ظللت لسنوات طويلة أعتبر نفسى سعيدة الحظ أننى قابلت أبلة زهرة فى بداية مشوارى الدراسى.. ولكنى مؤخراً ضبطت نفسى أضجر وأتذمر وأدعو فى سرى «منك لله يا أبلة زهرة» !!.. وأبلة زهرة هى مدرسة العربى فى مدرستى الابتدائية، استطاعت أن تجعلنى أنا ذات الست سنوات أعشق اللغة العربية وأن تجعل لمادة النحو-بالذات عندى متعة لاتعادلها متعة.. كان النحو عندها مفتاحا لفهم موضوعات القراءة والنصوص الأدبية والآيات القرآنية، بل أذكر أنها ذات يوم جاءت بإحدى الصحف ومررتها علينا كل تلميذ وتلميذة تقرأ فقرة أو خبراً تعربه ثم تشرحه.. وأشهد أننى مازلت - إلى الآن - أتبع هذه الطريقة فى قراءتى لأفهم ما استعصى علىّ فهمه.. كنت أثيرة لدى أبلة زهرة لأنى أحببت طريقتها فتعلمت منها فنون النحو وكانت تستبقينى إلى النهاية فأجيب عن سؤال استعصى على الفصل كله.. ظللت فخورة بعشقى، أشعر بتقدير زملائى عندما يلجأون لى لأساعدهم فى ضبط كلمة إعرابياً أو إملائيا.. وسنة بعد أخرى لم يعد أحد يعبأ بضبط كلامه، وأصبحت الأخطاء تملأ الجو من حولى: على أغلفة المجلات، فى اللوحات الإعلانية بل وعلى شاشة التليفزيون، أراها فأتألم وأنقل ألمى إلى من حولى، وأجدهم لايعبأون بل إن أحدهم نظر إلىَّ بريبة ودهشة وكأنه يستنكر علىَّ غيرتى على لغتى.. والآن لايمر يوم بل ساعة ولا يتحرق دمى خاصة وقد تحولت العربية إلى مسخ يلوكونها كمضغة العلق فى الأفواه.. وانتشرت اللغات البديلة الشبابية والفيسبوكية تدعمها وترسيها الأغانى الترقيصية وهلم جرا وأصبحت أنا أنفجر غيظاً كل لحظة دون أن أجد ولو حتى فرداً واحداً يشاركنى ألمى وكدمى.. أرأيتم كم جنت علىَّ أبلة زهرة !! دعونا نصغى إلى ما تقوله الكاتبة العراقية الدكتورة نازك الملائكة: «إن قواعد النحو العربى ليست إلا صورة من القوانين المنتظمة التى تخضع لها الجماعات، والجماعة التى تضيع قواعد لغتها لابد أن تضيع قواعد تفكيرها وحياتها، وإن لزوم القاعدة النحوية صورة من إحساس الأمة بالنظام ودليل على احترامها لتاريخها وثقتها بنفسها ثقة كاملة أصيلة»؛ لندرك أى فوضى نعيشها الآن.. وندرك أيضاً حكمة أبلة زهرة !!عندما حاولت بكل قوة غرس حب اللغة وقواعدها فى قلوب وعقول أطفال صغار فى عمر الزهور ..أما الآن فقلبى ينفطر ألماً على ذلك الجيل الصاعد الذى تربى على أيدى الخادمات المستوردات ويُشاهد كماً لا نهاية له من الشاشات ويتتلمذ على أيدى «الميسات» فى الحضانات والمدارس وأيضاً الجامعات الخاصة والحكومية بعد أن انتشرت الأقسام الأجنبية فى كل كلياتنا وتحظى بإعجاب الطلاب وذويهم ويتكالبون للدراسة فيها ولاعزاء للأقسام العربية، فلم تعد أرضنا العربية «بتتكلم عربى» كما كان الملحن الشهير سيد مكاوى رحمه الله يتغنى بفخر واعتزاز .. ولم نعد نعبأ بكل ماقيل عن جمال لغتنا وغزارة مفرداتها وقدرتها الهائلة على التعبير برشاقة وسهولة عن أدق التفاصيل والمعانى والمشاعر. لم يعد يحرك فينا حرص عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين على أن يظل للعربية الفصحى مكان ومكانتها بين