ماذا يحدث عندما يتمرد المرء على حياته؟ رغم ما حققه من نجاح، ماذا لو ثار على تفاصيل يومه؟ على أزرار الحاسوب، على الفضاء الأزرق، على هاتفه الجوال، على رسائل الإيميل.. وكل ما يربطه بالحداثة ليبحث عن الحرية فى غابة؟ ليتأمل القمر، ويجعل نوره مقياسًا للزمن .. لليالى والصباحات. .. هذه الأسئلة هاجمت «فريدمان» ذات يوم فانطلق هاربًا ومتمردًا، لنمضى معه فى مغامرته تلك من خلال هذه الرواية «وداعا نيومينسو» للكاتبة فاطمة المرسى، وهذه روايتها الأولى بعد أن أصدرت عدة دواوين من شعر العامية منها: «رباعيات بالبلدى» وحصل على جائزة معرض القاهرة الدولى للكتاب. اختار «فريدمان» أن يهجر زوجته ويرتبط بعلاقة حرة مع «شيلا» شابة عشرينية أعجبت به كطبيب نفسى ناجح، هو من نيويورك، وهى من المكسيك فرحت برغبته فى الترحال، وبالحياة فى الغابة! هو هارب من اكتشاف مؤلم، وهو أنه ليس ابن من ربياه صغيرًا فلقد فر أبوه «مانويل» من أمه سوليداد عندما علم بحملها منه، وأنقذها رجل الأعمال وزوجته وقاما بتربية «إيريك» الذى حصل على اسم مربيه «فريدمان». و«شيلا» هاربة من تاريخ أبيها الذى طرد عاملة أنجبت له طفلة دون زواج.. لم يكن أمام «فريدمان» الابن، و«شيلا» سوى الهروب من قسوة البشر، مانويل الأب الهارب، ووالد «شيلا» الرجل المغتصب الذى ترك امرأة وطفلة لا ذنب لها لتواجه قسوة الأيام، إن هذه الغابة التى نمت فى قلب العالم المتحضر ، وسط عالم المال، والأضواء، والشهرة، الغابة التى شهدت ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، والافتئات على حقوقه، هذه الغابة المدنية دفعت «فريدمان» و«شيلا» للبحث عن عالم جديد، أبيض ناصع لم يتلوث بظلم البشر، فارتحلا إلى غابة حقيقية، وبينهما ترجمان، فلقد ادعت «شيلا» أنها لا تعرف الإنجليزية حتى يتحقق شرط «فريدمان» بأن يصنعا لغة جديدة للتفاهم، لغة الصفاء والبراءة بين الأشجار الضخمة، وتشابك الأغصان تظلل الطير والغزلان وحتى الآساد المفترسة، الطبيعة تساوى بين الجميع كما يقول فريدمان، يقول له الترجمان: «أيها الأرعن، لقد أطحت بكل ماضيك الزاخر بالنجاحات، وتنكرت لعلمك الذى حقق لك وضًعا اجتماعيًا مرموقًا وأتيت إلى أدغال نائية كى تطمس وجودك فى أعماقها المعتمة، وباختيارك تركت خلفك حياة تتمتع فيها بكل ما يحقق لك الراحة والاطمئنان، وبت تُغمض عينيك على القلق، وتقفز من نومك على فحيح أفعى، وبخالص مشيئتك تخليت عن إغاثة مرضاك لتقف هنا عاجزًا أمام توجع طفيف فى رأسك» فيقول له فريدمان: كل ذلك يتضاءل أمام عظمة الحرية. الهجرة إلى الغابة الحوار فى هذه الرواية يكشف دائمًا عن العالم الداخلى للشخصيات، وعن الصراع الدائر بين ما يظهر من الشخصية وما تخفيه، وحيث يمضى الحوار بين فريدمان والترجمان على نحو كاشف ومضيء، فيصارحه الترجمان بحقيقة ما فعله من هجرة للغابة فيقول: -«عن أى حرية تتحدث، أنت تزرع الوهم، وترويه بتجاهلك الواقع، ولن تجنى سوى التلاشى، الوهم الذى تتحدث عنه هو ثمرة تمردك المحرمة. - لقد تمردت من أجل المستضعفين والمقهورين فى العالم. - لا.. بل هربت وجئت لتختبئ وسط أحراش لا تحتاج إلى وجودك. - كُف عن هذا اللغو الأجوف، فما أنت سوى إنسان بدائي، لم يتعامل فى حياته إلا مع الحيوانات». نغم لا ينتهى لقد كان «فريدمان» متمردًا حقًا، رفض حتى اسمه، واختار اسمًا جديدًا هو «إيلاروف»، وعندما أنجب من «شيلا» أحد عشر ولدًا فقد أعطى لكل طفل رقمًا حتى يكبر ويختار اسمه بنفسه. وترسم الكاتبة شخصياتها برهافة فكل من أبناء «فريدمان» يتميز بنوع خاص من التمرد على الظروف التى فرضتها عليهم الحياة فى الغابة.. «تاريم» ذو نزعة شاعرية يتأمل كل ما حوله، وتفيض نفسه بمحبة الطبيعة من حوله لكنه حائر، بداخله طاقة إبداع وعطاء لا يجد لهما متنفسًا، فيقول مخاطبًا الطبيعة من حوله، تائهًا فى أحراش الغابة: «أيتها القوة المتحكمة فى هذا الكون الكبير، لماذا لا تظهرين أمامى الآن لنتحاور؟ هل تعلمين أن اسمى «تاريم»؟ لقد اخترت هذا الاسم الذى لا معنى له سوى أنه «تاريم» فقط، على الرغم من أن المعانى بداخلى لا حصر لها، ورأسى مزدحم بالأفكار والأحلام والأحزان أيضا، هل تعلمين أننى أتحول إلى نغم لا ينتهى، وفى بعض الأحيان أتدفق كشلال شارد، وفى أحيان أخرى أشرق كشمس لا تغيب، وأنير كقمر لا يتناقص، وأورف بظلالى كشجرة لا تحترق». .. أبناء «فريدمان» يكتشفون الحياة من حولهم ، فمنهم من يكتشف الأحجار وأنواعها، ومنهم من يطهو ما يجده من ثمار، وأحدهم شيَّد مطعما فى الغابة، وبين زروع وحصاد ثمر كانت تمضى حياتهم هادئة سعيدة. لكن الأمور قد صارت إلى الأسوأ عندما اضطر «فريدمان» إلى قطع ذراع ابنه ليقيه شر« الغرغرينا» بعدما سقط فى الغابة بشكل قاسٍ أفقده الوعى. ومن هول الصدمة لما أفاق حَمّل والده ذنب فقد ذراعه. أما «آنجل» الطفل الرضيع، فقد ارتفعت درجة حرارة جسده، وفقد حياته، ولم يستطع «فريدمان» إنقاذه، وكانت هذه هى بداية النهاية لحياتهم فى الغابة. لقد تمردت «شيلا» على «فريدمان» وغرست فى أبنائها فكرة الوطن والعودة إلى الجذور، وفى حوار عاصف جديد، يكشف عن تطور شخصية «شيلا» بعد أن أنضجتها الحياة فى الغابة، ولم تعد تلك الشابة العشرينية الحالمة، التواقة إلى المغامرة، وتصوّر «فريدمان» أنها ثورة حزن وستمضى إلى حالها، لكن «شيلا» هددته بأنها ستحمل جثة طفلها وتمضى إلى بلادها، فقال لها: إنها غير قادرة على فعل ذلك، فثارت عليه قائلة: إنها سيدة الغابة الآن، ولم تعد تلك الفتاة المدللة التى كانت تختبئ خلف ذراعيه خوفًا من صفير الريح أو زئير أسد ونبشت قبر ابنها فتقدم منها «فريدمان» وقال لها : «لم أكن أعلم أن غضبك عاصف كالإعصار، لقد بدت حياتنا كحجر صغير بين أصابعك، ترمين به فى أى اتجاه». قارب شيلا لقد بات «فريدمان» مشتتًا بين شراسة الحياة فى غابة موحشة، ووحشية البشر فى مدينة عامرة، ولم يعد يحتمل قسوة الاختيارات بين تعرضهم فى الغابة لاغتيال البدن، وتعرضهم فى المدن لاغتيالات من أنواع كثيرة. وعندما تعرضت الغابة لحرائق هائلة اضطر فريدمان وأسرته للرحيل إلى منطقة أخرى، حيث بحيرة «الطيور المهاجرة» واقترحت «شيلا» عمل قارب من خشب يضمهم جميعا فى البحيرة هربًا من النار فأصر أولادهما على تسمية القارب باسمها «شيلا». وبدأ ابنهما «توجا» فى اكتشافاته الجديدة فى الغابة، وفى تأمل السماء حتى عثرت عليه طائرة حديثة وأنقذته ولم يخبر أحد بغابتهم «نيومينسو» التى كان اسمها نتاج أفكار أبيه وأمه، عندما أطلق على الغابة اسم «كومينسو»، وهى البداية باللغة الإسبانية، وأضاف إليها مقطعًا من اسم نيويورك ليصبح اسم غابتهم «نيومينسو»، لقد تعلق «توجا» بالمجتمع المتحضر الجديد، تعلم اللغات، وركب السيارات، والطائرات، وتعرف على عالم المسرح والسينما، وأحب «جيسكا»، فما كان فى غابته نساء ، مما كان يهدد عائلتهم بالانقراض بعد أن كفت أمه عن الإنجاب. وتضعنا الكاتبة أمام أزمة «فريدمان» الأخلاقية فهو قد اختار لنفسه حياة يراها حياة الحرية، بينما حرم أبناءه حرية