 للسعودية؟    قطر تؤكد أهمية إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط    COP30: بابا الفاتيكان يحث الدول على اتخاذ إجراءات عاجلة لمواجهة تغير المناخ    خطيب المسجد الأقصى في يوم محاكمته: لن أتراجع عن مواقفي    الأردن يدين تصريحات بن غفير التحريضية ويحمل إسرائيل مسئولية تفجير الأوضاع بالضفة    توقف بيع تذاكر مباريات كأس العرب    الحكم بالسجن 10 سنوات على المتهم بالاعتداء على الطفل ياسين فى البحيرة    الأرصاد: ارتفاع درجات الحرارة بدءا من اليوم.. والذروة يوما الجمعة والسبت    كشف ملابسات استغاثة شخص فقد ابنته بسوق في بنى سويف    ضوابط الورقة الامتحانية بمادة اللغة الإنجليزية للشهادة الإعدادية 2026    اليوم... محاضرة "شاعرية الواقع" مع إلديكو إينيدي في المسرح المكشوف بدار الأوبرا    السيسي يوجه بمتابعة الحالة الصحية ل عمر خيرت وتقديم كل أشكال الدعم الطبي اللازم له    قبل عرضه بمهرجان القاهرة السينمائي.. محمد العدل يشكر فريق عمل فيلم بنات الباشا    شاحنة دعائية تجوب شوارع طوكيو للترويج لمعرض رمسيس وذهب الفراعنة بعد استقباله 350 ألف زائر    إنجاز طبى.. أسوان تشهد أول عملية لتركيب منظم ضربات القلب    عاجل- السيسى يوجّه بمتابعة الحالة الصحية للموسيقار عمر خيرت وتوفير كافة أوجه الرعاية الطبية    رئيس هيئة الدواء فى جولة ميدانية لمتابعة استعداد تطبيق منظومة التتبع الدوائي بمصنع أوركيديا    20 نوفمبر.. محاكمة عاطلين في الاتجار بالمواد المخدرة بروض الفرج    إخماد حريق في أكشاك بمنطقة المنشية بالإسكندرية| صور    هل يعود رامي ربيعة للأهلي في يناير.. العين الإماراتي يوضح    خوفا من سيناريو مجلس 2010 وثورة 25 يناير .. هل يجبر التزوير السيسي على إلغاء نتائج الانتخابات المرحلة الأولى ؟    اعتماد تعديل تخطيط وتقسيم 5 قطع أرضي بالحزام الأخضر بمدينة 6 أكتوبر    فنزويلا تتهم أمريكا بتبرير حربها المحتملة بأكاذيب غزو العراق 2003    وفاة الفنان السوري عدنان جارو وتشييع الجنازة وإقامة العزاء اليوم    تفاصيل تعاون محمد قماح والهولندية لاروسي فى أغنية انبساط    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 18-11-2025 في محافظة قنا    الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر: مقارنة المهور هي الوقود الذي يشعل نيران التكلفة في الزواج    وفاة عامل وحماره أسفل عجلات القطار في فرشوط بقنا    إصابة 2 فى حادث تصادم بين توك توك وسيارة بكفر الشيخ    وزير التعليم العالي يبحث مع نظيره التشادي سبل تعزيز التعاون    كيف يحدث هبوط سكر الدم دون الإصابة بمرض السكري؟    جامعة الإسكندرية تؤكد دعم الطلاب ذوي الهمم تنفيذاً للمبادرة الرئاسية «تمكين»    قافلة «زاد العزة» ال75 تدخل إلى الفلسطينيين بقطاع غزة    التمثيل العمالي بإيطاليا ينظم الملتقى الثاني لحماية حقوق العمال المصريين    انطلاق منتدى دبي للمستقبل بمشاركة 2500 خبير دولي    براتب 9000 جنيه.. «العمل» تعلن عن 105 وظائف جديدة    وزير الصحة: دفع 39 مليون أفريقى نحو الفقر بسبب الزيادة الكارثية فى إنفاق الجيب    محافظ أسيوط يطلق النسخة ال29 من مسابقة "لمحات من الهند"    تحليل سياسي شامل لبيان الرئيس عبد الفتاح السيسي كما ورد في نصه، مع تفكيك المعاني والرسائل الضمنية، وقراءة سياق البيان وتأثيراته المحتملة.    