سألنا صاحب السيارة وهو يقودها أن نبلغه عن علامات الطريق.. قلنا.. لم نشاهد أى علامات.. ألم تقل أنك تعرف الطريق؟!.. قال: قاموا بتجديده وتحديثه وهذه أول مرة أسير فيه.. هل يصلحون طريقا بدون علامات؟!.. لم نرد عليه.. ظهرت أصواتنا بعد صمت طويل.. تُهنا.. يوجد ثلاثة رجال يقفون عند مفترق لنسألهم!.. لا تقف.. سيارتك كبيرة يمكن يكونوا لصوص.. ويدلونا على طريق مجهول ويسرقونا.. إننا لا نتحمل أى عنف.. الرجال يشيرون لنا.. لا تقف.. زود السرعة.. بلطجية.. هذا الطريق الجديد مثل الطريق الذى فُتح لنا بثورة عظيمة لكنه بدون علامات لذلك نتوه.. بلاش فلسفة! * البلطجية رن تليفون المحمول لصاحبنا قائد السيارة، صرخت زوجته أن يتركه لها وينتبه للطريق.. ثوانى ثم قالت: «صاحب المزرعة التى تُهنا عنها يعتذر لك ولصحبتك لأنه وأسرته هربوا فى الصباح الباكر بعد حالة ذعر عاشوها لهجوم بلطجية على مزرعة كبيرة مجاورة.. ويعتذر أنه لم يتمكن من إخبارك فى وقت مبكر.. وسألنى أين نحن، قلت له كاذبة إننا فى أول الطريق». تنهدنا براحة مشوبة بقلق وخوف.. قال صاحبنا سنذهب إلى نهاية هذا الطريق ونمضى اليوم بجوار البحر بدلا من المزارع.. اعترض البعض واقترحوا العودة.. ووافق البعض على اقتراحه.. وكانت الأغلبية فقد خرجنا لنستمتع بيوم خريفى دافئ قبل أن يهجم علينا الشتاء.. ذهبنا بالرغم من خوفنا من البلطجية. انشغلت بتعبير «بلطجية» وما يلتصق بصفاتهم الآن بالعنف الذى يصل أحيانا إلى القتل.. فقد وصفهم الكاتب والفيلسوف إبراهيم المصرى فى كتابه خبز الأقوياء فى النصف الأول من القرن الماضى.. العشرين: «من الرذائل الخلقية فى بعض الأفراد فى مجتمعنا رذيلة البلطجة، فالمصابون بهذه الرذيلة قوم لا تطيب لهم الحياة إلا إذا احتالوا على الغير وخدعوهم، وأخص ما يميز شخصية البلطجى.. كلام معسول مقترن برقاعة بغيضة وصفاقة مثيرة ولؤم فى الطبع وفساد فى النية وخبث فى الضمير، فهو يقترض منك مبلغا من المال مثلا وفى نيته أن يماطلك ما استطاع.. ولا يدفع».. يعنى البلطجة قديما لم تكن مقترنة بالعنف، وكان يمكن أن يوصف بها أى محتال ليس قاتلا أو عنيفا.. لقد تغير وصف البلطجى الآن فهو لا يسألك أن تقرضه مالا بل يستولى عليه غصبا عنك.. كما تغير وصف القوة البدنية بأنها قيمة نفيسة فى حياة الفرد إلى أن حدث خلط بين القوة والعنف! * بحر هادئ ونفوس ثائرة كان البحر المتوسط هادئا على عكس ما تصورنا وتنعكس عليه ألوان السماء الزرقاء لنهدأ ونستنشق الهواء النقى، ولتستريح نفوسنا وأعصابنا قليلا.. لكن الأحاديث بدأت ثائرة عن أخبار الحوادث المفزعة التى تطالعنا بها الصحف وشاشات التليفزيون.. ماذا حدث للناس؟! وتوالت التعليقات على ما حدث للناس.. والخوف على الوطن.. و.. و.. و.. يا جماعة اهدأوا قليلا.. البحر نفسه هادئ اليوم.. انسوا كل شىء لمجرد ساعات زمن قليلة لنعود قبل الغروب. * لا تنس أتواصل مع الكاتب والفيلسوف «إبراهيم المصرى» فى كتاباته عن قيمة الوطنية: «لا تنس أن الإنسان الحى هو الذى لا يرتضى لوطنه قدرا يذله، وهو الذى يكافح ما استطاع كى يصوغ لوطنه قدرا يرفعه.. وهو الذى لو خانه الحظ أسرع وتلقى الصدمة بوثبة قبل أن يستعذب الضعف ويستمرئ الشكاية والندب