لم تقع عليه عين مخلوق وهو يهبط فى ليلة النَفْس الواحدة، لم ير أحد زورق الخيزران يغوص فى الحمأ المقدس؛ بعد أيام، لم يكن أحد يجهل أن الرجل الصامت جاء من الجنوب وأن وطنه ما هو إلا إحدى الضياع اللانهائية فى أعالى مصب النهر، على الجانب الوعر من الجبل، حيث لم تدنس اليونانية لغة الزند ويندر الجذام. ما حدث هو أن الرجل قبّل الحمأ وبلغ البر دون أن يتجنب الصخور التى كانت تخدش جلده وتمزق لحمه، ربما لم يشعر بها أصلا، وزحف جريحًا وقد أصابه الدوار حتى الساحة الدائرية التى يتوجها نمر أو مهر من الصخر كان له ذات مرة لون النار وله الآن لون الرماد. هذه الساحة الدائرية معبد التهمته الحرائق القديمة ودنسته غابة المستنقعات. تمدد الغريب أسفل قاعدة التمثال وأخذته سِنة. أيقظه لهيب الشمس الحارق. تحقق بلا غرابة أن جروحه اندملت، فأغمض عينيه الممتقعتين مرة أخرى وراح فى النوم ليس لخوره الجسدى بل بوازع من إرادته وحدها. كان يدرك أن ذلك المعبد هو المكان الذى سيحقق فيه غايته التى لا تُقهر ولا تُصد، كان يدرك أن الأشجار المتنامية لم تتمكن من خنق أطلال معبد آخر مواتٍ أسفل النهر، كان يدرك أن واجبه التالى هو النوم وحده. الهواء ساكن، ولكن بمجرد أن تفتح فمك، فإن رعشة تعتريك مثلها مثل تلك الرعشة التى تحسها عندما تهم بارتشاف جرعة من كأس من الماء المتجمد. بين فينة وأخرى، تتهادى بعض أوراق الشجر التى تهب بها الرياح، آتية بها من لا مكان، من تحت أديم السماء. نحو منتصف الليل، أيقظته صرخة فظيعة لطائر يتألم. وأنذرته آثار أقدام حافية وثمار التين وجرّة بأن أهالى المنطقة راقبوا نومه فى تهذيب وأنهم كانوا يطلبون حمايته أو يخشون سحره. أحس ببرودة الخوف فالتمس فى السور المتهدم ضريحا وغطى نفسه بأوراق شجر مجهولة المصدر. هناك الأشجار النحيلة تسقط أوراقها الصفراء، ومن خلال تلك الأشجار يظهر شريط من البحر وفى الخلف تظهر السماء الزرقاء محملة ببعض السحب المتشحة بعروق ذهبية. رأى بعين الخيال غير مرة تجسُّد ذاته فى الحلم والأسطورة، والعلاقة بينهما، فى تجليات الأسطورة بعوالمها الخارقة للطبيعة وأبطالها الاستثنائيين، دروبها وأوقاتها وما وراء تلك الأمكنة والأزمنة. ولطالما قاده ذلك إلى الإتيان بأمثلة على الكيفية التى يتنفس معها الحلم هواء الأسطورة، وكيف يتاح للمخيلة أن تمتح من ماء الأسطورة، ومن تربة العالم الميثولوجى، ممّا هو سحرى وغامض وغير مدرك فى ظاهر الحركة، وممّا يجول فى أعماق الكينونة الإنسانية. ولطالما فكر أن ذلك يحدث فى تزاوج أعجوبة بين قصص وأمثولات متحدرة من زمن وثقافات بائدة، وبين مساحات من حركة الوعى الشعرى لبشرى فى جغرافيا متكاملة تؤسسها مغامرة الباحث مع الأصل، وتتصل غالبًا بأحلام اليقظة، حيث تجليات لا نهاية لها لما يمكن أن ينتج عن هذا التزاوج بين ميزات مدهشة لعوالم عجيبة تتلاقى فيها الأزمنة والأمكنة والأسماء والوجوه والأجسام والأقنعة والنمور والبوارق والحكايات فى صيغ إبداعية تتفوق على الحكاية الأصل عبر انزياح كاسر، غير متوقع يستدعى معه الحكاء الأسطورى إلى الشعرى لا كما فعل التمّوزيّون العرب قبل نصف قرن ونيف، ولكن على نحو يولّد الخرافى من عمل يتفاعل مع الأسطورى لا يكرر، هذه المرة، الحكايات والأمثولات فى محاكاة يسلّم راويها بالأسطورى قناعًا وحشيًا نهائيًا وحكايةً تتحدر من تمثال حجرى، وإنما بوصفها صورةً لنمر ترتج على صفحة النهر، صورةً قابلةً للحركة للحياة، ولإعادة التحريك والميلاد، وفى جغرافية لعبته الروائية كسرًا وانزياحًا يتيحان له فى القصيدة خلق أيقونات وشعارات وأمثولات، رموز وإشارات، وعلامات جديدة كل الجدة، أحيانًا ما تكون صادمةً ومدهشةً لما فيها من انتهاك للأصل على سبيل فتح قنوات تتيح دفق مياه نهر جديد بين جغرافيات غابة الخيال الإنسانى، وجغرافية الزمن المعاصر، وبما يتيح فى القصة، التى تنتمى إلى الزمن الحديث، استدعاء المهمّش فى الأسطورة من هامشيته، فى الظل الغامض، ليكون فى السمت الكاشف الوضاء.