رئيس منطقة بني سويف عن أزمة ناشئي بيراميدز: قيد اللاعبين مسؤولية الأندية وليس لي علاقة    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : استقيموا يرحمكم الله !?    عندما يتحدث في أمر الأمة من لم يجفّ الحليب عن شفتيه ..بقلم/ حمزة الشوابكة    أمريكا تمنح حاملي تذاكر مونديال 2026 أولوية في مواعيد التأشيرات    الدكتورة رانيا المشاط: الذكاء الاصطناعي سيساهم في خلق وظائف جديدة    مواعيد مباريات منتخب مصر في كأس العرب 2025 والقنوات الناقلة    فاروق جعفر: أتمنى أن يستعين حلمي طولان باللاعبين صغار السن في كأس العرب    التوقع خلال ساعات، الترجي التونسي ينهي اتفاقه لضم يوسف المساكني (فيديو)    اليوم عيد ميلاد الثلاثي أحمد زكى وحلمى ومنى زكى.. قصة صورة جمعتهم معاً    التأهل والثأر.. ألمانيا إلى كأس العالم بسداسية في مرمى سلوفاكيا    دار الإفتاء: فوائد البنوك "حلال" ولا علاقة بها بالربا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من برودة القاهرة إلى دفء الميناء
نشر في صباح الخير يوم 22 - 12 - 2009

كتب: نادية خليفة طارق رضوان زين إبراهيم محمد عاشور و..ألفت جعفر
ريشة: جمال هلال
تصوير: شريف الليثى
أخذنا السيارة رفاقى وأنا واخترقنا شوارع القاهرة المزدحمة متجهين إلى بورسعيد.. ليلة الثلاثاء الماضى.. هدفنا رصد حال مدينة باسلة وشاهدة على أحداث جسام جرت فوق أرضها.. شاركت فيها وحققت النصر لمصر.. فى ذكرى عيدها القومى الذى نصبته مصر عيداً للنصر.
حملت أيدينا أمتعتنا وحملت أجسادنا ملابسنا الثقيلة لتحمينا من البرودة.. لم نشعر بمرور الوقت.. ولم ننتبه إلى معالم الطريق فقد كنا منشغلين بالتنسيق ووضع خطة لإنجاز كَمّ العمل الذى كلفنا به رئيس التحرير.. وقسمنا أنفسنا كل منا فى اتجاه، لنجد أننا وقد وصلنا إلى أطراف المدينة.
كان الليل قد أسدل ستائره.. توجهنا إلى مكان استراحتنا لنعلم أن المحافظ قد أفسح لنا من وقته ما يسمح بلقائنا فى تمام الساعة التاسعة.. قذفت أيدينا أمتعتنا ولم تخفف عن أجسادنا ما حملته من ملابس ثقيلة.. فمازلنا نشعر بالبرودة.
ورغم مشغوليات سيادته استمر لقاؤه بنا لمدة ثلاث ساعات.. متواصلة أصغى فيها إلينا.. وأجاب عن تساؤلاتنا.. أفسح لنا صدره، و فتحت لنا بورسعيد قلبها.. انطلقنا فى شوارعها ورحب بنا ميناؤها.. وتحدثنا مع أهلها.. ولا أخفى شعورى بالدفء بين أحضانها.
أدارت الحوار رفيقتى ألفت جعفر وشاركها طارق رضوان وزين إبراهيم ومحمد عاشور.. وأنا معهم.. أما جمال هلال الفنان فكان مشغولاً برسوماته.. وكان شريف الليثى يجوب الحجرة يميناً ويساراً لالتقاط الصور.
كلمات من نور ونار
فى صباح اليوم التالى كان لقاؤنا مع من تبقى على قيد الحياة من أبطال من المقاومة الشعبية فى حرب 6591,. أصحاب النصر الحقيقيون.. كان اللقاء مفعماً بالحماس والوطنية من جانبهم.. وبالتقدير والعرفان منا.. ورغم مرور ما يقرب من الستين عاماً على هذه الأحداث.. إلا أن حكاياتهم كانت كلماتها من نور ينبغى أن تراه الأجيال ليضىء مستقبلها.. وكلمات من نار حفرت أمجادهم التى دافعوا بها عنا.
كانت خطتنا للعمل الانتشار كل منا فى اتجاه.. ولكنها تبددت بين شغفنا جميعاً للاستماع للبطولات من أفواه أصحابها وبين لهفتنا إلى الأماكن والاستمتاع بالحديث مع البشر فيها.
