كان الواحد منا لا يعرف كيف امتلأت ساعات العام الماضى بركود غريب، ثم حدث انفجار الشباب ليدفع بعقارب الساعات كى تجرى بسرعة لا تلاحقها دقات القلوب. وعندما جاء الرابع من مايو من عام 2010 كان علينا أن نودع من رفض ركود الزمن وامتلك دائما قدرة الحلم على صناعة الأمل، كان علينا أن نودع شيخى ومولاى محمود السعدنى ولى الله الصالح الذى أضاء قلبه كلماته الحالمة بالعدل، ولم تكن دموع الفراق قادرة على أن تزيل ابتسامات السخرية التى أضاء بها محمود السعدنى حياتنا، فهو من لم يترك أمرا فاسدا إلا وقاتله بشراسة، ودفع ثمن ذلك فوق ما يحتمل كائن بشرى. أما مقالب محمود السعدنى فهى دائما تثير ضحكات من الأعماق، وهل أنسى ذلك اليوم القديم حين امتلك العم محمود فولكس فاجن زرقاء، وكنا نضحك عليها قائلين «عربة بلا فرامل»، وأعجبته السخرية من سيارته، فصحب ذات ظهر توفيق الحكيم بجانبه، وانطلق بالسيارة مسرعا وهو يقول للحكيم «اهتف محمود السعدنى يكتب أحسن من توفيق الحكيم وإلا سأدخل بك فى سور قسم الدقى»، فهتف توفيق الحكيم بما قاله محمود السعدنى، ثم اضطر العم محمود أن يوقف السيارة فى إشارة مرور، ففتح توفيق الحكيم باب السيارة لينزل مسرعا وهو يقول «طبعا توفيق الحكيم يكتب أحسن مليون مرة من السعدنى.. إنت فاكر نفسك إيه؟» وغرق محمود السعدنى فى الضحك. لا يسألنى أحد متى عرفت محمود السعدنى، فقد كان اليوم الصعب هو واحد من أيام عام 1958 لعله اليوم الأخير من أيام ذلك العام، وكان لمحمود السعدنى كتاب بعنوان «السماء السوداء» وقيل لنا إن محمود السعدنى قد تم اعتقاله مع كل اليساريين المصريين، وكنا كطلبة بآداب الإسكندرية، نرى فى أهل اليسار المصرى خلاصة الأمل الذى يخصنا جميعا بأن تزدهر مصر بالعدالة، ولم نندهش لأنهم قبضوا على محمود السعدنى، لأنه كان الأكثر قدرة على قراءة آلام المصريين بأكثر بكثير من أهل اليسار، ولكنا لم نشك يوما بأنه كان عضوا فى تنظيم شيوعى أو اشتراكى، فهو من عشاق البسطاء، ثم أليس هو من أصدر جريدة الجمهورية ببيروت حين بدأت إنجلترا وفرنسا وإسرائيل حربها على مصر فى عام 1956 ثم أليس هو الصحفى الوحيد الذى شاهد ووصف لنا لحظة خروج الإنجليز من مصر بعد تلك الحرب؟. لم نصدق أن جمال عبدالناصر رمز الثورة المصرية يمكن أن يعتقل واحدا ممن حاربوا بجانبه، ولكن للثورات دائما أحكام غريبة، فهى قد ترتكب من الحماقات ما يعلو على الفهم أو التحليل، ولكن السعدنى خرج بعد أشهر قليلة، فقد ثبت عدم انتمائه لأى تنظيم سياسى. وهكذا ظهر الساخر الجميل فى روزاليوسف لفترة بسيطة، ثم انتقل إلى جريدة الجمهورية ليكون مع أحد أساتذته كتلة الفن المتحركة، الكاشف للمواهب فى تلك الأعوام، وهو الشاعر الكبير كامل الشناوى. ولكن سرعان ما تغير حال جريدة الجمهورية ليتم فصل العديد من كتابها، منهم محمود السعدنى وعبدالرحمن