الاختيار، فيعاتب كلوديو أباه فيقول له: «حزنى ليس على ما كنا فيه أو ما أصبحنا عليه، ولكن حزنى على «آنجل» فقد حرم من الاختيار الذى مننت به علينا، بينما حرمنا جميعا من كل الاختيارات الأخرى، والمؤسف أن ذلك كان بدعوى البحث عن الحرية . العودة إلى الجذور اضطر «فريدمان» للعودة بأسرته إلى نيويورك بعد إقناع شيلا وإصرارها على العودة لحياتهم الحضرية، وبدأت تقيّم تجربتهم فى الغابة ثائرة فتقول: «فى هذه الغابة نحن أمة زائلة، أمة بلا ماض، ولا مستقبل، فنحن لا نملك قلمًا ولا علمًا ولا فكرًا ولا لغة مكتوبة، وليس لدينا ما نورثه للبشرية بعد أن نندثر، إن حياتنا فى هذه الغابة ما هى إلا امتداد للعدم، ولن تحتل أمتنا حيزًا ولو صغيرًا من ذاكرة الوجودة. أما ابنه كلوديو فهو أكثرهم تعلقا بحياة الغابة فهو يقول لأبيه: رغم ما توفره مدينتك لراحة الإنسان، فإن الحياة فى الغابة كانت مكتملة بما وفرته لنا الطبيعة من احتياجات، لقد منحتنا الهواء والماء والطعام والشمس والقمر والموسيقى والخيال والجمال، كان لدينا كل ما نحتاج إليه من وسائل التسلية واللهو، وكنا نمتلك مغارات نائية لمن يبحث عن العزلة، أو يرغب فى التأمل، والأهم من ذلك أننا كنا نتمتع بالحرية، ألم يكن بحثك عن الحرية وراء تغييرك لحياتك يا أبى. لم تكن الحياة وردية عندما عاد «فريدمان» إلى مدينته بحضارتها فأولاده لا يملكون شهادات ميلاد، وحرموا من التعليم النظامي، ويعتبره الكثيرون قد جنا على أولاده، وحاولت وسائل الإعلام تصويرهم بهيأتهم الغاباوية، فرفض «فريدمان». لقد صارت مغامرته حديث الصحف، ونشرات الأخبار، واستعاد مرضاه فى عيادته الخاصة، ولكنه لم ينج من محاكمة أبنائه، ومن محاكمة المجتمع الذى رآه قد أخطأ فى حق أبنائه وحرمهم من حقهم فى التعليم والرعاية الصحية. وتمضى الكاتبة فى رحلة سردها لترصد ما حدث للأبناء، الذين عاشوا فى غابة ثم انتقلوا بشكل مفاجئ إلى نيويورك، فيتعرض «فريدمان» المغامر الباحث عن الحرية لمحاكمة أبنائه فيقول أحدهم: «كيف أدخل الروضة وأنا فى الرابعة والعشرين من عمرى؟ وكيف سنستمر فى حياتنا الجديدة، وكأن الماضى لم يكن، نحن غاباويون يا أبي، فلماذا تتجاهل هذا الإحساس بداخلنا؟». على حافة كل شيء! ويحاكمه آخر فيشرح له معاناتهم بعد هذه العودة من الغابة للمدينة الحاضرة فيقول له: نحن ضائعون بين حقيقة الماضى، وسراب الحاضر، وربما يكون العكس هو الصحيح، هل تأملت نظرات أبنائك، وهم يجلسون على حافة كل شيء؟ هل لاحظت أنهم يخشون أن تلامس أجسادهم الخشنة وثيابهم الغاباوية محتويات بيتك المبهرة، حاول أن تتأملهم جيدًا فهم لا ينتمون إلى الأرض التى يقفون عليها، ولا يطيقون السقف الواقع فوق رؤوسهم، و لا يشتهون طعامك رغم الجوع. ... لقد عاد «فريدمان» لحياته الأولى كطبيب شهير، وظل أبناؤه على حيرتهم بين الغابة الأولى، والحاضرة التى تملك كل أسباب الراحة والرفاهية، تقول الكاتبة عن «فريدمان»، وكيف وضعته فى مأزق وجودى ليختار بين مصيرين: لقد كان يحلم بتكوين مجتمع غاباوى متحضر فى الغابة، بأخلاقه وليس بما يمتلك من صواريخ فتاكة أو طائرات تسبق الصوت، ولقد كان يرى أن قانون الغابة أكثر عدلا وانضباطا من شرائع الإنسان الذى يتباهى بتميزه العقلى. ... تضعنا هذه الرواية أمام فكرة حرية الاختيار وجالت بنا فى أجواء الطبيعة، كما اصطحبتنا إلى مِدن النور، مصورة حيرة الإنسان المعاصر، وبحثه الدائم عن الحرية، والتحقق، والشعور بالأمان فى ظل عالم حافل بالصراعات والأزمات.