عبقرية المكان
بعد استماعنا إلى هؤلاء الأبطال وحكاياتهم التى ألهبت الحماس فينا بنورها وأدفأت نارها أجسادنا، والتى سوف تقرأون تفاصيلها على صفحاتنا.. انتقلنا لزيارة الميناء والتى تصدر مبناها يافطة من النحاس الأصفر انعكس عليها ضوء الشمس.
هذا نصها "الهيئة العامة لموانئ بورسعيد".
من صفحات كتاب أصدرته محافظة بورسعيد ويحمل عنوان "بورسعيد.. الماضى والحاضر والمستقبل" ينطوى عدد من صفحاته على تاريخ الميناء وتقول: "وصل ديليسيبس إلى الموقع الذى اقتنع بصلاحيته ليكون مدخل القناة.. وكان معه مرافقوه من الفنيين ومائة وخمسون من البحارة والعمال.. وفى صباح 52 أبريل رفع العلم المصرى على الموقع وألقى ديليسيبس كلمة وسط العمال والفنيين من الأجانب والعمال.. وبدأت أعمال الحفر".
ولا أدرى لماذا قفز إلى ذهنى خاطر يقول: هل كانت مصادفة أن يرتفع علم مصر فى 52 أبريل على بورسعيد فى عام 9581,. ويرتفع أيضاً فى نفس اليوم 52 أبريل على سيناء فى عام 3791.
ونعود إلى صفحات الكتاب التى تقول: "فى عام 2091 تم إنشاء الميناء الأولى وكانت بدائية الشكل والأداء ثم تطورت لتؤدى دورها من خلال حركة السفن والخدمات البحرية.. فى عام 0391
بلورت هذه الفترة شخصية المدينة وعمق دور المنطقة الحرة التجارية بعد اتفاق شركة القناة والحكومة المصرية وشهدت أيضا هذه الفترة الاستقرار وتعددت مشروعات الميناء.. من عام 1391 وحتى عام 6591 شهدت هذه الفترة صدور قانون الضريبة الجمركية وتم فصل بورسعيد كمساحة أرضية عن الميناء بسور خشبى ثم حديدى.. وتعمقت وظيفة الميناء وفاعليتها وازداد اعتماد الدول على قناة السويس من عام 7591 وحتى اليوم.. سجلت هذه الفترة العملاقة أحداثاً جساما.. عدوان 6591 وآثاره المضادة لنمو الأنشطة فى الميناء.. ثم محاولات التغلب عليها وبداية النظرة التخطيطية المتكاملة التى تهدف إلى تغيير الميكنة الاقتصادية والانطلاق إلى مشاركات اقتصادية فى الصناعة والتجارة تقلل من الاعتماد الكامل على خدمات حركة العمال بالميناء.. ثم حرب 7691 وشلل حركة الميناء والتهجير ومشكلاته الاجتماعية والاقتصادية.. ثم انتصار أكتوبر المجيد 3791 ووضوح الاهتمام الكبير بخلق أنشطة اقتصادية جديدة".
طوينا صفحات الكتاب ليستقبلنا بحفاوة بالغة رئيس الهيئة العامة لموانئ بورسعيد.. كنت استمع إليه وعيناى على نافذة كبيرة.. المشهد من مبنى الهيئة مهيب.. المياه تجرى من تحتك.. سفن عملاقة تسبح فوق مياهها.. وأخرى ترسو على أرصفتها.. وأعمال تشييد وبناء ونقل.. أمامك يقبع فى شموخ مبنى أبيض فى غاية الجمال والروعة والهيبة أيضا.. تعلوه ثلاث قباب زرقاء بلون البحر والسماء.. هو مبنى "هيئة قناة السويس".
لم أر فى حياتى طائر النورس عن قرب.. الآن رأيته وكدت ألمسه.. طائر أبيض جميل هائم عشقاً لمياه القناة يرفرف فوقها ويشرب من مياهها.
يجول بصرى حول المكان لأرى الفنار واقفاً ينير للسفن طريقها وهو عبارة عن برج عال ملون باللونين الأبيض والأسود وربما يتعدى طوله الستين متراً.