الخميسى، ولتدور الضحكات الساخرة من جديد، ليطل علينا العم محمود من صفحات صباح الخير وروزاليوسف. ولم أكن أدرى أن القدر يخبئ لى حظا رائعا حين اختارنى محمود السعدنى بعد زواجى بأيام قليلة كى أكون سكرتير تحرير صباح الخير، ولا أنسى كيف طالبنى بأن أجرى أحاديث من كبار الصحفيين الذين تعدوا السبعين مثل محمد التابعى وأحمد الصاوى محمد، ولن أنسى ترحيب الأستاذ التابعى بى لمجرد علمه بأن من اختارنى لإجراء الحديث معه هو العم محمود. وتمضى الأيام لنفقد جمال عبدالناصر، ورغم إعصار الحزن العارم، إلا أن العم محمود قام بإجراء سلسلة حوارات لم تصدر فى كتاب إلا أنها من أدق الحوارات التى وصفت شخصية جمال عبدالناصر بعيون من تعاملوا معه. ولم تمض سوى شهور قليلة، حتى ينقلب السادات على كل من ارتبط بجمال عبدالناصر بما سمى «مراكز القوى»، وطبعا كان محمود السعدنى واحدا ممن تم اعتقالهم، نتيجة نكتة لا أعلم هل العم محمود هو من أطلقها؟ أم الكاتب الراحل عباس الأسوانى، حين تم التسجيل له ب «أن جمال عبدالناصر رغم عظمته قد أذاقنا الخوف طوال ثمانية عشر عاما، ويبدو أن السادات سيميتنا من الضحك بعد ثمانية عشر يوما من حكمه لنا». واختفى محمود السعدنى من جديد خلف القضبان ليضع السادات دفتر البريد الخاص به وبأسرته تحت الحراسة، ولم يكن بهذا الدفتر سوى عدة جنيهات بسيطة. وتمر شهور قليلة ثقيلة ليخرج العم محمود من المعتقل، ولكن هناك قرارا من السادات يطارده بالمنع من الكتابة. ويقوم عثمان أحمد عثمان بإيجاد وظيفة على الورق للعم محمود بالمقاولين العرب، ولكن هل يستطيع العم محمود أن يعيش بلا كتابة؟. وتأتى له فرصة السفر إلى بيروت ومن هناك إلى الخليج، وكان السعدنى يحتل مكانة هائلة فى قلب الشيخ زايد مؤسس دولة الإمارات وحاكم أبو ظبى، فهو من سخر بصوت العرب طوال سنوات ضد احتلال إنجلترا للخليج، وهو من كشف عن أطماع إيران فى الخليج العربى بأكمله، ولذلك كان التكليف من الشيخ زايد لمحمود السعدنى بأن يصدر جريدة باسم «الفجر» تحمل خطا عربيا واضحا للدفاع عن عروبة الخليج. ولم تكن إمارة أبوظبى فى تلك الأيام تزيد عن عدة أحياء بسيطة وفندقين كبيرين، وأرسل لى برقية من ثلاث كلمات «احضر الفيزا بالمطار». وكأنه كان يعلم بيقين أنى لا أطيق مخالفة نداء له، فوضعت ملابسى فى حقيبة، وركبت الطائرة إلى هناك، ولم أسأل عن أجر أو مكان إقامة. وما إن أصل إلى أبوظبى، حتى يسألنى العم محمود «لماذا لم تسأل عن المرتب أو عن ترتيب إقامتك؟» عاتبته على سؤاله، لأفاجأ بأنى أقيم فى جناح بفندق الخالدية أرقى فندق بأبو ظبى، وأجد راتبى يفوق راتب أى صحفى سافر إلى الخليج. ولم تكن هناك مطابع بأبو ظبى قادرة على طباعة جريدة أسبوعية، فكان لابد أن نجهز العدد فى ثلاثة أيام لأسافر إلى الكويت، لنطبعه هناك، ثم نعود لنشرف على توزيعه بأبو ظبى ودبى والشارقة وبقية