صباح ألأربعاء الماضى 25 يناير .. خرجنا للانضمام لأى مسيرة تتجه للتحرير .. كانت الاختيارات مفتوحة أمامنا .. فالمسيرات تنطلق من عدة أماكن تحيط بنا .. فى مكان تجمعنا بدأنا نجرى الاتصالات لتحديد وجهتنا .. ابنى عند مصطفى محمود أخبرنى أنهم فى انتظار انضمام مسيرة قادمة من ناهيا ولا يعرف متى سيبدأ تحركهم .. اتصلنا بمن نعرفهم عند جامعة القاهرة فعرفنا أنهم على وشك البدء فى المسيرة .. سائق التاكسى كان يتابع اتصالاتنا وبلا أى توجيه منا وجدنا أنفسنا عند الجامعة والمسيرة قد تحركت بالفعل وبدأنا فى السؤال .. فين المسيرة؟ ساعتها قفز إلى ذهنى نفس المشهد فى نفس اليوم من العام الماضى .. يومها كانت جميع شوارع وسط البلد خاوية إلا من بقع سوداء كثيفة احتلت بدايات ونهايات الشوارع مرتدين خوذاتهم ومتسلحين بدروعهم .. من شارع قصر العينى انطلقنا متجهين للتحرير .. كان الميدان فارغا إلا من نفس البقع السوداء وإن كانت أشد كثافة هنا .. وبدأنا وقتها أيضا نسأل .. فين المظاهرات؟ يومها لم يكن هناك مخلوق فى الشارع نسأله إلا ضباط وجنود الأمن المركزى وللأمانة لم يقصروا .. بالطبع لم يخطر ببال أحدهم ما ستؤول إليه الأمور فكان التعامل وديا فى هذه الساعة المبكرة من النهار. تذكرت هذا المشهد بسرعة وشعرت بتفاؤل .. فمادمنا أمام نفس البدايات فربما كانت هذه علامة على الوصول لنفس النهايات .. مع اختلاف الأشخاص بالطبع. فى النهاية استطعنا اللحاق بالمسيرة .. فلم تكن قد ابتعدت كثيرا. كانوا يسيرون فى نهر الشارع.. من على رصيف مرتفع. ألقيت نظرة سريعة على بداية المسيرة .. ياااالله! خرجت منى بعفوية .. فعلى مدد الشوف كانت الرؤوس تتلاحم وعلم طويل تحمله الأيدى والقلوب فوق الرؤوس .. توكلنا على الله وانضممنا للحشد الهائل وانطلقنا نردد معهم هتافات من القلب .. أقرب هذه الهتافات إلى قلبى: عسكر عسكر عسكر ليه ؟ إحنا فى سجن ولا إيه ؟! ويا نجيب حقهم يانموت زيهم. فى الشرفات كان العشرات ممن يحلو للبعض تسميتهم بحزب الكنبة يقفون ملوحين للمسيرة بأعلام فى أيديهم أو يرفعون أصابعهم بعلامة النصر .. وهو ما يؤكد لى ما أنا متأكدة منه من أنها تسمية ظالمة فهم ربما لايستطيعون النزول، لكن قلوبهم معلقة بكل من فى الشارع .. على مقربة منى كانت سيدة مسنة على كرسى بعجل وابنها يدفعها أمامه يهتفان مع الجموع: يسقط حكم العسكر .. كانت رؤيتها بإصرارها على المشاركة وهى على هذه الحالة الجسدية باعثة على البهجة والتفاؤل لكل من أحاطوا بهما. فى إحدى الشرفات وقفت سيدة شابة لم تجد لديها إلا قماشة حمراء اللون لتلوح بها للجموع الهادرة أمامها ودموعها تنساب بلا توقف .. رفعت يدى ملوحة لها ولا أعرف كيف رأتنى، لكنها ردت لى التحية بفرحة وابتسامة عريضة صاحبت الدموع لأفاجأ بأننى أيضا أبكى دون أن أعرف لماذا أو على ماذا تحديدا. تقدمت المسيرة إلى أن وصلنا لشارع التحرير بالدقى .. وكانت الأنباء أن مسيرة مصطفى محمود وأنها على حسب الوصف (مسيرة مرعبة ).. يارب يحسوا كان تعليقى .. على بعد خطوات منا كان أب يحمل طفلته على كتفيه .. عمرها لايتجاوز الخمسة أعوام (من عمر حفيدتى) كان والدها يشجعها على الهتاف ترددت خجلا فى البداية ثم انطلقت تهتف .. حرية حرية .. بحماس شديد انطلقت الحناجر خلفهما تردد نفس هتافها .. لو كانت ستعى ما يدور فى ذهنى ساعتها لكنت أخبرتها به .. يا حبيبتى أنا شخصيا أفعل هذا من أجلك أنت وأحفادى حتى نجنبكم ما مررنا به نحن من عذابات وحتى نسلمكم بلدا نظيفا من كل مساوئنا .. بلد يحترم حرية وكرامة ساكنيها. بلادى بلادى لك حبى وفؤادى .. بانتهاء هذا النشيد كنا قد وصلنا إلى بداية كوبرى قصر النيل، حيث المعجنة الكبرى .. ولا أعرف من هو الشرير صاحب فكرة وضع فواصل حديدية ارتفاعها يزيد على المتر فى منتصف الكوبرى وبامتداده! وكانت الأنباء المفرحة تتوالى .. ميدان التحرير كامل العدد ولا موضع لقدم .. هتف أحدهم الشعب يريد ميدان جديد فارتفعت الضحكات .. الخبر الثانى كان سقوط منصة الإخوان .. حد وقعها ولا وقعت لوحدها ؟! لوحدها .. كانت الإجابة فارتفعت الابتسامة تعلو وجوه الكثيرين ولكنهم لم يعلقوا.. شعرت ساعتها أن ربنا بيخبرنا أنه رافض احتفالاتهم .. بجوارنا الآن تسير نعوش رمزية تحمل صور عشرات الشهداء .. يسبقهم شباب يقرعون طبول كبيرة بنغمات جنائزية .. فى منصف الكوبرى ارتفعت الأصوات مطالبة بقراءة الفاتحة على من سقطوا شهداء فى هذا المكان .. لم نكن بحاجة للتوقف لقراءة الفاتحة فقد كنا متوقفين أصلا إلى أن يتمكن من هم فى المقدمة من أن يجدوا موطأ لقدم يتقدمون بنا من خلاله .. فى هذه الأثناء كانت مجموعة من الشباب قد بدأوا صلاة العصر متذكرين أحداث جمعة الغضب فى العام الماضى وأعادت إلى ذاكرتى يوم 52 من العام نفسه كنا ساعتها فى ميدان التحرير وكان الشباب يؤدون صلاة العصر قبل أن تنهمر فوق رؤوسهم خراطيم مياه الأمن المركزى ثم أعقبتها قنابل الغاز. انطلقت فى طريق العودة وأنا أشعر أن حملا ثقيلا من الهم والكآبة قد انزاح من على قلبى ما حدث اليوم كان شيئا يفوق الخيال .. ثورتنا مستمرة لم تنكسر رغم كل الطعنات التى وجهوها لها .. مستمرة رغم كل دعاوى الإحباط من نوعية الناس زهقت والناس كرهت .. رغم كل ادعاءات المواطنين الشرفاء أو الأغلبية الصامتة (!) فالحمد لله أن الغالبية العظمى من الشعب المصرى ينتمون للبلطجية ولن يلجأوا للصمت مرة أخرى .. إلى أن تعود لنا كل حقوقنا المسلوبة .. ويا الميدان كنت فين من زمان؟