على مدخل القناة توجد قاعدة تمثال ديليسيبس.. أما التمثال نفسه فقد رأته عيناى على صفحات كتاب محافظة بورسعيد.. ويقول الكتاب: "إن هذا التمثال نحته الفنان الفرنسى إيمانويل فيرميت.. ويصل وزنه إلى سبعة عشر ألف كيلو جرام.. ويبلغ ارتفاعه تسعة عشر متراً ونصف المتر.. وتم رفع الستار عنه فى أكتوبر 9981,. أما لماذا خلع التمثال من مكانه وبقيت قاعدته؟.. فتقول الإجابة: إنه كان يرمز إلى الاحتلال وكانت الرغبة شديدة للتخلص منه.
لم يتم التخلص منه نهائياً ولكن تم تفكيكه إلى تسع قطع موجودة فى مكان ما.. ولكن أيا كانت مشاعرنا فهو جزء من تاريخ لايمكن تجاهله ولا محوه ولاحتى نسيانه.
مياه القناة لاتحمل فقط سفن التجارة والركاب.. ولكنها تحمل أيضاً "المعديات" وهى قوارب صغيرة لنقل الأهالى من بورسعيد إلى بورفؤاد.
أول قارب عبر القناة من بورسعيد إلى الإسماعيلية كان فى أغسطس عام 5681,. وفى ديسمبر من نفس العام عبرت السفينة أوجينى.. وفى نفس العام أيضاً تم الاحتفال بافتتاح القناة.
بعد انتهاء زيارتنا لهيئة الميناء.. كانت المفاجأة بلقاء امرأة جميلة شابة تبعث ملامحها على الراحة والهدوء.. وتشغل منصب سكرتير عام مساعد محافظ بورسعيد.. اسمها نشوة محمود ندا.. أول امرأة تشغل هذا المنصب.. مهمتها كل ما يوكلها به المحافظ من تخطيط ومتابعة وتنفيذ وموازنة عامة.. وعندما سألناها عن هموم محافظة بورسعيد.. قالت: بورسعيد مثل كل المحافظات لديها مشكلات وقائمون على القضاء عليها.. مثل العشوائيات والإسكان والنظافة.
وأعترف أننى وجدت الشوارع نظيفة حتى أننى قلت لرفاقى أثناء تجولنا بالسيارة: "لم أر حتى ورقة على الأرض".. وكان فى يدى غلاف فارغ لقطعة من الشوكولاتة، خجلت من الإلقاء به فى الشارع.
بدأت السيدة نشوة حياتها العملية بالعمل المحلى بالتنظيم والإدارة بمحافظة الإسكندرية وحصلت على درجة مدير عام اللجان والمجالس والمؤتمرات بالإسكندرية أيضاً حصلت على المركز الأول كمدير متميز فى عام 7002.. ومنذ عامين تم الإعلان عن وظيفة "السكرتير العام".. وتقدمت إلى اللجنة.. وتم اختيارها لتميزها بالدراسات العليا وعملها فى الإدارة المحلية.. وتقول: كانت هذه المهنة حكرا على الرجال فقط.. ولكن الاختيار الآن يتحدد وفقا لمدى كفاءاتك وقدراتك، ربما يرجع ذلك إلى الفكر الجديد للقيادات التى أصبحت تعزز دور المرأة.. وفى هذا المنصب القادر الوحيد على التقييم هم المحافظون.. سألناها عن مشكلات المحليات.. قالت: أهم مشكلة هى عدم توافر كوادر جديدة وكفاءات.. وعن منصبها الحالى قالت: نحن مهمتنا خدمة المواطنين وتقديم الحلول لمشكلاتهم.. وهذا هو المحور الأساسى الذى عملنا ونعمل عليه.
وبابتسامة ناعمة وهادئة استأذنتنا لمواصلة عملها وانطلقنا نجوب شوارع المدينة الباسلة.
الشوارع حواديت
كل شارع فى بورسعيد له حكاية.. وكل حكاية تجسد بطولة.. وكل بطولة لها كلمات.. وكل كلمة لها معنى.
من أجمل شوارع بورسعيد شارع فرانسواجوزيف (فلسطين حالياً).. وهو شارع طويل ربما بطول الميناء.. تتميز مبانيه بالطابع الفرنسى والإيطالى، وتصطف على جانبيه أشجار قصيرة متساوية مقلمة زاهية الخضرة وجميلة.. ينتمى الشارع إلى الحى الإفرنجى وسمى كذلك لوجود السكان الأجانب به قديماً.. يوجد بالحى مبنى المحافظة ومديرية الأمن والمتحف القومى والحربى ومبنى هيئة قناة السويس وميناء بورسعيد وتتوسطه حديقة المسلة.. وفيه ترى مشهدا غاية فى الروعة لمسجد عبدالرحمن لطفى وبجانبه الكاتدرائية الرومانية.