والعويل.. لا تنس أن حبك لوطنك لا يكفى.. الحب وحدة عاطفية سرعان ما تفنى فى الكلام، أما الإرادة العاقلة فهى العاطفة الإيجابية التى تدفع إلى العمل والجهاد. لا تنس أنك تعيش فى وطن معين وأنه لو قضى على هذا الوطن قضى عليك أنت أيضا، فالبث متوثبا للزود عن وطنك، تضاعف قوى الحياة الخصبة فى نفسك فتشعل هذه الحياة فى أصلابك فيتفوق الوطن بكم ويعلو.. لا لخيركم أنتم فقط بل لخير الإنسانية كلها فى تقدمها المطرد صوب حضارة تنهض على الحرية والعدل». فى كلماته عن الوطنية أيضا: «المواطن القوى لا يحزن على مافات، ولا يقف بأية نكسة عارضة مستهولا وقوعها، ممعنا فى ذكرها، جاعلا منها حسرة دفينة تحز فى صدره.. وتوهن عزمه.. المواطن القوى لا يكبو إلا لينهض، ولا ينهض إلا ليثب ولا يثب إلا ليكافح.. ويظل متربصا بالمجهول، متأهبا للتحدى.. المواطن القوى جمرة وشعلة وهو إذا حرقته جمرة، أسرع وقبس منها نارا لعقله وقلبه وإرادته، وأحال تلك النار إلى شعلة». * عناصر الوطنية ويحدثنا الأديب والفيلسوف «إبراهيم المصرى» عن الشعور بالوطنية هو شعور بين أبناء الوطن الواحد بالمشاركة فى عواطف ثلاث عاطفة تمجيد، وعاطفة ألم.. وعاطفة رجاء العاطفة الأولى فهى الشعور بتمجيد الوطن ممثلا فى أروع صفحات ماضيه، أي ما بذله أبناؤه من جهود وتضحيات وفيما حققوه من مآثر عظام.. والعاطفة الثانية فهى الشعور العميق بالألم لما لحق بهذا الوطن من هزائم وما استهدف له فى حياته الطويلة من مخاطر وعذابات، أما العاطفة الثالثة فهي الشعور بالرجاء الصادق فى وصل المآثر والعظائم التى حققها الوطن فى الماضى بقوى الحاضر المتيقظ المتوثب تطلعا إلى مستقبل زاهر يمحو الألم واللوعة.. وتحاول أن تحقق للوطن عزيمة الأحياء. هذه هى العناصر التى تنهض بشعب وتؤكد وجود أمة. * إلى الشمس المضيئة كانت السماء صافية ولونها يميل إلى الأحمر الخفيف ناحية الغرب.. قال صاحب السيارة وهو يقود: «الآن نسير فى طريق مستقيم.. لن نتوه» وكانت الكلمات.. نحمد الله أننا استمتعنا بنهار جميل.. ارتاحت أفكارنا وهدأت نفوسنا لنتحمل فيما بعد ما يشغلنا من ظنون.. ليكون يوما مميزا لن أشاهد التليفزيون والمناقشات الليلية التى تسرق من عينى النوم.. السماء الآن صافية لكن ربما الأيام القادمة تكون محملة بالغيوم.. الشتاء قادم.. لا أعنى الشتاء.. بلاش فلسفة.. أخذت بنصيحة عدم مشاهدة التليفزيون قبل النوم وتواصلت مع شاعر باكستان وفيلسوف الإنسانية «محمد إقبال» فى كلماته.. الخطاب إلى الشمس المضيئة. «يا أميرة الشرق.. أيها الشمس المنيرة.. إنك تنيرين كل ذرة فى الكون.. لقد أعطى نورك شعاعا للقمر.. وأعطى الحجر لمعانه وجماله.. ويمزق النرجس مئات الحجب حتى ينال نصيبا من شعاعك. أشعلى سراجا فى ضميرى. حتى أحيل ليل أفكار الشرق نهارا.. وأشعل صدور أحرار الشرق.. الحياة تأتى فقط من حرارة الذكر.. وكذلك تأتى الحرية فقط من عفة الفكر.. حينما يتعطل فكر شعب تتحول الفضة النقية فى يده مزيفة.. ويموت القلب السليم فى الصدر.. ويبدو فى نظره الشىء المستقيم معوجا.. ويبدو الموج الهادر فى بحره مياها راكدة ويصبح جوهره كالخزف الردىء. إذا فلابد.. بداية من تطهير الفكر.. وبعد ذلك يصبح تعمير الفكر سهلا..».