عندما ذهبنا لحضور العرض المسرحي «ورد الجناين» لم نكن نتخيل أن يمتزج الخيال بالواقع.. وتختلط دموع الحاضرين بدموع الممثلين فتخلق ملحمة رائعة في نفوس كل الحضور. فما أجمل أن تعطي وتمنح أغلي ما تملك حتي لو كانت حياتك نفسها من أجل مبدأ تؤمن به.. أو من أجل هدف.. خاصة لو كان هذا الهدف من أجل وطنك وناسك، ما أجمل أن يكون عندك أمل في تحقيق أحلامك وآمالك حتي لو كانت كل الظروف تزج بك إلي بحر اليأس. هذا ما فعله شباب ثورة 25 يناير.. وهذا ما عرضته مسرحية «ورد الجناين» التي تعرض علي مسرح السلام من تأليف محمد الغيطي وإخراج هاني عبدالمعتمد، والتي دعت مصابي الثورة لحضور المسرحية في عرض خاص تحية وتقديراً لدورهم وعطائهم وعرفاناً بإسهاماتهم الغالية في إنجاح الثورة المصرية. تجسد المسرحية التي يقوم ببطولتها الفنان الكبير جمال إسماعيل ومحمود مسعود ومجموعة من الشباب «إيمان أيوب وميار الغيطي وياسر الطوبجي وباسم الشريف وحسام ضيافي ومحمد عادل» تجسد المسرحية أحداث الثورة بدءا من يوم 25 يناير بكل ما تحمل من تفاصيل حلوة ومرة. حيث بدأت بالمظاهرات التي تنادي «سلمية.. سلمية» وهي الكلمة التي هتف بها الشباب أمام قوات الأمن المركزي ليأمنوا أي رد فعل عنيف من جانبهم.. قامت قوات الأمن المركزي بضربهم ومنعهم أو بالأحري محاولة منعهم عن التعبير السلمي عن مطالبهم، وبدأت المسرحية تشير إلي سقوط الشهداء واحداً تلو الآخر وذكرت بعض الأسماء الحقيقية وأخري من خيال المؤلف الرائع وتفاعل جمهور الحاضرين والذين كان أغلبهم من مصابي الثورة، وخاصة من يوم موقعة الجمل وجمعة الغضب الأولي.. حتي أنه مع سقوط «الشاعر علي» في المسرحية دوت صرخة من البلطجية دمروا مستقبل علي.. أم مكلومة صرخت قائلة.. «آه ياعلي.. ياحبيبي ياابني» فقد كانت هذه السيدة أم لشاب اسمه «علي سيف» شاب في مقتبل عمره.. كاد أن ينهي دراسته في الجامعة إلا أنه وهو عائد من كليته أوقفه مجموعة من البلطجية وسألوه.. هل أنت ذاهب للتحرير.. فأجاب «ياريت سأحاول» وما كان منهم إلا أنهم جذبوه من سيارته وأوسعوه ضرباً علي رأسه وظهره.. فكانت النتيجة أنه أصبح يتكلم بصعوبة وأصبح عاجزاَ، غير قادر علي الحركة عندما تحدثت إليه، قال لي وهو يحاول جاهداً أن ينطق الكلمات بشكل صحيح «البلطجية.. ضربوني وأحرقوا سيارتي الله يخرب بيتهم.. الله يخرب بيتهم». وتصور المسرحية كيف كان الأقباط والمسلمون يداً واحدة، فكيف كانت «مارينا» تساعد «كريم الإخواني» علي الوضوء.. وكيف كان يلتف المسلمون حول المسيحيين أثناء الصلاة لحمايتهم والعكس.. فرصاص الغدر لم يختر أو يفرق ما بين مسلم وقبطي. • ظهري فداء للشاب المسيحي فعندما كانت بين الحاضرين الممرضة راندة سامي وهي واحدة من المصابين التي تركت أولادها وبيتها لتمد يد العون والمساعدة للشباب في الميدان وتخيط جراحهم كان أحدهم شاباً مسيحياً ضربه أحد الضباط علي رأسه وطلب منها تركه لأنه يريد القبض عليه.. فرفضت تسليم الشاب المسيحي حتي أنها ألقت بجسدها كله علي الولد محاولة لمنع العساكر أخذه منها قبل إكمال علاجه.. ولكن الضابط هوي علي ظهرها بالشومة.. ثم بالعصا الكهربائية علي جنبيها.. حتي فقدت القدرة علي الحركة.. لم تترك «راندة» الميدان بعد الإصابة، بل ظلت صامدة خمسة أيام وهي لا تعلم أن ما بها يحتاج إلي دخول فوري للمستشفي وعمل عملية جراحية فوراً.. وفي حديثها معنا قالت ستعود روح الميدان.. الأقباط والمسلمون