لغات العالم لدرجة قوله «إن المثقفين العرب الذين لم يتقنوا لغتهم ليسوا ناقصى الثقافة فحسب، بل فى رجولتهم نقص كبير ومهين أيضاً». ليس هذا فحسب بل وقول الأديب الألمانى فريتاغ «اللغة العربية أغنى لغات العالم». بلا شك إن حال العربية مؤسف، ليس فقط فى مصر، بل على مستوى العالم العربى كله. وذلك بفعل أسباب عديدة ليس أقلها جمود تعليمها ومنافسة اللغات الأخرى لكن العربية فى الواقع تعانى أشد ما تعانيه بفعل فقرها الثقافى والفكرى، فهى لغة قد أصبحت على أيدى مستعمليها ميتة خالية من التجديد والإبداع.. لذا ليس عدلا أن نلوم المتعلمين على نفورهم منها وزهدهم فيها، خاصة أن معظم مستعمليها، حتى من بين اللغويين يستعملونها بصعوبة وعناء.. ولهذا كله، فإن العربية آخذة فى انقراض بالغ يؤذن بمصيرها إلى مقبرة اللغات الميتة - ولا يجوز أن نركن إلى وعد الله سبحانه وتعالى بأن يحفظها، فهو قد تعهد بحفظ كتابه (القرآن) وليس حفظ اللغة العربية - التى يمكن أن تصبح مجرد لغة لاهوتية للعبادة فقط! نعم هناك عوامل عدة تلعب دورًا مهمًا فى تقليص دور العربية فى حياتنا أولها التكنولوجيا فهى كلها بلغات أجنبية، لكن ألا يمكن أن نرد تدهور اللغة العربية إلى أسباب أخرى مثل: الزحف السريع للغات الأخرى التى خطت معالم التفوق جاعلة اللغة العربية ميتة ؟هذا رغم أنها لغة ذات قدرة كبيرة على التعبير بشهادة الأغراب قبل الأتراب ولكننا لم نصل لمستواها أصلا للأسف.. وعندما نحرص على التثقيف بالكلمات العربية والنصوص القرآنية والأدبية القديمة والحديثة وعندما نعود لتذوق النصوص الأدبية الجميلة التى كانت تدرس زمان، أيام كان هناك أساتذة أكفاء حلموا وآمنوا بالتغيير بل اعتقدوا أن التغيير يمر عبر بوابة الأدبى والثقافى قبل أن ينهار المدرس ويتخلى عن وظيفته النضالية والتربوية ويتفرغ للدروس الخصوصية ولبناء فيلته ولتطعيم رصيده البنكى .. سوف يخرج من هذا الجيل أناس تستطيع أن تعيد العربية إلى مكانتها فلا لغة تستطيع أن تجارى العربية فى التعبير . إن حقيقة المأساة هى غياب تصور واضح وبرنامج محدد الأهداف والغايات من نظامنا التعليمى بل أذهب بعيداً وأؤكد أن هناك غياب تصور لنظامنا السياسى لأفقه المستقبلى، وكل المشاكل التى نتخبط فيها هى نتيجة لغياب البعد المستقبلى لنظامنا السياسى فى كل أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية.. فاللغة العربية هى أبلغ مظهر لِتَجَلِّى عبقرية الأمة العربية. وهى مستودع تراثنا كله .. وأخيرا لست متشائمة ولكننى حزينة فكلما اتضحت الرؤية اللغوية ازدادت الضبابية للقادم، وكل ما يقال أو سيقال حول اللغة العربية ومصيرها سيبقى نفخا فى قربة مقطوعة ما لم تكن هناك رؤية واضحة لأصحاب القرار، وقرار سياسى إلزامى وقوة تنفيذية تحمى نفس القرار .. وبمنتهى الألم أقول إننا نعانى من أزمة أمة قبل أن تكون أزمة لغة. كلى أمل أن ينصلح حال معشوقتى - لغتنا الجميلة - ضمن خطة الإصلاح الشامل الذى تمنينا به ثورات الشعوب العربية ..وساعتها سوف أعود مرة أخرى سعيدة الحظ بأبلة زهرة !!