فلا يعود الحلم مجرد غناء راعٍ أعمى فى قرية بعيدة أو جبل قصى من جبال الأساطير، بل غناء كونى، وثورة على القيم التى صاغت الأيقونات الكبرى والأقنعة المتكلمة والأساطير الغابرة، حيث لا يعود البطل بطلًا، ولا النكرة نكرةً، وتكون الحكاية فى قلب القصة بدورها محطةً أو علامةً أو إشارةً بين إشارات وعلامات وخفايا وأقنعة وأصوات أخرى. ومن البديهى أن جماع هذا الشىء العجيب الكاسر لمركزية بطلنا فى أسطورة حلمه، والذى يتجلّى فى صور القصة وأصواتها، إنما يتحول إلى أيقونات جديدة لها معنى جديد، وتمتلك بجاذبيتها الخاصة القدرة على تحدى واقعية الواقع وراهنيته، وعلى كسر عادية الأمور بغرائبيتها، وفجاجته البريئة بطرافتها، وتقليديته الغائية ببلاغتها الحديثة. لم يكن الهدف الذى يسعى إليه مستحيلًا بل هو أشبه بالمعجزة. أراد أن يحلم برجل، أراد أن يحلم به فى اكتمال دقيق ويفرضه على الواقع كذلك. كان هذا المشروع السحرى قد استهلك حيز نفسه بالكامل، فلو أن أحدًا سأله عن اسمه أو عن حياته السابقة لما عرف بأى شىء يجيبه. كان الخراب يناسب المعبد المهجور لأنه كان جزءًا صغيرًا جدًا من العالم المرئى، كما كان يناسبه قرب الحطابين منه لأن هؤلاء كانوا يضطلعون بمئونة احتياجاته القليلة. فقربانهم من الأرز والفاكهة كان غذاء كافيًا لجسده المكرس لمهمة النوم والحلم الوحيدة. فى بادئ الأمر، كانت الأحلام باهتة شائهة مشوشة؛ فيما بعد، صارت ذات سمة جدلية. كان الغريب يحلم بأنه وسط مسرح دائرى كان على نحو ما نفس المعبدالخربان، وبكوكبة من الطلبة الواجمين التعساء أجهدت المدرجات؛ كانت وجوه الأخيرين منهم على مبعدة قرون من الزمان. فكل فرد وفق طرح تودوروف هو شخص متعدّد الثقافات التى هى رواسب متداخلة، فالهوية الفردية تنجم عن التقاء هويات جماعية متعددة داخل الشخص الواحد بالذات. حيث لا توجد ثقافات خالصة وثقافات مختلطة؛ فكل الثقافات مركبة أو هجينة أو مهجنة. ويرجع ذلك إلى التغير الذى يصيب الثقافات بسبب التواصلات الإنسانية وممارسات الأنظمة السياسية والاجتماعية وكذلك العوامل الطبيعية؛ ومن ثم تخضع الهوية الثقافية لتلك التغييرات، وتكتسب صفة التبدل والتعدد. فى ارتفاع النجوم ولكنها حقا هنالك. كان الرجل يملى عليهم دروسًا فى التشريح وفى علم الخرائط الكونية والسحر، وكانت الوجوه تنصت له فى شغف وتجيبه فى فهم كأنها تستكنه أهمية ذلك الامتحان الذى سيخلص واحدًا منهم من ظاهره الزائف ويولجه العالم الحقيقى. وكان الرجل، فى اليقظة والمنام، يقوَّم إجابات أشباحه ولا يلقى بالًا إلى المخاتلين منهم، ويرى فى حيرة بعضهم ذكاءً متناميًا. كان يبحث عن نفس ترقى إلى المشاركة فى الكون. ننطلق، تأسيسًا على أفكار كهذه، لطرح السؤال حول السبيل إلى مواجهة التناقض بين الحركة الموضوعية للحياة المعاصرة، التى تسير نحو الفردية وانتصار الذات الحرة فى السلوك والتفكير من جهة، والقوى النابذة لهذه الحركة من سلط وظلامية. وبعد مرور تسع أو عشر ليالٍ، أدرك فى شيء من المرارة أن لا أمل فى أولئك الطلبة الذين كانوا يقبلون تعاليمه فى سلبية