شارع محمد على من أشهر شوارع بورسعيد، وهو واسع وطويل ويروى أبناء بورسعيد أن هذا الشارع شهد تمركزاً للقوات البريطانية وأقامت فيه معسكراتها.. وكان هناك طفل لم يتجاوز عمره الحادية عشرة.. ولكنه كان يملك من الشجاعة والوطنية مايفوق سنوات عمره بمراحل.. كان اسمه "نبيل منصور".. هذا الصغير أضرم النيران فى خيام المعتدى.. قتل العديد منهم.. أطلقوا عليه الرصاص.. سقط شهيداً.. ولكن مازالت تذكره بورسعيد وسجل اسمه التاريخ وكُتِبَ فيه شعر مدون فى كتاب "بورسعيد أنغام النصر" لأشهر شاعر شعبى فى بورسعيد.. كمال عيد..
تقول أبيات الشعر: نبيل منصور عدا السور ولاهمه
ابن الحداشر سنة.. كان الوطن همه
حدف قميصه لهب فى وش عسكرهم
الإنجليز من الغيظ برصاصهم اتلموا
سقط شهيد الوطن.. باس التراب دمه.
وقت العدوان الثلاثى لم يكن هناك مواطن واحد فى منزله.. خرجوا جميعاً رجالاً ونساء وأطفالاً للدفاع عن مدينتهم.. ويصف أبناء بورسعيد المعركة وكأنها مازالت مستمرة وكأنهم يرونها بأعينهم.. أثناء الحديث معهم لم يهمهم ذكر أسمائهم فكلهم بورسعيدية.. يقول أحدهم: "مع بداية المعركة كان الفدائيون يوزعون المنشورات المضادة للمنشورات التى تلقى بها القوات المعتدية.. ولم يتوقف دورهم عند التكليفات التى يتلقونها.. فقد قررت مجموعة من المقاومة نسف الطائرات التى كانت تلقى المنشورات.. و فى مطار "الجميل" حيث تهبط الطائرات.. تسللت المجموعة وفق خطة وضعوها بأنفسهم وبدأت بمعركة كبرى مع قوات الاحتلال وانتهت بحرق الطائرات.
أم على
فى الشارع التجارى أشهر شوارع بورسعيد على الإطلاق.. وهو ليس شارعاً واحداً بل مجموعة من الشوارع الضيقة المتوازية والمتقاطعة.. فى الشارع كانت عيادة الدكتور جلال وكانت تعمل عنده ممرضة تدعى "أم على" يذكرها أبناء بورسعيد ويقولون: كانت هذه العيادة مأوى للفدائيين ومخزنا للأسلحة وكانت أم على تلبسهم ملابس المرضى البيضاء وتخفى الأسلحة تحت الأسرة.. وكانت تسهر لخدمتهم وتنقل إليهم الأسلحة من منطقة القابوطى والتى كان يهربها الصيادون عن طريق بحيرة المنزلة ويضعونها أسفل السمك.. ويروى أبناء بورسعيد كيف ضحكت "أم على" على الإنجليز.. فقد سمعت فى إحدى الليالى طرقاً شديداً على باب العيادة.. فطلبت من الفدائيين النوم على الأسرة.. وأخذت فى الصراخ والعويل.. وفتحت الباب فوجدت دورية إنجليزية تريد التفتيش، فأوهمت الضابط بأن أحد المرضى قد مات وطلبت منه مساعدتها فى إحضار عربة الإسعاف لنقله ودفنه.. تركتها "شربت المقلب وانسحبت".