سيظلون يداً واحدة. • ارفع رأسك فوق لم ينس مؤلف المسرحية الأبطال المجهولين في الثورة وهم أهالي المنطقة الذين كانوا يخفون بها الشباب ويفتحون أبوابهم لهم لدخول الحمام وغيره، قام بهذا الدور الفنان الكبير «جمال إسماعيل» الذي أبدع وتأثر به جمهور الحاضرين حتي أنه في المشهد عندما قال منذ 30 عاماً وأنا أغلق بابي أنا وزوجتي العاجزة علي أنفسنا لم يفتح بابنا لغريب.. إلا لشباب الثورة.. أحفاد أبطال أكتوبر ومصطفي كامل وسعد زغلول».. علي هتاف الناس.. «الله أكبر.. الله أكبر» وعاد ليقول أنه كاد أن ينسي جملة «ارفع رأسك فوق أنت مصري» إلي أن أعادوا له الشباب ذاكرته وأعادوا لهذه الجملة لرأسك فوق أنت مصري.. ارفع رأسك فوق أنت مصري. • عيون صناعية ثمناً للحرية شباب في عمر الزهور فقدوا أعينهم كانوا يبكون أثناء العرض المسرحي لم تكن دموعهم حزناً علي أنفسهم بل فرحاً بما حققوه.. فيقول «محمد دياب» 23 سنة عامل نقاش وهو مصاب في عينه اليمني بطلق ناري أدت إلي فقدان عينه وتركيب عين صناعية تبرعاً من أهل الخير.. وعلي الرغم من إصابته التي عرقلت حياته إلا أنه سيظل يذهب إلي ميدان التحرير احتجاجاً علي أي شيء فاسد أو ظالم. أما مني حافظ الفتاة السمراء الجميلة التي فقدت أيضاً عينها اليمني إثر رصاصة من أحد القناصة فتقول إن المسرحية قد جسدت كل الأحداث بإحساس رائع.. وأن هذا الإحساس قد طغي علي إحساسها بالحزن علي ما فقدته، وأنها مستعدة لتفقد حياتها وليس عينها فقط من أجل مصر لكي تصل لما نحلم به جميعاً.. يجب أن نضحي جميعاً لكي تصل مصر إلي الهدف الذي نتمناه وتامر علي، محمد عبدالله، سعيد محمد، علاء محمد.. كل هؤلاء شباب فقدوا أعينهم فداء لوطنهم.. وعلي استعداد لدفع أكثر من الثمن الذي دفعوه، لبذل المزيد من العطاء حتي تؤتي الثورة ثمارها كاملة وعندما سألناهم عن التعويضات.. ضحكوا.. وقالوا لم تصلنا أي تعويضات بل حتي العلاج كان تبرعاً من الناس المقتدرين وليس من الدولة. ومع ختام عرض مسرحية ورد الجناين والذي حرص علي حضوره وزير الثقافة عماد أبوغازي والكاتب الكبير لويس جريس وعدد من كبار المثقفين طالب الحضور من مصابي ثورة 25 يناير بضرورة استمرار العرض لفترة أطول وتصويره وعرضه تليفزيونياً.. حتي يتسني للجميع الاستمتاع بهذا العرض المسرحي المتميز. محمد أحمد: أهديت مصر عيني ثم اتهموني بأني غير مصري لم يفرق الرصاص الغادر بين مسلم ومسيحي في ميدان التحرير كما أنه لم يفرق بين شاب والده مصري وآخر والده فلسطيني، أو سوري أو غيره.. فكلهم نزلوا إلي المظاهرات وكلهم دفعوا الثمن غاليا فمنهم من روي أرضه بدمه ومات شهيداً.. ومنهم من أصبح قعيداً أو فقد عينه مثل محمد أحمد الشاب الذي فقد عينه اليسري إيماناً منه بأن الحياة نفسها رخيصة علي وطنه مصر.. ولكن لم يجد محمد سوي الإهمال من الجهات الرسمية.. فما من مكان ذهب إليه مستنجداً للعلاج إلا وقالوا له «أنت مش مصري».. وعندما طالب بحقه في التعويض صارحوه قائلين: «عندما نعطي المصريين تعويضاً.. سنعطي العرب» هل من دفع دماءه فداءً لمصر يسأل بعد ذلك عن هويته.. لِم لَم يفرق الرصاص بين المصري والفلسطيني الأصل؟! فهذا الشاب نزل إلي الميدان وهتف وأصيب ولم يفكر إذا كان أبوه مصري الأصل أم لا، بل كل ما فكر به هو أن هذا هو البلد الذي تربي به، وعاش به ويجب أن يدافع عنه.. هذا فقط كل ما فكر به.. وحتي الآن يقول لن أتراجع.. سأدافع عن بلدي مصر رغم أنف الجميع.