واستسلام، بعكس من كانوا يغامرون أحيانًا بمعارضة فجائية. لم يكن فى وسع الفريق الأول، الجدير بالشفقة والعطف، أن يرقى إلى مرتبة الأفراد؛ وكان الفريق الثانى يقترب من الوجود أفضل قليلًا من الفريق الأول. فى مساء أحد الأيام، عندما كان المساء أيضًا وقتًا للنوم، وبعد أن شُفى من الأرق فيما خلا ساعتين قبل بزوغ الفجر، خرَج بغير رجعة من مدرسة الأوهام العامرة وبقى طالب واحد فقط. كان فتى صموتًا، عابسًا، عاقًا أحيانًا، ملامحه حادة تكرر ملامح من يحلم به. ولم تحيره طويلًا تصفية أقرانه الفجائية، وأثار تقدمه، إثر بعض الدروس الخاصة، إعجاب المعلم؛ فحلّت الفجيعة. إذ عاد الرجل، فى أحد الأيام، من حلمه كمن يخرج من متاهة ملساء ونظر إلى نور لطّخ ثوب المساء الخابى فتخيله ضياء الفجر وأدرك أنه لم يكن يحلم.
فى النهاية عرف أن آخرين يحلمون به أيضًا
طيلة تلك الليلة واليوم التالى، جثمت على صدره وطأة جاثوم البصيرة فى ساعات الأرق. أنهك اقتحام الغابة قواه، فلم يحظ وسط حنقه ومرارته سوى بلحيظات من غفوة لا معنى لها تتخللها رؤى زائلة لها طبيعة بدائية غبية. رأى المدرسة ورأى نفسه ينطق ببعض كلمات وأحرف الهجاء حتى شاه الجمع وانمحى. فى ديمومة سهاده حرّقت دموع الغضب عينيه القديمتين. خطر له أن مسألة تشكيل المادة الهلامية والمثيرة للدوار التى هى قوام الأحلام لَمِن أشد المهام وعورة على إنسان وإن اطلع على جميع أسرار النظام العلوى والسفلي؛ أشد وعورة من نسج حبل من الرمل أو النقش على الهواء. أدرك انه لا طريق إلا الفشل ثم أنه أقسم لأن ينسى الهلوسة الشديدة التى ضللته فى مبتدأ الأمر وبحث عن طريقة عمل أخرى. وقبل أن يمارسها، كرّس من وقته شهرًا لاستعادة قواه التى استنفدها الخبال. هجر كل إصراره على النوم، وفى وقت قصيرنوعًا استطاع النوم جزءًا معقولًا من النهار. فى المرات النادرة التى كان ينعس فيها خلال تلك الفترة لم يلتفت إلى أحلامه. ولكى يواصل العمل انتظر حتى يكتمل البدر. فى المساء، توضأ فى مياه النهر وصلى ثم خلد إلى النوم. وفى الحال، رأى فى نومه قلبًا ينبض. رآه نشطًا، حارًا، ملغزًا، فى حجم قبضة اليد، ذا حمرة قانية فى ظلمة جسد بشرى بلا وجه بعد ولا جنس. رأى نفس الحلم بحب نقى على مدى أربع عشرة ليلة مبصرة حية، وفى كل ليلة كان يراه أكثر وضوحًا. لم يكن يلمسه، بل يقتصر على مشاهدته، على مراقبته، وربما على تصحيحه بالنظر. كان يحسه ويعيشه من أبعاد مختلفة وزوايا متعددة. فى الليلة الرابعة عشرة مس الشريان الرئوى بسبابته ثم كل القلب من الداخل والخارج. أعجبته التجربة. لم يحلم لليلة بمحض إرادته ثم عاد إلى القلب ودعا باسم كوكب وشرع فى رؤية عضو آخر من الأعضاء الرئيسية. قبل عام، وصل إلى الهيكل العظمى وإلى الجفنين. وربما كانت المهمة الأشق هى عد الشعر. رأى غلامًا مكتملًا، لكنه لا ينهض ولا يتكلم ولا يستطيع أن يفتح عينيه. ليلة بعد ليلة، حلم به الرجل نائمًا. وفقًا لنظريات نشأة الكون الغنوصية، تصنع الألهة الخرافية مخلوق لونه أحمر لا يستطيع الوقوف على قدميه، مخلوق أحمق وفظًا. فى مساء