من أشهر الأغنيات التى يرددها أبناء بورسعيد عن وقت العدوان الثلاثى أغنية "مورهاوس" وهو اسم ضابط إنجليزى من العائلة المالكة البريطانية.. اختطفه الفدائيون من شارع الثلاثين.. الأغنية من تأليف وألحان "الريس الداش".. وتقول كلماتها:
مورهاوس ليه بس إجيت.. من لندن هنا واتعديت.. ويتظلم آل ولا خليت.. وآهى موتك جت جوه
البيت كان فكرك احنا الأنصار.. يا مصيبتك داحنا الأحرار
بنحارب ليل ويا نهار.. مانهابش م الاستعمار
فى بلدنا أبطالنا شافوك.. واتعاهدوا فيها ما يخلوك
وفى تاكسى أسود خطفوك.. راح خبرك لأمك وأبوك
فى الحى اللى هناك وخفوك.. وف بير السلم وتاووك
لك متحف والناس يشوفوك.. وياريتهم يا ظابط ماجابوك
مستقوى بالأطلنطى.. كان فكرك أيام غاندى
دأنا مصرى حر وعربى.. مين قال لك تنزل بلدى
مورهاوس ليه بس إجيت
الحب تحت الرصاص
لم تخلُ حواديت الشوارع فى 6591 رغم المعارك والرصاص والنار من لوعة الحب.. ففى كل شارع صبى وصبية.. جمع بينهما الحب والوطنية.. ربما استمرت قصة حبهما.. وربما احترق قلباهما بنار الفراق.. على صفحات كتاب "أنغام النصر" وهو دراسة لأحوال بورسعيد وقت العدوان الثلاثى كلمات الأغنية للشاعر الشعبى كمال عيد.. تقول كلماتها:
الحلو عدا واحنا حزانا.. شافنا ما هدى ولا وسانا
هوه فاكرنا ولا نسانا.. والريح معانا كان معانا
عاشق يشوفنا عاشق غنانا.. وفى عز عيدنا الريح عاندنا
روح وفاتنا ولا عدش جانا.. روحنا سألنا على غزالنا
يمكن غلطنا ولاخدنا بالنا.. بالورد روحنا زود جراحنا
ويشوك زمانا.. مركبنا راكنه والريح تركنا
لكن مسيرنا نفرد شراعنا.. وإن كان حبيبنا فى الشدة باعنا
يحرم علينا مهما صفانا.
أهم مايميز الكلمة فى الشعر الشعبى البورسعيدى أنها تعبر دائماً عن حالة أو موقف أو مناسبة.. حب.. انتصار.. افتخار.. حزن.. ألم.. أو حتى سخرية.. فهى تجسد الشخصية البورسعيدية بما تحمله من كرامة.. لم أر شحاتا ولا متسولا ولا أولاد شوارع فى بورسعيد.
اصبر يابو العربى
قادتنا أقدامنا إلى الشوارع الضيقة فى منطقة ما يطلق عليها الشارع التجارى.. البضائع مكدسة.. قليلة الجودة وتتقارب أسعارها من بضائع حى الموسكى والعتبة بالقاهرة.. وتنافسها المنتجات الصينية قليلة الثمن.. الركود يخيم على المنطقة.. لابيع ولا شراء.. ورغم الغضب الذى تستشعره فى كلماتهم.. إلا أن أصواتهم منخفضة.. همهم الأول المنطقة الحرة التى كانوا يسترزقون منها.. وقلقهم على مستقبلهم أعلى من أصواتهم.. فهم لايملكون سوى بضاعتهم وقليل منهم يمتلكون محلاتهم.. ويحتاجون إلى من يوجههم ويدير حواراً معهم، فحتى الآن هم يجهلون مصيرهم.
يشير الواقع إلى أن المشروعات القومية العملاقة هى الطريق الصحيح لإعادة توزيع السكان ونشر العمران على مساحة أرض جديدة، وهى السبيل الوحيد لاستغلال الموارد المتاحة للبلاد وخيراتها فى إتاحة فرص عمل جديدة.. ولكن أهل بورسعيد ربما لايعرفون طريقاً للوصول إليها.. فى بورسعيد 682 مشروعا صناعيا توفر الآلاف من فرص العمل.. وإلى جانب هذه المشروعات هناك اتجاه جاد لوضع بورسعيد على الخريطة السياحية خاصة أنها تتمتع بشواطئ طويلة على ساحل البحر الأبيض ومناطق أثرية ومعالم دينية ومزارات سياحية وحدائق غناء.
هذا التحول الذى نحن فى طريقنا إليه أشبه ما يكون بالعملية الجراحية وأجمل من عبر عن هذه الحالة من الخوف والقلق الذى يسيطر على أبناء بورسعيد هو الشاعر الشعبى كمال عيد فى كلمات بسيطة تقول:
يا مشرط الجراح حاسب على الغالى.. دا هو أخويا وصاحبى
وعزوتى ومسندى ورأسمالى.. ونسمتى البقيالى
بعطرها الفواح لعمر عدى وراح.. يا مشرط الجراح صحيح أنا خايف
لكن ماهوش م القدر.. لكن من الجراح.
