كانت ليلة شديدة الضياء، القمر كان بدراً. السحب البيضاء تنتشر فى السماء، وشبّورة الماء بانعكاسات ضوء القمر عليها جعلتها ليلة شديدة الضياء.. فى صباح تلك الليلة قرأت تحذيراً من علماء لهؤلاء الذين يعملون فى أبحاث الفضاء، والذين يلهثون لمعرفة إذا كان على سطح القمر مياه بإطلاق صواريخهم الفضائية إلى القمر للاستكشاف، بالرغم من أن الأبحاث نفت هذا لطبيعته الصخرية، وقد عرف من زمن بعيد أن القمر لا يجذب إليه جوا أو يحيطه غلاف هوائى كالأرض ولذلك ينعدم بخار الماء الذى تتوقف عليه دورة تقلبات الطقس من رياح وسحاب وأمطار.. التحذير قال إن بأعمالهم الجنونية هذه قد ينسفون نصف القمر!. نظرت إلى القمر.. أربت عليه بنظرتى.. إذا صدق التحذير بنسف نصفه، لن ترى الأجيال القادمة ليلة مدهشة شديدة الضياء. هيبة القمر كان للقمر زمان، قبل الزمن بزمان هيبة عظيمة حتى إنه كان معبودا فى بعض مناطق من العالم القديم، فكان الضوء الوحيد الذى ينير الليالى المظلمة، وقد أطلق عليه العرب قديماً أسماء كثيرة وصفات قبل الإسلام، فكانوا يطلقون عليه الأب والعَم توقيراً له وتعبيراً عن صورة الهدوء والسماحة التى يراه فيها الإنسان، وأضيفت إليه صفات كثيرة للكمال، فهو "صديق" يؤنس أبناء السبيل فى ليلهم، وهو "صادق" لا يخلف وعده من الهلال إلى المحاق، وهو "حكيم" يوحى للنفس بالأفكار المطمئنة ويلهمهم الآراء المتزنة على شاكلته من الاطمئنان والروية، وهو "عالم" يرقب الكائنات ويحيط بأسرارهم، وهو "مُحرم" أى مقدس لا يصح أن يتطاول عليه متطاول أو ينال من قداسته واهم أو طاغية. وكانت هناك صفات أخرى أضافها العرب على القمر وقد دلت على معان أخلاقية عالية فهى تصور القمر حامياً للناس من المهالك، حافظاً من الضُر واقيا من الشر وهى تصوره أبا رحيما يسهر على أبنائه. وكان الشعب الإنجليزى قديماً يعتقدون أن للقمر تأثيراً كبيراً على شئون البشر، فقد كانوا يحددون أوقات ذبح الحيوانات للطعام، وجمع الأعشاب، وقطع الأخشاب. وبذر البذور حسب ظهور القمر فى مراحله المختلفة، وعلى مسار القمر كانوا يحددون فترات علاج الأمراض. معتقدات عن القمر كان الشعب الإسكتلندى قديما يعتقدون أن أكثر المواسم تبشيرا بالخير لبدء أى مشروع هى تلك التى تصادف بدرا أو هلالا. كما أن للقمر فى مرحلة المحاق أثراً سيئاً على الناس. وكان الناس عموماً فى العالم القديم يعتبرون خسوف القمر خروجا على نظام الطبيعة ونذيراً بالشر، وكان حكام روما القديمة يعاقبون من يقول أن خسوف القمر نتيجة لأسباب طبيعية كانوا يعتبرون مثل ذلك القول امتهانا للمقدسات يعاقب عليه القانون. وبالرغم من أن العلم قد شرح للعالم سبب خسوف القمر وهو وقوعه بين الأرض والشمس إلا أن العادات القديمة فى بعض بلاد العالم وكان ضمنها سكان الريف المصرى.. كانوا يضربون على آلات