الإمارات، لتتواصل الجولة من جديد. وما إن يأتى السادات لزيارة الإمارات حتى أسمع عبر التليفون صوت عثمان أحمد عثمان، وهو يسألنى عن العم محمود، فأخبره برقم هاتف منزله، لأفاجأ بأن عثمان قد رتب لقاء بين السادات وبين العم محمود، ودعاه السادات للعودة إلى مصر، ولكن الشكوك ملأت قلب العم محمود، فالسادات لا صديق له. ولكن الأيام بأبو ظبى صارت صعبة، فحساسية الصدر تنبئ بأزمات كبيرة، وأطلب من العم محمود أن أعود إلى القاهرة، فلا يرفض الرجل. وأعود معززا مكرما، لأجد السؤال على فم العم حسن فؤاد حبيب السعدنى وحبيب كل ما يمكن أن يضيف للأمل ولو حلما بسيطا، وكان السؤال هو «كيف حال محمود السعدنى؟»، ولم تكن هناك كلمات يمكن أن تروى أشواق حسن فؤاد لمعرفة مشاعر العم محمود. إلى بغداد، ثم إلى لندن يسافر العم محمود، وفى بغداد يذوق الويل الصعب على يد أجهزة قمع هائلة تطلب من اللاجئ السياسى أن يستبدل تاريخه بالولاء لحزب البعث، وكان أكبر أداة للقمع هو طارق عزيز، وكان هو السبب المباشر الذى غادر به السعدنى بغداد إلى لندن ليؤسس مجلة 23 يوليو، تنقد أحوال العالم العربى بأكمله. وكل ذلك وأسرة العم محمود تنتقل من بلد إلى بلد، ولكن ما إن يموت السادات بطلقات رصاص من أفرج عنهم وقاوم بهم عهد عبدالناصر، وهم الجماعات الإسلامية، ما إن يتم ذلك حتى يعود العم محمود السعدنى، ليكون قلما مضيئا وخلابا يمارس به الانحياز للفقراء وضد كل من تسول له نفسه الاقتراب من مكاسب23 يوليو التى أخذت فى التآكل. وهل أنسى ذلك الحفل الذى أقامته روزاليوسف بمناسبة واحد من أعياد ميلادها، وما إن يحضر عاطف عبيد وكان يشغل منصب رئيس وزراء مصر، وأرى عاطف عبيد يمد يده للعم محمود فيرفض مصافحته، فتساءلت هامسا «إنه رئيس وزراء مصر.. كيف لا تصافحه؟» فيجيبى: «هذا سمسار بيع مصر». ريشة عصام طه كان المفترض أن أستعرض فى سطورى تلك رحلة العم محمود مع تاريخ مصر فى كتاب ضئيل الصفحات، لكنه أغنية عشق طويلة لما مر على مصر من محن وكروب، وأطماع من بداية دخول عمرو بن العاص إليها، وإلى عصر جمال عبدالناصر، وهو كتاب يبدو كنشيد إنشاد من عشق نورانى خاص لتفاصيل حياة المصريين وتضحياتهم وكبواتهم ، وقدرتهم على تخطى المحن. حين ذكرنى أكرم السعدنى الكاتب المقتدر ابن أبيه حقا وصدقا بمجىء ذكرى رحيل العم محمود قلت له «لو كان قد سألنى قبل الرحيل عن رأيى فى رحليه عن عالمنا لصرخت غاضبا منه، ولذلك لاتذكرنى مرة أخرى بميعاد رحيله، بل عليك أن تدعونى للاحتفال به فى يوم ميلاده»، وغرقت فى سطور كتاب «مصر من تانى» لأجد العم محمود وهو مولود منذ الأزل راصدا لحظات التاريخ المصرى وهى تحكى أيامنا التى نحياها دون أن يكون حاضرا معنا بالجسد. وعلمت أن نهر كلمات العم محمود كاف بشكل متجدد أن تكون نورا يكشف أمامنا بعض ما نعيش ولا نعرف له جذورا. رحم الله العم الجميل.