ومن منا لايخاف ولايقلق تحت مشرط الجراح.
استغرقت رحلتنا فى السوق التجارى ساعات طويلة استمعنا فيها إلى ما يدور فى عقولهم وتنطق به ألسنتهم.. لفت انتباهى أننى لم أسمع اسما يتردد بكثرة مثل اسم "أبوالعربى".. والتفت أيضاً إلى بضع كلمات غريبة فى أماكن متفرقة.. دونتها على أوراقى.. وعندما جلس معنا الأستاذ رشاد يحيى مدير العلاقات العامة بمحافظة بورسعيد وبصفته بورسعيدى أصيل.. سألناه عن "أبوالعربى" وما إذا كان اسم أهل بورسعيد كلهم "أبوالعربى".. ضحك وقال لا: ولكن كثيرا منهم اسمه سيد أبوالعربى كناية عن هذا الاسم بالإضافة إلى أنه يجسد الشخصية البورسعيدية التى يأخذها الحماس دائماً والفخورة بنفسها والذى يفتخر بنفسه يضخم حجم الأمور.. استخرجت الورقة التى دونت عليها المفردات التى التقطتها آذاننا وسألناه عن معانيها.. "اليكرج" براد الشاى.. "لآنى" رمانى.. "سرج النور" نور النور.. "طرمه" ضربه.. "أزاره" قاذورات.. "شكلة" مشاجرة.. "اللونة" كناية عن اسم محمود.. "حنجل" كابوريا.. "راق" تم شفاؤه.. "عدنى" كأنى.. "حلقوم" ملبن.. "البكاش" عربة خشبية يجرها حصان.. "تكوه" مخده.. "الهيه" أنفلونزا.. "القوادم" الناس.
إعلان هام
تحتفل المدينة هذه الأيام بعيد النصر 32 ديسمبر وهو اليوم الذى تتزين فيه المحافظة بالزهور والورود والأنوار واللافتات مستقبلة مهنئيها ومحتفيه بهم وسط مراسم رسمية واحتفالات شعبية يرقصون ويغنون على أنغام السمسمية أشهر آلة موسيقية فى منطقة "القنال" كما ينطقونها.. ومن أشهر عازفيها إلى جانب كتابة الشعر الشعبى كمال عيد صاحب أغنية "ظازة وعال يأم الخلول" الذى حكى لنا تاريخ هذه الآلة صاحبة النغمات المميزة.. فقال: "منذ بداية حفر القنال والتى حفرتها أيدى المصريين من كل محافظات المحروسة.. وكان منهم أهل النوبة.. الذين كانوا يعزفون على آلة "الطنبورة" حيث يجتمعون كل ليلة يسرون عن أنفسهم يعزفون عليها ويرتجلون على نغماتها الكلمات.. مع مرور الوقت تطورت وأصبحت "السمسمة".. وتحولت الكلمة لتصبح "السمسمية" وهى تتكون من ثلاثة أطباق خشبية وخمسة أوتار تبعث رنيناً ونغمات".
تركنا ميناء سعيد أو بورسعيد. وطوال طريق عودتنا إلى القاهرة.. صورة المدينة الباسلة الجميلة الدافئة لم تفارق ذهنى.. وتذكرت صورة إعلان شاهدته على شبكة الإنترنت نشرته جريدة الأخبار منذ أكثر من خمسين عاماً وبالتحديد فى عام 8591,. يقول الإعلان: ارقص "الكاليبسو" وتناول عشاء فاخرا على شاطئ بورسعيد.. بورسعيد ترحب بك وتدعوك لقضاء الصيف فى رحاب المدينة الباسلة التى ضمدت جراحها واستعادت رشاقتها وفتحت ساعديها تريد أن تضمك إلى صدرها.. إن بورسعيد المدينة الباسلة تريد أن تغريك بنفسها.. وفى سبيل هذا الإغراء تخوض معركة عنيفة مع بقية المدن الساحلية تريد أن تنتصر عليها فى مجال الحسن والجمال واجتذاب المصطافين بالأسعار الرخيصة بنت الحلال".
انتهى الإعلان.. ولكن الشاطئ مازال موجوداً.. فهل ستخوض بورسعيد معركة مع بقية المدن الساحلية وتنتصر عليها.. وتدعونا لقضاء الصيف على أنغام الموسيقى الراقصة لنتمتع بحسنها وجمالها؟؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.