هل تتذكرون من الذي أشعل الثورة التونسية؟ إنه «محمد بوعزيزي» الشاب البسيط من حملة المؤهلات العليا، والعاطل، والذي اضطر أن يعمل بائعا متجولا للخضار علي عربة يد!! والذي صفعته شرطية تونسية علي وجهه فأهانت «كرامته» وأصابه الاكتئاب فانتحر «حرقا» ومات!! مثله أيضا مصريون كثيرون دفعوا صحتهم وحياتهم ثمنا غاليا لأن «كرامتهم» أهينت وتم التنكيل بها!! فمن هم هؤلاء «القساة» من حولنا الذين يملأون الدنيا قهرا وظلما وعداء وألماً وبطشاً؟!! يقول الثائر العظيم «جيفارا».. «لا تسأل الظالم لماذا ظلم، بل اسأل المظلوم لماذا قبل الظلم»!! تصوروا مشكلة كل إنسان فينا هي «إنسان آخر»!، ففي حياة كل منا إنسان يكدر حياته، يعكر صفوها، يجعل مذاق الأيام مرا، يجهض الفرح، يسرق الأمان، يقلق ويخاف من إنسان، يكتئب وتصبح حياته نكدا وهما وغما بسبب إنسان، حتي العناد الغبي زمان في عدم الاستجابة بإلغاء «التوقيت الصيفي» وما يسببه من ضيق ومعاناة وقرف للناس كان بسبب إنسان، وإنسان يصاب بجلطة القلب أو الشلل أو السكر بسبب إنسان، وقمة المأساة.. هي إنسان يكره الحياة و«يموت» بسبب إنسان!! لا أحد ينكر أن المصري قبل ثورة 25 يناير كان عاجزا، مكتوف اليدين، محطم النفس، أصابته أمراض الدنيا، مستسلما، يميل إلي الرضوخ، لا هدف للحياة عنده، لايبذل أي مجهود لإثبات شخصيته، ليس له أثر ذاتي، وجوده يشبه العدم، وهذا هو سر شعوره بالفشل والزهد في الحياة والإعراض عنها، فهو أقرب إلي من يعيش في خرائب من الحطام، حطام الآمال المنهارة والقيم المتهدمة، لأنه يري بعينيه كل يوم أن كل من يتولي منصبا من الطغاة والمستبدين يتفنن في تدمير «احترام الذات» وإهانة «كرامة» المواطن المصري، وغرس شعور سلبي لديه بأنه «غير ذات قيمة» ولا وزن له، وهو ما كان يراه في تعاملاته اليومية مع أي مدير مسئول، ناظر مدرسة، رجل شرطة، موظف في سفارة أو قنصلية، مدرس، أستاذ جامعة، موظف شهر عقاري أو سجل مدني.. وهكذا. فالمستبدون في كل العالم، لايحبون الحق ولا العدل ولا الخير، ويرددون في أنفسهم أنهم أقوياء، مهمون، مهابو الجانب، لا يحترمون الناس، ولا يحترمون أي شيء، ويمارسون العدوان علي الأفراد، ويتلذذون بتعذيب وظلم وإهدار كرامة المواطنين!! والمحزن أن كل ذلك للأسف كما يؤكد علماء الطب النفسي يرجع لإصابتهم بأمراض واضطرابات نفسية!! عدم الخوف.. يكسر الهيبة والغرور في مؤتمر صحفي بالخارجية أعجبني جدا «د.نبيل العربي» وزير الخارجية الذي أتفاءل به خيرا في إعادة الهيبة والاحترام للشخصية المصرية في الداخل والخارج، وذلك عندما قال «إن ثقافة التعامل مع الجمهور في جميع المؤسسات المصرية قبل الثورة كانت معيبة، وأنه أصدر توجيهات لكل القنصليات لإعادة النظر في كيفية التعامل مع الجمهور وحسن المعاملة، بعد أن وصلت شكاوي من قبل تفيد بأن دخول القنصليات كان يشبه دخول أقسام الشرطة مع الفارق في التشبيه»!! حقا.. هي مأساة أن يشعر الإنسان أنه غريب في وطنه ومضطهد من أبناء وطنه الذين يرأسونه!! صدقوني نفسي أعرف من الذي أعطي «بعض» المسئولين وأصحاب السلطة والمناصب الكبيرة «الحق» لكي يتعاملوا معنا باعتبارنا «أولاد البطة السوداء»؟! من الذي أعطاهم «القوة» أن يتعاملوا معنا بهذا القدر الهائل من «القسوة» والعنف والبطش؟! من سمح لهم بإهانة «كرامتنا»؟! وتدمير احترامنا لذاتنا؟! لماذا يعيشون فوق قدرهم وهم لا يستحقون؟! ويضعوننا نحن دون قدرنا!! لماذا يقابلوننا دائما بمشاعر العداء والعدوانية؟ حتي إيقاع الألم والأذي بنا كان يسعدهم!! أي «شخصيات مريضة» هذه التي كانت تتعامل معنا؟! لقد كانت المصيبة أن المسئول وصاحب السلطة والمنصب الكبير عندما يشعر أن الناس تهابه وتخاف منه فإنه يصبح أشد تعنتا وقهرا واستبدادا وظلما، ولذلك علي المواطن ألا يكون صيدا ثمينا، ويخاف، بل يجب عدم الاكتراث برأي هؤلاء المستبدين فيشكون في قدراتهم وصحة آرائهم، لأن عدم الخوف وعدم الإذعان يكسر الهيبة والغرور والاستبداد. الإنسان «القاسي» هل هو مريض؟! الإنسان «القاسي» هل هو مريض أم صاحب شخصية مضطربة؟! لقد أعجبني تفسير رائع جدا قرأته للعالم النفسي الكبير «د.عادل صادق» أستاذ الطب النفسي، يؤكد فيه أن «الشخصية القاسية» هي «شخصية سادية» أمرها عجيب، وعلاقاتها بالآخرين تقوم علي «القسوة والعنف»، فالشخصية القاسية تلجأ في كل الأوقات إلي القسوة البدنية والعنف الشديد لكي تفرض سيطرتها علي الآخرين، فالسادي مثلا ليس هو «البلطجي» الذي يفرض سيطرته علي الناس بالعنف لسرقتهم وابتزازهم، إنما هو يريد أن يكون الأقوي المرهوب، والآخر هو الضعيف الخائف، ولا يتحقق ذلك إلا بالقسوة والبطش والتهديد المستمر!! الإنسان القاسي.. يطلب من الآخرين أن يطيعوه طاعة عمياء ووسيلته في ذلك إخافتهم وإرهابهم، ويرفض تماما أي معارضة، أو أي رأي مخالف، ويتلذذ بتقييد حرية الآخرين والتحكم المطلق في تحركاتهم، ويتلذذ أكثر وهو يراهم يتألمون لحرمانهم من حقوقهم وهم عاجزون عن الدفاع عن أنفسهم، وهو لا يسعده تنفيذ اللوائح والقوانين وإنما يسعده البطش والتعسف، وإهانة الآخرين وإذلالهم، والعجيب أن السادي أو الشخص القاسي داخله ضعيف وواه، يعاني الخوف، فاشل وعاجز، يخشي إيذاء الآخرين له، ولذلك فهو يبدأ بالهجوم والعنف والإيذاء، وحين يري الخوف والرعب في عيون الآخرين يطمئن، وهو شخصية مريضة لأنه دائما يعامل بقسوة متناهية من يعملون تحت إمرته، ويتحين الفرص لإهانتهم والتقليل من شأنهم وتحقير ما يؤدون من أعمال والعجيب أنه يشعر جدا باللذة والرضا وهو يشاهدهم يتألمون ويتعذبون!! إهانة «الكرامة».. ماذا تفعل بصحة الإنسان؟! إهانة «الكرامة».. ماذا تفعل بصحة الإنسان؟! يؤكد علماء الطب النفسي أن إهدار الآدمية، وتحقير الذات، والقسوة والبطش والتنكيل، والشعور بأن الإنسان لم تعد له قيمة، كل ذلك يؤدي إلي الاكتئاب، والاكتئاب يؤدي إلي الانتحار، وهو ما حدث للشاب التونسي «محمد بوعزيزي» ويفسر ذلك «د.عادل صادق» أستاذ الطب النفسي بأن هناك أمراضاً عضوية أسبابها نفسية وهي ما تعرف بالأمراض «النفسجسمية»، حيث يلعب العامل النفسي الدور الحاسم في ظهور المرض والأعراض التي يشكوها المريض، فمثلا القلق المستمر والمزمن بسبب أحداث الحياة التي يتعرض لها الإنسان، والانفعال الحاد والغضب المكتوم يصاحبه ارتفاع «ضغط الدم» وزيادة في إفراز الحامض المعدي الذي قد يسبب «القرحة» والأزمات الصحية المفاجئة مثل جلطة شرايين القلب أو المخ تحدث في الغالب عقب انفعال حاد، هذا الانفعال يؤدي إلي زيادة كمية الأدرينالين في الدم والذي يؤدي إلي تجمع الصفائح الدموية وتلاصقها وتحدث الجلطة التي تسد الشريان. والاضطراب النفسي والضغوط التي لا تنتهي وإهانة الكرامة وتحقير الذات كل ذلك يؤدي إلي ظهور مرض «السكر» الكامن أو تسمم الغدة الدرقية، والقلق النفسي المزمن يصاحبه التهاب كل «الجلد» وسقوط الشعر، ومرض «الروماتويد» الذي يصيب المفاصل له علاقة بالحالة النفسية السيئة، وضغوط الحياة والتعرض للتهديد المستمر لها علاقة بقرحة المعدة والاثني عشر والقولون العصبي، وحتي «الربو الشعبي» يراه المحللون النفسيون أنه غضب مكتوم تزداد أزماته مع شدة الاضطراب النفسي، والآلام المرهقة «للصداع النصفي» أسبابها سوء الحالة النفسية، وحتي «جهاز المناعة» يتأثر بالقلق المزمن والانفعال ويصبح ضحية للأمراض الميكروبية والفيروسية، بل إن هناك أبحاثا حديثة تشير إلي وجود علاقة بين الاضطراب النفسي وظهور الأورام، وهكذا دفع المصريون الثمن غاليا من صحتهم وحياتهم خلال الثلاثين عاما الماضية.. ولم يبق لهم إلا الدعاء والأمل، والرجاء في الله.