نحاسية وصفائح عند مشاهدة خسوف للقمر.. فقد كان قديماً أثناء الخسوف تغادر الناس بيوتها ويضربون على آلات نحاسية محدثين ضجة عالية، ويدعون لنجاة القمر من الكرب الذى يعانيه.. وكان الصينيون قديماً يعتقدون أن سبب خسوف القمر هو صعود "حيَّات" من الثعابين الضخمة إليه فى محاولة لالتهامه فكانوا يضربون الطبول والآلات النحاسية لتخويف تلك الوحوش لتبتعد عنه. القمر ساعة ظُهوره كان شعراء العرب زمان يتغنون بالقمر. أبياتا شعرية كثيرة فى وصف القمر وضوئه الباهر والأنس إليه وتشبيه الحبيب به وصفة الليالى المقمرة الزاهرة.. ولشعرائنا المصريين أغان كثيرة من أشعارهم للقمر، ومازلنا نستمع إلى أغانى مطربتنا "أم كلثوم" عن القمر التى كتبها الشاعر "أحمد رامى" وأشهرها "هلت ليالى القمر.. تعالى نسهر سوا.. فى نور بهاه.. ياللى القمر من بهاك.. نوّر فى قلبى سناه.. تعالى جدد صفاك.. تروق وتحلى الحياة. وفى أغنية لمطربنا "محمد عبدالوهاب".. "أحب عيشة الحرية".. "القمر ساعة ظهوره.. يحلا نوره.. ياحبايب.. والفؤاد يزيد سروره.. كل ما يشوف اللى غايب".. وتغنى "عبدالحليم حافظ" بعدما صعدوا إلى القمر.. "علشانك ياقمر.. أطلع لك القمر".. كما غنت "فايزة أحمد".. "ياأمه القمر عالباب" لقد ظهر القمر فى فترة مثمرة من أغانينا المصرية.. لكن الملاحظ إنه بدأ يقل ظهوره فى الأغانى، مع ابتعاد تلك السنين المثمرة فنيا.. هل لأن ضوء القمر أصبح محجوبا بأضواء المدن؟!.. هل لأن الناس لم تعد تنعم بضوئه إلا فى المناطق الصحراوية النائية وشواطئ البحار المجهولة؟!.. هل لأن الشعراء شاهدوا القمر فى الصور التى التقطت له بعد وصولهم إليه، كوكب مظلم ملىء بالجبال والحفر وجه قبيح مصاب بداء الجدرى؟!.. فلم يعد أحد يصف وجه حبيبه بالقمر؟!. ليلة شديدة الضياء أعود إلى تلك الليلة التى دفعتنى إلى الحديث عن القمر.. ربما لأذكر الناس به، فلم تلهنا عنه أضواء المدن فقط، بل ألهتنا عنه ضغوط الحياة اليومية، والأقمار الصناعية التى تنقل لنا عبر الشاشات الصغيرة والكبيرة مخاوف العالم وحروبه.. والألعاب السحرية السياسية، والتسليات الفنية وغير الفنية.. و.. كل شىء. أعود إلى تلك الليلة شديدة الضياء، فمثل هذه الليلة تأتى عادة وقت الخريف.. تثير شجن بعض الناس.. وأنا منهم.. فصل من فصول السنة.. فاصل بين صيف وشتاء.. وبعض الناس يكونون عاطفيين فى فترات تغيير الفصول، وهذه العاطفة أحيانا تكون مبالغا فيها.. فالآمال المتفتحة عادة تكون فى فصل الربيع.. والشجن والاكتئاب يكونان فى فصل الخريف.. ربما يكون مرضا لبعض الناس، الذين لديهم حساسية للطقس.. يشعرون بتفاؤل أو تشاؤم حسب لون اليوم، مشرق، أو غائم.. وربما يكونون رومانسيين يستبشرون برؤية الهلال ويشعرون إنه بإمكانهم أن ينظموا شعرا حتى وإن لم يكونوا شعراء فى ليلة مقمرة شديدة الضياء.