أحد الأيام، كاد يحطم عمله ولكنه عاد فندم وقال: ليتنى حطمته. بعد أن لهج بالدعاء لكل آلهة الأرض والنهر، ارتمى على أعتاب التمثال الذى قد يكون لنمر أو لمهر وطلب المجهول. بُعيد الغروب، رأى التمثال فى نومه، رآه حيًا، متحركًا: لم يكن نتاجًا وحشيًا لنمر ومهر فقط بل كان هذين المخلوقين العاتيين معًا وثورًا ووردة وعاصفة كذلك. وكشف له هذا المتعدد أن اسمه الأرضى «النار» وأن فى معبده الدائرى هذا؛ وفى معابد أخرى مناظرة له، كان الناس يعبدونه ويقدمون له القرابين وأنه بفعل السحر سوف يمنح الحياة لشبح الرؤية بحيث تحسبه جميع المخلوقات، فيما عدا إله النار بشرًا من شحم ولحم. وأمره أن يرسله، إلى أطلال معبد آخر مازالت أهرامه منتصبةعلى ضفة النهر، كى يكون هنالك صوت له فى ذلك الطلل القفر. فى منام الرجل نفذ الساحر تلك الأوامر. وكرس فترة دامت فى النهاية عامين، ليكشف له عن أسرار الكون والنار. فى داخله، كان يؤلمه الابتعاد عنه. وبحجة الاحتياج التثقيفى، طفق يطيل ساعات المنام. أحيانًا، كان يؤرقه شعور بأن كل هذا شاهده من قبل.. كانت أيامًا سعيدة. تدريجيًا اعتاد الواقع فى إحدى المرات، أمره بأن يرفع راية فوق قمة جبل بعيد. فى اليوم التالى، كانت الراية تخفق فوق قمة الجبل. قام بتجارب أخرى مشابهة، أكثر جرأة فى كل مرة. أدرك بغصة فى الحلق أن ابنه سيولد الآن. فى تلك الليلة، قبّله لأول مرة وأرسله إلى المعبد الآخر الذى لاحت أطلاله أسفل النهر، على مسافة فراسخ عدة من الدغل والمستنقعات. وحتى لا يكتشف أبدًا أنه كان شبحًا، وحتى يعتقد أبدًا أنه رجل كالآخرين، دفعه إلى نسيان سنى تعلُّمه تمامًا فسلمه السأم. فى ظلمة الغروب والفجر، ركع أمام التمثال الحجرى، أسفل النهر. فى الليل، لم يكن يحلم أو كان يحلم مثلما يفعل كل البشر. كان يتلقى فى شيء من الشحوب أصوات الكون وأشكاله. كان الغرض من حياته قد تم، وعاش الرجل حالة انتشاء بعد وقت يفضل بعض رواة قصته أن يحسبوه بالأعوام. وأخيرًا أيقظه رجلان جاءا فى زورق قرب منتصف الليل. لم يتمكن من رؤية وجهيهما لكنهما حدثاه عن ساحر فى معبد الشمال يمشى على النار فلا يحترق. تذكر الساحر فجأة أن من بين جميع مخلوقات الكون كانت النار وحدها تعلم أن ابنه شبح. وانتهت هذه الذكرى التى منحته السلام النفسى فى بادئ الحكاية بأن نغصت عليه عيشه ومضجعه. خاف أن يكون الرجل انعكاسًا لحلم رجل آخر: أية مهانة بل أى دوار! انتهت أوهامه نهاية مباغتة، لكن بعض العلامات أنذرت بها. رأى غمامة بعيدة عند تل، فى خفة طائر؛ناحية الجنوب، اتشحت السماء باللون الوردى، لون لثة نمر؛ ثم الدخان الذى أصدأ معدن الليالى. دمرت النار أطلال قدس أقداس إله النار. وذات فجر بلا طيور، رأى الساحر الحريق المتصاعد يحاصر الأسوار. جال بخاطره أن يحتمى بالماء، لكنه أدرك أن المنية جاءت لتختم شيخوخته ولتبرئه من عذابه. سار فى اتجاه جدار النار، هذه لم تنشب فى لحمه، وتلك لامسته فى رفق وطوته بلا حرارة وبلا احتراق. فى راحة وفى ضراعة وفى رعب، أدرك أنه هو أيضًا كان شبحًا، أدرك أن آخر كان يراه فى المنام.